وقالوا لولا أنـزل عليه ملك ولو أنـزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون
لولا هنا للتخصيص، أي: أنها في ظاهرها لحضهم النبي -صلى الله عليه وسلم- على طلب الملك، وجاء بالبناء للمجهول; ليكون الطلب لمن أرسل الرسول، وأنهم يعلقون الإجابة على إنزال الملك، والحقيقة أنهم يتعنتون، والنص القرآني يفيد أنه وجد منهم من طلب ذلك فعلا، وأسند القول إلى المشركين; لأن التعنت في الصورة الشاملة لهم فما يصدر عن بعضهم تعنتا، إنما يصدر في المعنى عن جمعهم; لأن الباعث واحد.
ويروي فيقول: (دعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قومه إلى الإسلام وكلمهم فأبلغ إليهم فقال محمد بن إسحاق زمعة بن الأسود بن المطلب، والنضر بن الحارث بن كلدة، وعبد بن عبد يغوث، وأبي بن خلف بن وهب، والعاص بن وائل بن هشام: لو جعل معك يا محمد ملك يحدث عنك الناس; ويرى معك).
[ ص: 2443 ] فما طلبوا أن ينزل عليه ملك لا يرونه؛ لأنه كان ينزل عليه جبريل الأمين على قلبه ليكون من المنذرين; إنما كان مطلبهم أن يكون مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ويخاطبهم بالشهادة له بالتأييد والنصرة فيما يدعو إليه.
وقد رد عليهم خالق الكون بردين يبينان سذاجة تفكيرهم - أولا: وعنتهم ومعاندتهم للحق -ثانيا.
الأول: يقول الله تعالى: ولو أنـزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون والمعنى القريب إلينا، أننا نحن الله العلي القدير القاهر فوق عباده لو أنزلنا ملكا لقضي الأمر؛ أي: لانتهى أمر الدعوة، وألزمتهم نتيجتها في الدنيا، ولعوقبوا على تكذيبهم عاجلا، ولا يكون العقاب آجلا في الآخرة، بل يكون في هذه الحياة وترون أثر تكذيبهم، ولا (تنظرون) أي: لا تمهلون إلى اليوم الآخر، ولا ينطبق عليكم قول الله تعالى: قال أنظرني إلى يوم يبعثون فقضاء الأمر إنهاء أمر الدعوة بالهلاك، ولكن دعوة محمد جهاد مستمر، لا ينتهي أمرها بإهلاك المعاندين، كما تحققت دعوة نوح في قومه: وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا إنما دعوة محمد -صلى الله عليه وسلم- جهاد بالحق، ومغالبة للباطل، حتى يدفع الباطل بالحق فيدمغه فإذا هو زاهق، وهي صورة باقية واضحة في الجهاد إلى يوم القيامة; لأنها شريعة دائمة لدفع الناس بعضهم لبعض، ولولا ذلك لفسدت الأرض، وإذا كانت شريعته هي خاتمة الشرائع تكون للبقاء، فإنها لا تنتهي بمجرد معاندتها في ابتداء أمرها.
وإن الله سبحانه وتعالى قد أهلك ولم ينظر كما فعل مع قوم عاد وقوم لوط، وقوم شعيب; لأن الله تعالى لم يقدر أن يكون منهم مجاهدون مغالبون للباطل إلى يوم القيامة، فجعلهم عبرة المعتبرين.
الأمر الثاني: الذي رد به طلبهم التعنت كان بقوله:
ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون
[ ص: 2444 ] إذا كان الرسول يكون معه ملك، فإن المغزى أنهم يريدون أن يكون الرسول ملكا - ولو جعل الله بدل الرسول البشري رسولا من الملائكة، لكان الأمر الطبيعي لكي يختلط بهم، ويخاطبهم، ويوجههم أن يجعله سبحانه وتعالى رجلا يكون له مظاهر البشر، ويندمج فيهم ويدعوهم، وحينئذ لا تكون جدوى في اختياره ملكا بدل أن يكون رجلا; لأنه سيختلط عليهم، ويقولون: كيف يكون رجل هو الذي يدعو، وما يعترضون به على النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- هو عين ما يعترضون على ذلك الملك الذي لا يكون في مظهره إلا رجلا كمحمد -صلى الله عليه وسلم-، فمعنى قوله: وللبسنا عليهم ما يلبسون لخلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم؛ إذ يقولون إذا رأوا الملك في صورة رجل: هذا رجل، وليس بملك ونحن نطلب ملكا، وعلى ذلك يكون الدليل على أنه ملك هو القرآن المعجز الذي يتحدى به كما يتحدى به النبي -صلى الله عليه وسلم- فلا جدوى، ولقد قال تعالى: قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنـزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا
ونرى أن الرد الأولى فيه بيان سنة الله تعالى في هداية خلقه، وأن الشريعة التي يريد الله تعالى لها البقاء لا تنقضي بالإفناء لمن تلقوها وينقضي الأمر، والرد الثاني يثبت أن طلبهم لا نتيجة له، وأنهم ليسوا طلاب حق، بل متعنتون مستهزئون، لا يريدون الحق أو الدليل عليه; ولذا قال سبحانه: