كرامة بني آدم
قال الله تعالى:
ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا يوم ندعوا كل أناس بإمامهم فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرءون كتابهم ولا يظلمون فتيلا ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا
كرم الله بني آدم من وقت أن خلق آدم وأمر الملائكة أن يسجدوا له، ولأن الله خلق شهوة وملكية فإن غلبت ملكيته فهو أفضل من الملائكة وإن غلبت شهوانيته، فهو أحط من البهائم فكان من تكريمه تكليفه، فإن ذلك التكليف علو به من البهيمية إلى الملكية أو إلى خاصة الإنسانية، ومن هذا التكريم أن كان يبعث وينشر؛ لأن هذه ضريبة العقل، ولا يكون الحساب والعقاب إلا للعقلاء المختارين الذين يميزون بين الخبيث والطيب، وإن العلاقة بين هذه الآيات وما سبقها من آيات أن الآيات السابقة كانت تتعرض لاعتراض إبليس على تكريم الله تعالى لآدم دونه، ثم ذكرت فضل الله ونعمه وكفر المشركين بهذه النعم، وعدم شكرها.
وفي هذه الآية يذكر تكريمه للإنسان في هذه الدنيا كما كرم أباه منذ النشأة الأولى.
[ ص: 4426 ] قال تعالى:
ولقد كرمنا بني آدم التكريم يتناول التكريم الأول بأمر الملائكة بالسجود لآدم، فإن ذلك تكريم للخلق الإنساني منذ الابتداء، وليس معناه أن كل إنسان أكرم عند الله من الملائكة، بل معناه أن آدم ذاته قبل أن يعصي كان مستحقا للكرامة فوق الملائكة، ولكنه بعد ذلك عصى آدم ربه فغوى، وهذا يشير إلى أن آدم يستحق الكرامة التي كرمه بها إلا إذا عصى.
وإن تكريم الله للإنسان ابتداء كما رأيت منذ النشأة الأولى، ثم كان من تكريمه أن خلقه في أحسن تقويم، ثم كان من تكريمه أن أعطاه سبحانه وتعالى العقل المميز، ثم كان من تكريمه أن جعل له إرادة يختار بها الخير والشر؛ فيعلو عن الملائكة إن اختار الخير، وذلل كل الصعوبات التي تعترض طريقه، ثم كان من تكريمه أن سخر له السماوات والأرض والنجوم وصار كل من في الوجود له، كما قال تعالى: هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا
وذكر الله تعالى من تكريمه أنه تمكن من الأرض يحمل فيها بالركائب التي سخرها له من بغال وحمير وخيل مسوقة وغير مسوقة وجمال له فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون، وكان حمله في البحر بالفلك المشحون كما ذكر سبحانه في آيات أخرى.
وإن الحمل في البر يدخل فيه الحمل في الجو بالطائرة التي تسبح في الهواء كما يجري الفلك في الماء، كما قال تعالى: ويخلق ما لا تعلمون وقوله تعالى: وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا وإن كل المخلوقات التي لم تؤت مثل ما أوتي ابن آدم من عقل مدبر وإرادة للخير والشر وابتلاء بالخير والشر، كما قال تعالى: ونبلوكم بالشر والخير فتنة كل هؤلاء فضل الإنسان عليهم بالفعل والتمييز والإرادة لما يفعل وتحمل التبعة.
وقوله تعالى: ممن خلقنا (من) بمعنى بعض وهم كثرة، فالإنسان من بين ما خلق قليل محدود، وغيره كثير غير محدود، وإن هذه الكرامة يستحقها [ ص: 4427 ] الإنسان بوصف كونه إنسانا لا لأنه عربي أو أعجمي أو أبيض أو أسود أو متخلف أو متعلم، فهي حق كل إنسان، وإن البعث والنشور والحساب والعقاب والثواب من أسباب تكريم الإنسان؛ لأنه يكون مسؤولا عما يفعل، والمسؤولية تكريم للإنسان لأن غير المسؤول همل، والمسؤول من له كرامة وأدته إلى الجحيم، ولذا قال تعالى: