ولقد بين سبحانه وقت تنفيذ عقوبته المؤكدة، وهو يوم القيامة، فقال:
يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ويحذركم الله نفسه والله رءوف بالعباد
المعنى الجملي للنص الكريم: خافوا الله واحذروه، واخشوا حسابه وعقابه، وارجوا ثوابه يوم تجد كل نفس ما عملت من خير ظاهرا ثابتا واضحا، كأنه قد أحضر من الدنيا إلى الآخرة فيرى رأي العين، وما عملت من شر معلوما كذلك كأنه رئي بالحس والبصر، وتود كل نفس أن لو يتأخر أمدا طويلا بعيدا؛ وذلك لأن ما يخافه الإنسان يتمنى أن يتأخر ويؤجل؛ ليكون عنده أطول فسحة من الأمان. وهنا عدة مباحث لفظية تجلي المعنى:
المبحث اللغوي الأول - متعلق " يوم تجد " : لقد ذكر العلماء ثلاثة توجيهات؛ أولها ذكره أنه متعلق بـ " تود " والمعنى: تود كل نفس لو [ ص: 1182 ] أن بينها وبينه أمدا بعيدا أي: زمنا طويلا وقت أن تجد كل ما عملت محضرا من خير أو سوء. الزمخشري
وهذا يؤدي إلى أن من عملت خيرا تود أمدا بعيدا، مع من عملت سوءا، مع أن رجاء الثواب يسوغ تمني المسارعة لا تمني التأجيل؛ ولهذا لا نوافق عليه.
والوجه الثاني: أنه متعلق بقوله تعالى: ويحذركم الله نفسه بدليل قوله تعالى مكررا التحذير، فقال: ويحذركم الله نفسه مرة أخرى، ولكن يرد على هذا بعد القول، ومجيء جملة مستقلة بينهما، واختلاف القائل؛ فالأول من قول الله تعالى والتحذير من الله، والثاني من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - بأمر الله ولكن قد يرد هذا الاعتراض بأن قوله تعالى: قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه معترضة بين كلامين متلازمين للمسارعة بإثبات شمول علم الله تعالى وقدرته.
التوجيه الثالث: أنه متعلق بمحذوف تقديره: اذكروا، وهذا أسلمها في نظري.
المبحث اللغوي الثاني - قوله تعالى: وما عملت من سوء أهي معطوفة على ما عملت من خير أم " ما " مبتدأ خبره " تود " ؛ أظهر الأقوال أنها مبتدأ وجملة " تود " خبر، والمعنى: ما عملت: ما عملت من خير تجده محضرا، وما عملت من سوء تتمنى كل نفس أن يكون بينها وبينه أمد بعيد.
المبحث الثالث - الأمد اسم للزمان كالأبد يتقاربان، لكن الأبد كما قال الأصفهاني مدة من الزمان ليس لها حد محدود، ولا يتقيد، فلا يقال: أبد كذا؛ أما الأمد فمدة لها حد مجهول، إذا لم يضف إلى غاية معينة، فإن أضيف كان محدودا بهذه الغاية. والمعنى أن النفس التي تجد عملها السيئ محضرا تود لو يتأخر أمدا بعيدا، ولكن لا تحقيق لهذا التمني.
ولقد كرر الله سبحانه التحذير من نفسه تذكيرا، وليكون في بال المؤمن دائما، ولبيان أن ذلك التحذير من دواعي الرحمة كما هو من تربية الرهبة، فهو [ ص: 1183 ] قد ذكر تمهيدا لقوله تعالى: والله رءوف بالعباد فتذكير العباد وتحذيرهم من رحمته بهم حتى لا يؤخذوا أخذ عزيز مقتدر، وختمت الآية بهذا التذييل الكريم؛ لإثبات أن ولإثبات أن عقاب المسيء وثواب المحسن من الرحمة، فليس من الرحمة في شيء أن يتساوى المحسن والمسيء، حتى لا يعم الظلم وينتشر الفساد. اللهم وحد الولاية الإسلامية، واجعل المسلمين جميعا بعضهم أولياء بعض. ولاء المؤمنين ومعاداة الكافرين من الرحمة بالعباد،