بعد ذلك بين الله مقام القرآن وأنه بعد أن بين أن الآيات الحسية لا تجدي مع الضلال.
قال الله تعالى:
وبالحق أنـزلناه وبالحق نـزل وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونـزلناه تنـزيلا قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا
[ ص: 4473 ] بعد أن بين الله تعالى أن المعجزة الحسية لم تجد مع من سبقوهم، وضرب مثلا بفرعون وكيف زادته الحجة الحسية التي كثر عددها حتى صارت تسعا لما تزده إلا إعناتا واستمرارا في غيه، وهم يقلدون فرعون في طغيانه، فاتخذوه أسوة لهم في كفره بالآيات التسع، وليقصدوا القرآن، فهو حجة الله تعالى الخالدة إلى يوم القيامة، ولذا قال تعالى:
وبالحق أنـزلناه وبالحق نـزل وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا
أي بالحق وحده نزل، وأفاد القصر، هو تقديم الجار والجرور على الفعل أنزلناه، أي أنزلناه من عندنا بالحق حكمة ثابتة أردناها، فإن كل معجزة تكون مناسبة لرسالة الرسول، ولما كانت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم للناس أجمعين، وهو خاتم النبيين فناسب أن تكون معجزة ليست حادثة تقع، ثم تنقضي بانقضاء زمانها، بل تبقى خالدة باقية تتحدى الأجيال إلى يوم الدين، فالله تعالى هو الذي اختار بحكمته لنبيه هذه المعجزة، وهذا كقوله تعالى: لكن الله يشهد بما أنـزل إليك أنـزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا وبالحق نـزل يفيد الاختصاص، أي نزل مشتملا على الحق لا بعضه، فقد اختاره الله معجزة لمحمد صلى الله عليه وسلم بالحق، وللحكمة العالية التي قدرها رب العالمين، وهو وحده الذي يشتمل على الحق من بين الكتب السماوية، فهو مهيمن عليها يبقي منها من يستحق البقاء، وينهي ما يبقى من أحكام نسخها، كالتي كانت فرضت على بني إسرائيل تهذيبا لنفوسهم، وفطما لشهواتهم.
وإذا كانت معجزة القرآن هي التي اختارها سبحانه لك، فما عليك إذا لم يؤمنوا بها، وما عليك إذا لم يهتدوا إذا قام الدليل، وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا، أي مبشرا للمؤمنين الذين آمنوا بالحق واهتدوا، ومنذرا للذين كفروا وأصموا آذانهم عن الحق، وعميت أبصارهم عن رؤيته، وضلت أفئدتهم سواء السبيل.
[ ص: 4474 ] وإن هذا الكتاب الحكيم الذي هو معجزة النبي صلى الله عليه وسلم نزل مقروءا ليبقى إلى يوم القيامة حجة خالدة، ويحفظ في الأجيال بحفظ الله تعالى كما قال: إنا نحن نـزلنا الذكر وإنا له لحافظون