يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شيء عليم
* * * [ ص: 1996 ] ابتدأت سورة النساء ببيان أحكام للأسرة، وختمت كما بدأت ببيان أحكام للأسرة، بدئت ببيان أحكام الزواج، وإباحة تعالى لعباده ثم فصل القول في المواريث ثم فصل القول فيمن يصح الزواج منهن، ثم كان من بعد ذلك الكلام في علاقات آحاد الأمة، ثم في علاقات الناس بعضهم على بعض، وكأنما كان الانتقال من الأسرة التي هي النواة الأولى للبناء الاجتماعي إلى المجتمع الصغير في حقوق الجوار وما يتصل به، ثم إلى المجتمع الكبير في الأمة وعلاج الآفات الاجتماعية فيه، وعلى رأسها النفاق والمنافقون. تعدد الزوجات في الحدود التي رسمها الله
ثم انتقلت إلى علاج العلاقات الإنسانية العامة، وضرورة الحرب إن اعتدت الرذيلة على الفضيلة; لأن وتكلمت عن فساد الأمم والجماعات، وسببه التعصب للباطل، وسيطرة الأوهام والغلو في الأحكام مبينة قصة الذين اجترءوا على الحق وأصله وأهله من اليهود، والذين غلوا غلوا خرج بهم عن كل معقول ومقبول، وهم النصارى الذين غلوا في دينهم، ورفعوا فضيلة الإسلام إيجابية عاملة لا سلبية خاملة، المسيح إلى مرتبة الألوهية، وزعمهم أنه ابن الله.
يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة وكان ختام السورة ببعض أحكام الميراث تذكيرا بأمرين:
أولهما: أن الأسرة هي الخلية الأولى التي يتربى فيها النزع الاجتماعي بكل ضروبه، وكل شعبه وأنه لا يوجد مجتمع صالح إلا بأسر صالحة، وفساد الأسرة فيه فساد المجتمع.
ثانيهما: أن وأن أحكام الأسرة مستمدة من الله تعالى من غير توسط أحد كبيرا كان أو صغيرا، ولذا ختمت السورة بأن بيان الله تعالى لمنع الضلال، كما سنتلو من الآية الكريمة إن شاء الله تعالى. مخالفة أحكام الله تعالى ضلال ليس بعده ضلال،
يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة رويت روايات كثيرة في الاستفتاء الذي وقع من الصحابة، رضي الله عنهم، ويظهر أن السؤال في ميراث الإخوة [ ص: 1997 ] والأخوات قد كثر، ولذلك تعددت الروايات، وتعدد أشخاص المستفتين. وأوضح الروايات ما رواه البخاري وأصحاب السنن الأربعة ومسلم وأحمد قال: "دخل علي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأنا مريض لا أعقل، فتوضأ ثم صب علي، فقلت: إنه لا يرثني إلا كلالة فنزلت آية الفرائض" جابر بن عبد الله وقد فصل القول عن النسائي في سننهما فقد ذكرا والبيهقي قال اشتكيت فدخل النبي -صلى الله عليه وسلم- علي فقلت: يا رسول الله أوصي لأخواتي بالثلث؟ قال: "أحسن". قلت: بالشطر؟ قال: "أحسن". ثم خرج ودخل علي فقال: "لا أراك تموت في مرضك هذا، إن الله أنزل وبين ما لأخواتك، وهو الثلثان"، فكان جابر يقول: "نزلت هذه الآية: جابر يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة في". وتسمى هذه الآية آية الصيف; لأنها نزلت في الصيف، وسماها النبي -صلى الله عليه وسلم- آية الصيف، ولقد عن رضي الله عنه: "إني والله لا أدع شيئا أهم إلي من أمر الكلالة، وقد سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فما أغلظ لي في شيء ما أغلظ لي فيها، حتى طعن بأصبعه في جنبي أو في صدري، ثم قال: "يا عمر ، ألا تكفيك آية الصيف التي أنزلت في آخر سورة النساء". عمر قال
والاستفتاء طلب الفتيا، أو الإفتاء، والإفتاء الإجابة السريعة التي تكون جديدة بالنسبة للسائل الطالب لها، وأصل الفتيا من الفتاء والفتى والفتاة الطري الشباب المقبل على الجديد فيها، وأطلق على العبد فتى، وعلى الأمة فتاة لسرعة استجابتها لحاجة مولاها.
والكلالة كما جاء في مفردات الراغب الأصفهاني وغيره من المعاجم وكتب التفسير والفقه اسم لما عدا الولد والوالد من الورثة. . وروي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سئل [ ص: 1998 ] عنها فقال: "من مات وليس له ولد ولا والد" فجعلها عليه الصلاة والسلام اسما للمتوفى الذي يرثه غير ولده ووالده، وهي تطلق بهذا المعنى، وتطلق على الوارث غير الوالد والولد، وقد ورد اسم في الميراث مرتين في سورة النساء، أولاهما: في آيات المواريث، وهي قوله تعالى: الكلالة وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث [النساء].
وقد فسر النبي -صلى الله عليه وسلم- الكلالة هنالك بأولاد الأم، وانعقد الإجماع على ذلك، وأما الكلالة هنا ففسرت بأولاد الأب الأشقاء أو لأب أي العصبات وانعقد الإجماع على أن الميراث يكون للأشقاء، فإن لم يكن أشقاء فإنه يكون للإخوة لأب، على ذلك انعقد إجماع المسلمين ترجيحا لقوة قرابة الأبوين على الأب الواحد.
وقد بين الله من العصبة بقوله تعالى: ميراث الكلالة
إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد الأخت هنا هي الأخت الشقيقة أو الأخت لأب، فإنها ترث النصف إذا لم يكن للمتوفى ولد، والولد يشمل الذكر والأنثى، فالأخت الشقيقة أو لأب لا تأخذ النصف إذا كان ثمة ولد ذكر أو أنثى، وكذلك الأخت لأب، وإن كانوا عند عدم وجود الولد الذكر أو الأنثى إخوة ذكورا وإناثا، فإن الميراث يقسم بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين وإن كانت عدة من الأخوات الشقيقات أو لأب إذا لم يكن أشقاء فإنهن يأخذن الثلثين، لقوله تعالى: [ ص: 1999 ] فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين قد أشرنا إلى تقسيم الميراث إذا كان مع الأخوات الشقيقات أو لأب إذا لم يكن أشقاء أخ شقيق أو لأب، وأما إذا تعددت الأخوات من غير أخ يكن عصبة ويقاسمهن للذكر مثل حظ الأنثيين، فإنهن يأخذن الثلثين، لا يزدن عليه مهما يكن عددهن.
وقد يقال إن النص الكريم جاء في حال ما إذا كانتا اثنتين، ولم يبين حال الأكثر من ثنتين، ونقول إن ذلك فهم من دلالة النص أو قياس الأولى في ميراث البنتين، فإنه جاء النص في في قوله تعالى: ميراث البنتين يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف [النساء].
فذكر في هذا النص السامي أنهن إن كن فوق اثنتين يأخذن الثلثين، وهن أقرب إلى المتوفى من الأخوات فبالأولى الأخوات إذا كن أكثر من اثنتين لا يأخذن أكثر من الثلثين; لأنهن لسن أقوى قرابة من البنات، فحذف من هنا ما بان بالمفهوم من الآيات الأولى، وكذلك حذف من الآية الأولى ما يفهم بدلالة النص من هذه الآية، فإن آية البنات قد نص فيها على ميراث الأكثر من ثلثين ولم ينص فيها على ميراث الثنتين; وذلك لأنه إذا كان الأخوات اثنتين أخذن الثلثين، فبالأولى البنات لأنهن أقرب من الأخوات نزلت في آية الأخوات ما يفهم من آية البنات، وترك من آية البنات ما يفهم من آية الأخوات وذلك من الإعجاز.
وقد بين النص القرآني حال ولم يبين حال ما إذا كان ثمة ولد، فبقي على الأصل وهو لا يستحق شيئا في حال ما إذا كان الولد ذكرا; لأنه لم يرد أثر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- يورث الإخوة أو الأخوات عند وجود الولد الذكر، وفوق ذلك فإن [ ص: 2000 ] الولد الذكر يكون عصبة بنفسه، وهو أقرب رجل ذكر، فيكون مقدما على غيره بمقتضى النص النبوي، أما إذا كان الولد أنثى، فقد ورد الأثر ميراث الإخوة والأخوات الشقيقات أو لأب إذا لم يكن لهن ولد ذكرا كان أو أنثى، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنه ورث البنتين الثلثين وأعطى الأخ الباقي، وروى أنه أفتى في مسألة كان فيها بنت وبنت ابن، وأخت فأعطى البنت النصف وبنت الابن السدس تكملة للثلثين، وأعطى الأخت الباقي تعصيبا، وذكر أن ذلك قضاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكان ابن مسعود قد رد على البنت وبنت الابن، فلما ذكر أبو موسى الأشعري له عدل عن رأيه، وقال: لا تسألوني وهذا الحبر بينكم، ابن مسعود وروي أن -رضي الله عنهما- يرى أن تعطى البنت وبنت الابن نصيبهما، ثم يرد الباقي عليهما بنسبة نصيبهما. ابن عباس
والشيعة لا يورثون الإخوة والأخوات مطلقا عند وجود الأولاد ذكورا كانوا أو إناثا، لعموم النص القرآني الذي يثبت أن ميراث الإخوة والأخوات هو بمقتضى الكلالة، والكلالة تقضي ألا يكون هناك والد ولا ولد، فإذا كان هناك ولد كانت الحال كما لو كان هناك والد، والإخوة والأخوات لا يرثون عند وجود الوالد، فكذلك لا يرثون مطلقا عند وجود الولد. ولم يصح عندهم حديث ، وإذا فرض وكان رواته ثقات فإنهم لا يعارضون النص القرآني الذي اشترط ألا يكون ولد، واشترط ثانيا أن يكون ميراث الإخوة والأخوات ميراث كلالة، ولا يرثون إذا كان ثمة ولد. [ ص: 2001 ] ويفترق الشيعة الاثنا عشرية عن جمهور الفقهاء بالنسبة لميراث الإخوة والأخوات في أصلين يتفرع عنهما الكثير من المسائل؛ الأصل الأول: أن ابن مسعود كما ينفرد الابن بذلك، ولا تستحق الأخوات والإخوة شيئا، وكذلك لا يستحق بنات الابن شيئا، سيرا على قاعدتهم من أن البنت كالابن تستحق الميراث كله إذا انفردت، تأخذ النصف فرضا، والباقي ردا، وتحجب أولاد الأب فروض، فإنها تأخذ الباقي ردا. البنت حيث وجدت ولو منفردة عن الابن استحقت الميراث كله إن لم يكن زوج ولا أم ولا أب
الأصل الثاني: أن بل تأخذ النصف فرضا، والباقي ردا، وتحجب أولاد الأب، والجمهور على أن الأخت الشقيقة تأخذ النصف فرضا، والأخت لأب تأخذ السدس تكملة للثلثين إذا لم يكن أخ شقيق أو لأب، وإذا كانت أخت شقيقة أو أخوات، وليس معهن أخ شقيق، وكان هناك أخ لأب، فإن الباقي يكون للأخ لأب هو وأخته التي لأب للذكر مثل حظ الأنثيين وإذا كان أخ شقيق يحجب الإخوة والأخوات لأب. الأخت الشقيقة إذا استحقت النصف، فإن الأخت لأب، والأخ لأب لا يستحقان معا شيئا.
هذا ما اقتضى التفسير أن نذكره، وهناك فروع كثيرة تركناها لكتب الفقه في السنة والشيعة.
يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شيء عليم هذا النص الكريم يبين أن الله سبحانه وتعالى هو الذي تولى شرح بيان أحكام الميراث، وحسب الميراث فضلا أن يكون تأكيده وتوثيقه ببيان الله تعالى.
وقد ذكر النص الكريم لماذا تولى القرآن الكريم بيانه فقال سبحانه "أن تضلوا" أي خشية أن تذهبوا إلى طرق ضالة بأمور ثلاثة: إما بإهمال الميراث جملة بألا تعطوا أحدا من الورثة شيئا، كما حاول أن يفعل الشيوعيون فأضعفوا الأسرة، وأضعفوا النشاط الإنساني، والإقبال الاختياري على العمل، وتركوا ذرية ضعافا لا يجدون ما يقيم أودهم، وإذا كانت الدولة ترعاهم في بعض الأحيان، فعلى نقص بين واضح.
وإما يجعل الحرية للمورث يوصي بماله لمن يشاء من غير قيد، وفي ذلك ضلال أي ضلال، إذ يترك ورثته ضياعا، ويعطي المال غيرهم. [ ص: 2002 ] وإما بحرمان من يشاء وإعطاء من يشاء، وفي ذلك إثارة للبغضاء والعداوة وقد قرر العلماء في كل بقاع العالم أن أعدل نظام للميرات هو نظام القرآن الكريم، ولكن وجد من بيننا من يحاربه، بل وجد من يزعمون أنهم مفسرون للقرآن من يدعي نسخه، وصدق رسول الله تعالى إذ يقول: "إن الفرائض أول علم ينسى" وقد ذيل الله تعالى الآية بقوله: والله بكل شيء عليم وفي هذا إشارة إلى أن شرعه أحكم شرع، لأنه شرع من يعلم كل شيء، من يعلم الماضي والقابل، والعدل على أتم وجوهه، والمصلحة المستقرة الثابتة التي لا تعبث بها الأهواء ثم هو عليم بمن يخالفه ويعصيه، ومن يطيعه ويرضى حكمه.
وتجب الإشارة هنا إلى أمر بياني يقتضي تمام التفسير ذكره هو أن الله تعالى يقول يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة وهنا لم يبين في السؤال موضع الاستفتاء، ولكن الإجابة بينته فاستبان، ويلاحظ أنهم سألوا النبي -صلى الله عليه وسلم- ولكن الله تولى الإجابة هو، فقال قل الله يفتيكم ونجد في مثل هذا المقام يقول الله تعالى: ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير [البقرة].
ولم يسند الأمر إلى ذاته العلية كما أسنده هنا فما السر؟ السر في ذلك هو تأكيد أن شرع الميراث منسوب للذات العلية، وهو الذي يتولى الشرح، وإذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتولى الشرح عنه في كثير، فهنا قد تولى هو توثيقا للحكم وتأكيدا له وتربية للمهابة. ويلاحظ أن أحكام الميراث كلها أسندها العلي الحكيم، العليم الخبير لنفسه، فابتدأ آياتها في أول السورة بقوله تعالى يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين [النساء]، وختمها بأن الميراث كله وصية الله تعالى، فقال تعالت كلماته: وصية من الله والله عليم حليم تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين [النساء].
* * *