وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون ثم توليتم من بعد ذلك فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين
* * *
عاد القول إلى بني إسرائيل بعد أن ذكر اليهود والنصارى والصابئين ، لبيان أنه لا يصح أن ييئسوا من رحمة الله تعالى بعد ما كان منهم في ماضيهم ، وما يكون منهم في حاضرهم إن آمنوا بالله حق إيمانه ، وبالآخرة إيمان إذعان ورجاء إن أطاعوا ، وخوف العقاب إن عصوا .
بين الله تعالى حال اليهود في ماضيهم ويتحمله الذين حضروا النبي - صلى الله عليه وسلم - ، لأنهم أقروهم عليه فكان الخطاب بما حصل من أسلافهم موجها أيضا لأخلافهم . قال تعالى : وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه .
الطور هو الجبل الذي هو في سيناء ، فهو جبل معين ذكره الله تعالى في عدة آيات ، وهو منسوب إلى سيناء كما قال تعالى : والتين والزيتون وطور سينين وهذا البلد الأمين
أخذ الله ميثاق بني إسرائيل ، والميثاق مفعال من الوثوق أي : وثقنا القول والأوامر التي أمر الله بها ونهى فيها ، وبين لهم عظمة قدرته وقوة عظمته ، وترهيبا لأمره بعد ترغيبهم فيه ، وفي هذا الرفع آية حسية تدل على رسالة موسى عليه السلام ، وأنه يتلقى أوامره من ربه ، إذ كانوا قد طلبوا رؤية ربهم فخروا صعقين ، فهذا ربهم يخاطبهم بآية ، ورفع الجبل هذا هو ما قاله الله تعالى في سورة الأعراف : وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم
[ ص: 258 ] ولقد ذكر سبحانه وتعالى مضمون الميثاق إجمالا ، فقال خذوا ما آتيناكم بقوة ، أي بجد وإتقان ، وتعرف ، وعناية ، واذكروا ما فيه ، أي اجعلوه في ذاكرتكم دائما لا تغفلون عنه ، ولا تهملونه ، واجعلوه حاضرا دائما في قلوبكم لتعملوا به ، ويكون في وعيكم دائما ، ولقد ذكر بعض ما في هذا الميثاق بالتفصيل فقال تعالى : وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسنا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون .
هذا هو بعض التفصيل لهذا الميثاق المحكم الذي واثقه الله عليهم مؤكدا ذلك التوثيق برفع الجبل فوقهم كأنه ظلة يظلهم ، وطالبهم بأن يأخذوا ما آتاهم الله تعالى من تكليفات ذكرنا بعضها ، بقوة ، أي بيقين وجزم وتصديق وإذعان ، وأن يقرن ذلك بالعمل ، فلا تأخذونه بيد ، وتردونه باليد الأخرى ، واذكروا ما فيه ، أي اجعلوه دائما في وعيكم وذاكرتكم وقلوبكم ، ولا تنسوه .
وإن ذكر الشريعة وأحكامها هو أساس تنفيذها ، وإن المسلمين اليوم قد عراهم ما أصاب في ماضيهم ، يحفظون القرآن ولا يعونه ، ويرددون حروفه ، ولا يتدبرونه ، ولقد روى في موطئه عن مالك أنه قال : (سيأتي على الناس - زمان قليل فقهاؤه ، كثير قراؤه ، تحفظ فيه حروف القرآن ، وتضيع حدوده ، كثير من يسأل ، قليل من يعطي يطيلون فيه الخطبة ، ويقصرون الصلاة يبدون فيه أهواءهم قبل أعمالهم ) . أي يتبعون أهواءهم ويتركون ما افترض عليهم . ابن مسعود
كانت هذه الأوامر التي واثقهم الله تعالى عليها ، وأمرهم أن يذكروها دائما لأجل أن يتقوا الله تعالى أي يجعلونها وقاية لهم من ذنوبهم ، أو رجاء أن تمتلئ [ ص: 259 ] بتقوى الله تعالى قلوبهم ، وتغلب عليهم مخافة ربهم فلا يعصوه ، ويبادروا إلى طاعته ، ولذلك قال تعالى : (لعلكم تتقون ) أي ترجون التقوى والخوف منه .
ولكن كان هذا الميثاق الذي وثقه تعالى بأمر حسي ، لأنهم لا يعتبرون إلا بالمحسوسات مؤديا إلى أن يتقوه سبحانه بل إنهم تلقوا أمرا موثقا ذلك التوثيق ، مؤكدا ذلك التوكيد ، ولكنهم كعادتهم في استهانتهم بأمر الله ونهيه نسوه وتولوا عنه معرضين ; ولذلك قال تعالى : ثم توليتم من بعد ذلك التولي هو الإعراض ، وأصله الإدبار ، وأن يجعل جسمه موليا وجه من يطالبه بقول أو عمل ، والمعنى أنهم أعرضوا إعراضا شديدا واضحا ، كمن يعرض عن القول بتولية جسمه ، واتجاهه في اتجاه غير اتجاه من يواجهه بالقول ، ومعنى ذلك أنهم جعلوا الله وميثاقه وراءهم ، ودبر آذانهم . والتعبير هنا بـ " ثم " التي تدل على التراخي للإشارة إلى البعد عن الميثاق وموجبه ، وعملهم المناقض لأمر الله تعالى ، والإشارة فيها بالبعيد في قوله تعالى : ثم توليتم من بعد ذلك لبيان بعد عملهم ، عن الميثاق الذي أمرهم سبحانه وتعالى أن يأخذوه بقوة ، وأن يذكروه دائما وأن يكون في وعيهم في كل أحوالهم .
وإن ذلك التولي كان بالإعراض عما جاء في التوراة أو الألواح العشرة التي أخذوها بقوة ، وطولبوا بذكرها دائما ليمكنهم أن يعملوا بها ، وقد قال القفال الشاسي بعض ما تولوا به عن التوراة فقال : وإنهم بعد قبول التوراة ، ورفع الطور تولوا عن التوراة بأمور كثيرة فحرفوا كلمها عن مواضعه ، وتركوا العمل بها ، وقتلوا الأنبياء ، بعد أن كفروا بهم ، وعصوا أمرهم ، ومنه ما عمله أوائلهم ، ومنه ما فعله متأخروهم ، ولم يزالوا في التيه مع مشاهدتهم لأعاجيب البلاء يخالفون موسى ويعترضون عليه ، ويلقونه بكل أذى ، ويجاهرون بالمعاصي في معسكرهم ذلك ، حتى لقد خسف ببعضهم وأحرقت النار بعضهم ، وعوقبوا بالطاعون ، ثم نقل متأخروهم ما لا خفاء فيه ، حتى عوقبوا بتخريب بيت المقدس ، وكفروا بالمسيح وهموا بقتله .
[ ص: 260 ] هذه كلمات صورت توليهم عن الحق ، واستدباره في عامة أمورهم ، وكان منهم في عهد موسى وهو يكلمهم عن الله ، ويتولى تربيتهم وبث روح الإيمان في قلوبهم التي قست وكانوا صورة واضحة للناس الذين تغلب عليهم شقوتهم .
ولقد قال تعالى : فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين الفاء فاء الإفصاح التي تفصح عن شرط مقدر أي إذا كان ذلك كله منكم بعد ذلك التوثيق لأمر الله تعالى ونهيه ، وأمركم أن تأخذوه فإنه كان ينزل بكم الخسران المبين والعذاب المهين ، ولكن لولا فضل الله عليكم ورحمته . . و " لولا " هنا هي التي يقال فيها أنها حرف امتناع وجود أي حرف امتناع الجواب لوجود الشرط . والمعنى أنكم كنتم تستحقون بذلك عذاب الهون ، ولولا فضل الله أي إرادته أن يزيد خيره عليكم تمكينا لكم من فعل الخير بإمهالكم لكنتم من الخاسرين ، ولقد قال الراغب في تفسيره : الخاسر المطلق هو الذي خسر أعظم ما يقتنى ، وهو نعيم الأبد .
فالخاسرون : هم الذين خسروا أنفسهم ، بأن أوقعوها في الهلكة والعذاب .
وإن النص القرآني يفيد أن الله بفضله ورحمته أعطاهم مهلة ليتداركوا أمرهم ، ولم يكتبهم من الخاسرين .
* * *