بناء الكعبة
nindex.php?page=treesubj&link=28723_31857_31887_32997_33177_34141_34370_34513_28973nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=127وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم nindex.php?page=treesubj&link=28723_31858_33177_34513_28973nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=128ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم nindex.php?page=treesubj&link=28723_29785_30588_33177_34274_34304_34513_28973nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=129ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم
* * *
كان
nindex.php?page=treesubj&link=31857بناء الكعبة من الكلمات التي اختبر الله تعالى بها نبيه
إبراهيم ، فقد قلنا إن المراد من الكلمة مدلولاتها من أمر ونهي ، ونحوها ، وقد أمر الله تعالى نبيه
إبراهيم ببناء
الكعبة لتكون المزار ، وبها نسك الحج ; ولذا قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=127وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل و " إذ " ظرف زمان دال على الماضي ، ويتعلق بمحذوف تقديره اذكر أو اذكروا الوقت الذي كان يرفع فيه القواعد من
البيت وإسماعيل ، وذكر الوقت ليس بذكر الزمان المجرد إنما يكون بذكر الوقائع التي وقعت فيه ، وإنها تكون قليلة خطيرة ، لها أثرها فيما وراءها ، وحكى الله تعالى قصة البناء بقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=127وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وعبر بفعل المستقبل ، وهي واقعة في الماضي ; لأن الفعل المضارع يصور الواقع كأنه حاضر تستحضره ، وتراه : شيخ هو
خليل الله تعالى وشاب هو ذبيح الله تعالى يقومان معا ببناء
البيت ،
[ ص: 404 ] ويتضرعان إلى الله تعالى في كل حجر يضعانه ، ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم .
والقواعد جمع قاعدة ، وهي الأساس لما فوقها ، وكل حجر يوضع هو قاعدة لما فوقه ، والحجر الثاني قاعدة للثالث ; ولذا قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=127وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وعبر سبحانه عن وضع القواعد بعضها فوق بعض بـ " يرفع " ; لأن البناء هو الغاية من الوضع ، فعبر سبحانه وتعالى عن الفعل بغايته ونهايته .
وإن
إبراهيم الخليل وولده الطاهر الذبيح المحتسب ، لا يبنيان لذات البناء ولا لغرض دنيوي ولا للمأوى والسكن ، بل استجابة لأمر الله تعالى ، بأمره ، ويتضرعان بالبناء ، طالبين قبوله .
ولقد ذكرنا أن البناء كان بأمر الله ، روى
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري وجاء مثله في مصنف
عبد الرزاق أن
إبراهيم عليه السلام كان يزور ولده - الذي تركه في البيداء - الوقت بعد الآخر ، فجاءه وقد صار فتى سويا وتزوج فوجده يصلح النبل ، فقال : يا
إسماعيل إن ربي عز وجل أمرني أن أبني له بيتا ، فقال الابن البار المطيع : أطع ربك عز وجل ، قال : إنه قد أمرني أن تعينني عليه ، فقال الشاب القوي : إذن أفعل ، فقام فجعل
إبراهيم يبني ،
وإسماعيل يناوله الحجارة ، ويقولان :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=127ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم حتى ارتفع البناء وضعف الشيخ عن نقل الحجارة فقام على حجر المقام فجعل يناوله الحجارة ، ويقولان ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم .
والدعاء على ما بينه الحديث كان محفوفا بالعمل فهما يعملان بأيديهم ، ويحملان على عاتقهما ، وقلوبهما ضارعة بالدعاء وألسنتهما لاهجة بالثناء على الله تعالى ، والتقرب إليه ، وقد قيل إن
إبراهيم الخليل كان يبني
وإسماعيل كان يدعو ، وذلك يخالف النص في القرآن ويخالف الحديث ويخالف منطق العبادة ، فإنه لا تكون عبادة أحدهما بالدعاء مغنية عن عبادة الآخر .
[ ص: 405 ] وإن هذا العمل من
الخليل إبراهيم ، وابنه الذبيح المفدى ، يدل على أن أي عمل يمكن أن يكون عبادة إذا كان لله تعالى . . نعم إن ذلك العمل كان استجابة لأمر الله ، فهو أجل من أي عمل ، ولكن ذلك لا يمنع أن أي عمل فيه أداء فرض كفاية يكون بأمر الله ما دام مطلوبا لصالح الجماعة ، وإذا اقترنت به نية القربى كان عبادة ، ولقد قال - صلى الله عليه وسلم - : "
لا يؤمن أحدكم حتى يحب العمل لا يحبه إلا لله " .
أقام
إبراهيم خليل الله مع ابنه المطيع لأبيه وربه البناء ، ودارا حول جدرانه يتممانها ، وهما يحفانه بدعائهما
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=127ربنا تقبل منا وقد أحسا بالاستجابة ، لكمال الضراعة ، وخاطبا ربهما في إحساس بالقرب منه قائلين :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=127إنك أنت السميع العليم وقد أكدا أن
nindex.php?page=treesubj&link=28781علمه تعالى علم من يسمع من غير أذن ، وعلم من يعلم علم إحاطة لا يخفى عليه شيء ; أكداه أولا بالجملة الاسمية ، وأكداه بإن ، وأكداه بالتأكيد اللفظي بتكرار " أنت " وأكداه بتعريف الطرفين ، أي أنه لا سميع غيرك ، ولا عليم سواك ، وهكذا كانت ضراعة الإيمان .
أتم
إبراهيم بناء
الكعبة ، وكان مما اختبره الله به ، ومن الكلمات التي أتمها كما أشرنا إلى ذلك .
وقد اتجه الأواب الحليم بعد أن دعا ربه بقبول عمله ، إذ قال :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=127تقبل منا أي اقبله راضيا عنا ; لأن التقبل أبلغ من القبول ، إذ القبول المجرد أقل من التقبل برضا ، وجزاء لهذا العمل .
اتجه
خليل الله تعالى إلى ربه داعيا لجماعته ، بعد دعائه لنفسه وابنه ، فقال هو وابنه عليهما السلام :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=128ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك
الواو في قوله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=128واجعلنا مسلمين لك عاطفة على قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=127ربنا تقبل منا وكرر بين المعطوفين كلمة
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=127ربنا للشعور بكمال ربوبية الله تعالى ، وبكمال
[ ص: 406 ] الضراعة له سبحانه ، فتكرار الربوبية شعور بذكر الله تعالى دائما ، وبذكر نعمه ، وأنه كالئ هذا الوجود كله .
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=128واجعلنا جعل هنا بمعنى صير ، وكون ; أي اجعل في كوننا ووجودنا أن نكون مسلمين لك ، أي مخلصين لك ولوجهك الكريم ، والإسلام هنا بمعنى الإخلاص والاستسلام ، وأن يكونا لله وحده ، مثل قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=112بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون وإن الإيمان والإسلام هنا بمعنى واحد ، بل إن الإسلام في هذا المقام درجة عالية بعد الإيمان ، فالإيمان تصديق وإذعان والإسلام هنا تصديق وإذعان ، وإسلام النفس والعقل والجوارح كلها لله تعالى ، فهو أعلى درجات الإيمان .
وإنهما لم يدعوا لأنفسهما فقط ، بل دعوا أيضا لذريتهما ، فقالا في دعائهما الضارع المخلص ،
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=128ومن ذريتنا أمة مسلمة لك أي : واجعل في ذريتنا أمة مسلمة لك .
و" من " هنا للتبعيض ، والمعنى اجعل بعض ذريتنا أمة مسلمة ، أي مؤمنة مصدقة مذعنة مسلمة وجهها لك ، بحيث تكون كلها لك .
وقالوا : إن الدعاء لبعض الأمة اتعاظا بقول الله تعالى له :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=124لا ينال عهدي الظالمين ونحن نرى أن " من " بيانية ; لأن الدعاء لله تعالى يكون بأعلى ما يطلب لا بأدناه ، والمعنى اجعل من ذريتنا أمة مسلمة ، أي اجعل ذريتنا أمة مسلمة لك ، والمقام مختلف عن دعاء الإمامة ; لأن الإمامة لا تكون للجميع ، إنما تكون للبعض المختار منها ، الذي يصلح أن يكون قدوة تتبع .
والأمة هنا الجماعة التي تجتمع على فكرة ثابتة قائمة .
هذا دعاء
إبراهيم - عليه السلام - لذريته ، وهو دعاء أب شفيق مخلص يرتاد لذريته أكمل المناهج ، وأتم الإخلاص والضراعة ولقد دعا عليه السلام هو وابنه المخلص المطيع قالا :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=128وأرنا مناسكنا أي اجعلنا نبصر ونعلم مناسكنا ، والمناسك
[ ص: 407 ] جميع منسك ، وأصل النسك الطهارة ، وأصله الغسل والتنظيف ، ثم أطلق بمعنى العبادة عامة ، ويطلق على العباد بالحج ، وإقامة شعائره من طواف ، وسعي وذبح ورمي جمار بعد الوقوف
بعرفة ،
وبالمزدلفة ، ويقال كما ذكرنا لكل عبادة ، ومن ذلك الناسك بمعنى المنصرف للعبادة .
وما المراد بالمناسك هنا ; ، فسرها بعض العلماء بأنها العبادات الدينية سواء أكانت تتعلق بالحج ، أم تعم كل العبادات كالصلاة والصوم والزكاة وغيرها ، ومنها الحج .
وقال بعض المفسرين إنها مناسك الحج من طواف ، وسعي وذبح هدي ووقوف
بعرفة والمزدلفة ورمي الجمار ، وغير ذلك من شعائر الحج .
وإني أميل إلى تعميم مدلول المناسك ليشمل كل العبادات الشرعية .
والدعاء الذي يدل على قوة الإحساس الديني ، وقوة إسلام الوجه هو قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=128وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم التوبة : الرجوع إلى الله تعالى ، وتاب عليه بمعنى قبل التوبة ، ومعنى
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=128وتب علينا اقبل توبتنا ، وارجع علينا بالمغفرة إنك أنت التواب الرحيم ، والتواب صيغة مبالغة من تائب ، والمراد منها قبول التوبة ، وكأن المعنى : إننا تبنا ومن الله تعالى قبول التوبة في رحمة ، فالتواب كثير القبول لتوبة التائبين ، كما قال تعالى في آية أخرى :
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=3غافر الذنب وقابل التوب وإن
nindex.php?page=treesubj&link=32478قبول التوبة ، والإكثار من قبولها هو من رحمة الله تعالى ; ولذا قرن في هذه الآية الكريمة قبول التوبة ووصفه سبحانه وتعالى بها بوصفه بالرحمة ; لأن من رحمته أن يقبل التوبة فهي من فضل الله تعالى ورحمته لا عن استحقاق .
وهنا يسأل السائل : إن
nindex.php?page=treesubj&link=21377_28751الأنبياء معصومون عن الذنوب ، فلم يتوبون ، فإنه لا يحصل منهم ذنوب تستوجب التوبة والغفران ؟ والجواب عن ذلك أن التوبة رجوع إلى الله وتقرب إليه سبحانه ، والتوبة على ذلك مراتب :
[ ص: 408 ] المرتبة الأولى وهي أدناها الإقلاع عن الذنوب بالندم على ارتكابها والابتعاد عنها ، واعتزام ألا تقع من بعد ذلك وهذه تكون للعصاة الذين ارتكبوا كبائر أو أصروا على صغائر ، وقد دعاهم الله تعالى إلى أن ينيبوا إلى ربهم فقال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=53قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا
المرتبة الثانية : وهي متوسطة بين أعلاها وأدناها ، وهي الاستغفار عما يكون من خطأ أو نسيان ، أو هفوات إنسانية فقط مما يؤاخذ عليه الأبرار الأطهار ، وهو الذي ينطبق عليه قول بعضهم : حسنات الأبرار سيئات المقربين .
المرتبة الثالثة : وهي الإحساس بالقصور في حق الله تعالى لفرط إيمانهم ، وقربهم من الله ، وهذه توبة الأطهار من النبيين والرسل ، فهذه توبة
إبراهيم . والتوبة كيفما كانت رتبتها عبادة ، وأهل الله يقولون : رب معصية أورثت ذلا خير من طاعة أورثت دلا ، فالطاعة من الأنبياء لا تورث دلا ، بل نفوسهم لقربهم من الله تحس بالذل له ، فيتوبون ، ثم يتوبون .
وإن نبي الله وخليله وابنه لا يكتفيان بالدعوة لذريتهما ولأنفسهما بالتوبة ، بل يطلبان هاديا مرشدا لهم من بعدهما ; ولذلك يقولان في دعواتهما :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=129ربنا وابعث فيهم رسولا منهم الواو عاطفة عطفت " ابعث " على " واجعل " ، واعترضت كلمة ربنا لكمال الضراعة والشعور بنعمة الربوبية ، والرسول هو المرسل من قبل الله تعالى ، وبعثه تكليفه بالقيام برسالة ربه ، وتبليغها ، و " فيهم " أي في وسطهم على أنه منهم ، ليكون بهم أرحم وعليهم أعطف ، ولهم أكف ، كما قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=128لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم
، وواضح أن الرسول الذي دعا
إبراهيم وإسماعيل ببعثته هو
محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وقد روي أنه قال إجابة لنفر من الصحابة
nindex.php?page=hadith&LINKID=702076قالوا : يا رسول الله عرفنا بنفسك ، فقال : " نعم ، أنا دعوة إبراهيم ، وبشرى عيسى " فإبراهيم عليه السلام دعا ، ببعثه
وعيسى بشر به كما قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=61&ayano=6وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول [ ص: 409 ] الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد
وقد نكر " رسولا " للتعظيم ، أي رسولا عظيما كريما منهم . وقد ذكر
إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ما أرسل به إليهم فقال :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=129يتلو عليهم آياتك والآيات هنا هي الآيات القرآنية ، والقرآن هو المعجزة الكبرى الدالة على نبوة
محمد - صلى الله عليه وسلم - ، ومعنى " يتلو " يقرؤها مرتلة تتلو كل كلمة أختها ، ويتلوها عليهم يعني يقرؤها فقد نزل مرتلا كما قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=32وقال الذين كفروا لولا نـزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا أي أنزلناه كذلك لنثبت به فؤادك باستمرار نزوله ، ولنعلمك ترتيله حتى تحفظه ، وقيل إن الآيات هي الدلائل على نبوته ، وإذا علمنا أن المعجزة الكبرى الدالة على رسالة
محمد هي القرآن المتلو ، تكون النتيجة واحدة ، وهي أن المتلو القرآن .
وكان عمل النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد أن يتلو عليهم الآيات مرتلة ترتيلا ، أن يعلمهم علم الكتاب من أوامر ونواه لهم تبيينا ، ولذا قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=129ويعلمهم الكتاب والحكمة والكتاب هو القرآن لأنه الكتاب الكامل الذي إذا أطلق اسمه انصرف إليه ، لأنه الكامل كمالا مطلقا .
وتعليم الكتاب بتبيين أحكامه ، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - هو المبين له ، والشارح لأحكامه ; ولذلك قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=44وأنـزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نـزل إليهم
فتعليمهم الكتاب هو تعليم أحكامه ، وبيان شرائعه ، وما اشتمل عليه ، و " الحكمة " : قال
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي : إنها السنة ; ولذلك اقترنت بالكتاب باعتبارها المصدر الثاني وروى
ابن وهب عن الإمام
nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك رضي الله تعالى عنه : المعرفة بالدين والفقه في التأويل والفهم الذي هو منحة ونور من الله تعالى ، وقيل : الحكمة هي الحكم ، والفصل في عدالة بين الناس .
[ ص: 410 ] وإن الحكمة معناها حسن التدبير للأمور ، وفهمها وفقه الدين ، ومعرفة أسراره ، وفي الجملة هي المعنى الجامع لصفة الإسلام وإدراك غاياته ، وعلاجه للأمور ، وسياسة الناس ، وتصريف الأمور معهم ، وكانت جلسات النبي - صلى الله عليه وسلم - تحوي الكثير من أدب النفس ، وتعليم لياقة المجتمع والتقريب والتأليف بين النفوس ، وكل ذلك من الحكمة النبوية حتى لقد قال
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبو حنيفة : إن ساعة في حضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - تغني عن فقه سنين . وإن عمل النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد تلاوة الكتاب وتعليمه تزكية النفوس وتنميتها وتطهيرها فقال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=129ويزكيهم أي يطهرهم من رجس الجاهلية وينميهم ، بمعنى ينمي فيهم قوة الخلق وقوة الدين ، وما يكون سببا لنمو عددهم وشيوع أمر الإسلام ، وبقائه خالدا قائما .
وإنه يستفاد من هذا
nindex.php?page=treesubj&link=29568أن القرآن الكريم يتعبد بتلاوته وأشار إلى ذلك قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=129يتلو عليهم آياتك ويعلم الشرع منه ; إذ فيه كله ، ويشير إلى هذا قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=129ويعلمهم الكتاب
وإن النبي - صلى الله عليه وسلم - يهذب النفوس ، ويزكي القلوب بتعليم الحكمة والتزكية .
وقد ختم
إبراهيم عليه السلام دعوته بالضراعة إلى ربه فقال :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=129إنك أنت العزيز الحكيم العزيز : هو ذو العزة . وتتضمن معنى القدرة والمنعة ، والغلب ، والسلطان ، أي أنت الغالب المعز العزيز الحكيم المدبر المنظم للوجود ، الواضع كل شيء في موضعه بإحكام .
وأكد هذين الوصفين بإن المؤكدة ، وبتوكيد القول ، بقوله " أنت " ، وبتعريف الوصفين الدال على اختصاصه سبحانه وتعالى بالعزة والسلطان ، فلا عزة لأحد بجوار عزته ، ولا سلطان لأحد بجوار سلطانه .
* * *
بِنَاءُ الْكَعْبَةِ
nindex.php?page=treesubj&link=28723_31857_31887_32997_33177_34141_34370_34513_28973nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=127وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ nindex.php?page=treesubj&link=28723_31858_33177_34513_28973nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=128رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ nindex.php?page=treesubj&link=28723_29785_30588_33177_34274_34304_34513_28973nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=129رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
* * *
كَانَ
nindex.php?page=treesubj&link=31857بِنَاءُ الْكَعْبَةِ مِنَ الْكَلِمَاتِ الَّتِي اخْتَبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا نَبِيَّهُ
إِبْرَاهِيمَ ، فَقَدْ قُلْنَا إِنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْكَلِمَةِ مَدْلُولَاتُهَا مِنْ أَمْرٍ وَنَهْيٍ ، وَنَحْوِهَا ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ
إِبْرَاهِيمَ بِبِنَاءِ
الْكَعْبَةِ لِتَكُونَ الْمَزَارَ ، وَبِهَا نُسُكُ الْحَجِّ ; وَلِذَا قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=127وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ وَ " إِذْ " ظَرْفُ زَمَانٍ دَالٌّ عَلَى الْمَاضِي ، وَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ اذْكُرْ أَوِ اذْكُرُوا الْوَقْتَ الَّذِي كَانَ يَرْفَعُ فِيهِ الْقَوَاعِدَ مِنَ
الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ ، وَذِكْرُ الْوَقْتِ لَيْسَ بِذِكْرِ الزَّمَانِ الْمُجَرَّدِ إِنَّمَا يَكُونُ بِذِكْرِ الْوَقَائِعِ الَّتِي وَقَعَتْ فِيهِ ، وَإِنَّهَا تَكُونُ قَلِيلَةً خَطِيرَةً ، لَهَا أَثَرُهَا فِيمَا وَرَاءَهَا ، وَحَكَى اللَّهُ تَعَالَى قِصَّةَ الْبِنَاءِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=127وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَعَبَّرَ بِفِعْلِ الْمُسْتَقْبَلِ ، وَهِيَ وَاقِعَةٌ فِي الْمَاضِي ; لِأَنَّ الْفِعْلَ الْمُضَارِعَ يُصَوِّرُ الْوَاقِعَ كَأَنَّهُ حَاضِرٌ تَسْتَحْضِرُهُ ، وَتَرَاهُ : شَيْخٌ هُوَ
خَلِيلُ اللَّهِ تَعَالَى وَشَابٌّ هُوَ ذَبِيحُ اللَّهِ تَعَالَى يَقُومَانِ مَعًا بِبِنَاءِ
الْبَيْتِ ،
[ ص: 404 ] وَيَتَضَرَّعَانِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي كُلِّ حَجَرٍ يَضَعَانِهِ ، رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ .
وَالْقَوَاعِدُ جَمْعُ قَاعِدَةٍ ، وَهِيَ الْأَسَاسُ لِمَا فَوْقَهَا ، وَكُلُّ حَجَرٍ يُوضَعُ هُوَ قَاعِدَةٌ لِمَا فَوْقَهُ ، وَالْحَجَرُ الثَّانِي قَاعِدَةٌ لِلثَّالِثِ ; وَلِذَا قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=127وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَعَبَّرَ سُبْحَانَهُ عَنْ وَضْعِ الْقَوَاعِدِ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ بِـ " يَرْفَعُ " ; لِأَنَّ الْبِنَاءَ هُوَ الْغَايَةُ مِنَ الْوَضْعِ ، فَعَبَّرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنِ الْفِعْلِ بِغَايَتِهِ وَنِهَايَتِهِ .
وَإِنَّ
إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ وَوَلَدَهُ الطَّاهِرَ الذَّبِيحَ الْمُحْتَسِبَ ، لَا يَبْنِيَانِ لِذَاتِ الْبَنَّاءِ وَلَا لِغَرَضٍ دُنْيَوِيٍّ وَلَا لِلْمَأْوَى وَالسَّكَنِ ، بَلِ اسْتِجَابَةً لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى ، بِأَمْرِهِ ، وَيَتَضَرَّعَانِ بِالْبِنَاءِ ، طَالِبِينَ قَبُولَهُ .
وَلَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْبِنَاءَ كَانَ بِأَمْرِ اللَّهِ ، رَوَى
nindex.php?page=showalam&ids=12070الْبُخَارِيُّ وَجَاءَ مِثْلُهُ فِي مُصَنَّفِ
عَبْدِ الرَّزَّاقِ أَنَّ
إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَزُورُ وَلَدَهُ - الَّذِي تَرَكَهُ فِي الْبَيْدَاءِ - الْوَقْتَ بَعْدَ الْآخَرِ ، فَجَاءَهُ وَقَدْ صَارَ فَتًى سَوِيًّا وَتَزَوَّجَ فَوَجَدَهُ يُصْلِحُ النَّبْلَ ، فَقَالَ : يَا
إِسْمَاعِيلُ إِنَّ رَبِّيَ عَزَّ وَجَلَّ أَمَرَنِي أَنْ أَبْنِيَ لَهُ بَيْتًا ، فَقَالَ الِابْنُ الْبَارُّ الْمُطِيعُ : أَطِعْ رَبَّكَ عَزَّ وَجَلَّ ، قَالَ : إِنَّهُ قَدْ أَمَرَنِي أَنْ تُعِينَنِي عَلَيْهِ ، فَقَالَ الشَّابُّ الْقَوِيُّ : إِذَنْ أَفْعَلُ ، فَقَامَ فَجَعَلَ
إِبْرَاهِيمُ يَبْنِي ،
وَإِسْمَاعِيلُ يُنَاوِلُهُ الْحِجَارَةَ ، وَيَقُولَانِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=127رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ حَتَّى ارْتَفَعَ الْبِنَاءُ وَضَعُفَ الشَّيْخُ عَنْ نَقْلِ الْحِجَارَةِ فَقَامَ عَلَى حَجَرِ الْمَقَامِ فَجَعَلَ يُنَاوِلُهُ الْحِجَارَةَ ، وَيَقُولَانِ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ .
وَالدُّعَاءُ عَلَى مَا بَيَّنَهُ الْحَدِيثُ كَانَ مَحْفُوفًا بِالْعَمَلِ فَهُمَا يَعْمَلَانِ بِأَيْدِيهِمْ ، وَيَحْمِلَانِ عَلَى عَاتِقِهِمَا ، وَقُلُوبُهُمَا ضَارِعَةٌ بِالدُّعَاءِ وَأَلْسِنَتُهُمَا لَاهِجَةٌ بِالثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى ، وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ ، وَقَدْ قِيلَ إِنَّ
إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ كَانَ يَبْنِي
وَإِسْمَاعِيلَ كَانَ يَدْعُو ، وَذَلِكَ يُخَالِفُ النَّصَّ فِي الْقُرْآنِ وَيُخَالِفُ الْحَدِيثَ وَيُخَالِفُ مَنْطِقَ الْعِبَادَةِ ، فَإِنَّهُ لَا تَكُونُ عِبَادَةُ أَحَدِهِمَا بِالدُّعَاءِ مُغْنِيَةً عَنْ عِبَادَةِ الْآخَرِ .
[ ص: 405 ] وَإِنَّ هَذَا الْعَمَلَ مِنَ
الْخَلِيلِ إِبْرَاهِيمَ ، وَابْنِهِ الذَّبِيحِ الْمُفَدَّى ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَيَّ عَمَلٍ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ عِبَادَةً إِذَا كَانَ لِلَّهِ تَعَالَى . . نَعَمْ إِنَّ ذَلِكَ الْعَمَلَ كَانَ اسْتِجَابَةً لِأَمْرِ اللَّهِ ، فَهُوَ أَجَلُّ مِنْ أَيِّ عَمَلٍ ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ أَنَّ أَيَّ عَمَلٍ فِيهِ أَدَاءُ فَرْضِ كِفَايَةٍ يَكُونُ بِأَمْرِ اللَّهِ مَا دَامَ مَطْلُوبًا لِصَالِحِ الْجَمَاعَةِ ، وَإِذَا اقْتَرَنَتْ بِهِ نِيَّةُ الْقُرْبَى كَانَ عِبَادَةً ، وَلَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : "
لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ الْعَمَلَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ " .
أَقَامَ
إِبْرَاهِيمُ خَلِيلُ اللَّهِ مَعَ ابْنِهِ الْمُطِيعِ لِأَبِيهِ وَرَبِّهِ الْبَنَّاءَ ، وَدَارَا حَوْلَ جُدْرَانِهِ يُتَمِّمَانِهَا ، وَهُمَا يُحِفَّانِهِ بِدُعَائِهِمَا
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=127رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا وَقَدْ أَحَسَّا بِالِاسْتِجَابَةِ ، لِكَمَالِ الضَّرَاعَةِ ، وَخَاطَبَا رَبَّهُمَا فِي إِحْسَاسٍ بِالْقُرْبِ مِنْهُ قَائِلِينَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=127إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وَقَدْ أَكَّدَا أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28781عِلْمَهُ تَعَالَى عِلْمُ مَنْ يَسْمَعُ مِنْ غَيْرِ أُذُنٍ ، وَعِلْمُ مَنْ يَعْلَمُ عِلْمَ إِحَاطَةٍ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ ; أَكَّدَاهُ أَوَّلًا بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ ، وَأَكَّدَاهُ بِإِنَّ ، وَأَكَّدَاهُ بِالتَّأْكِيدِ اللَّفْظِيِّ بِتَكْرَارِ " أَنْتَ " وَأَكَّدَاهُ بِتَعْرِيفِ الطَّرَفَيْنِ ، أَيْ أَنَّهُ لَا سَمِيعَ غَيْرُكَ ، وَلَا عَلِيمَ سِوَاكَ ، وَهَكَذَا كَانَتْ ضَرَاعَةُ الْإِيمَانِ .
أَتَمَّ
إِبْرَاهِيمُ بِنَاءَ
الْكَعْبَةِ ، وَكَانَ مِمَّا اخْتَبَرَهُ اللَّهُ بِهِ ، وَمِنَ الْكَلِمَاتِ الَّتِي أَتَمَّهَا كَمَا أَشَرْنَا إِلَى ذَلِكَ .
وَقَدِ اتَّجَهَ الْأَوَّابُ الْحَلِيمُ بَعْدَ أَنْ دَعَا رَبَّهُ بِقَبُولِ عَمَلِهِ ، إِذْ قَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=127تَقَبَّلْ مِنَّا أَيِ اقْبَلْهُ رَاضِيًا عَنَّا ; لِأَنَّ التَّقَبُّلَ أَبْلَغُ مِنَ الْقَبُولِ ، إِذِ الْقَبُولُ الْمُجَرَّدُ أَقَلُّ مِنَ التَّقَبُّلِ بِرِضًا ، وَجَزَاءٌ لِهَذَا الْعَمَلِ .
اتَّجَهَ
خَلِيلُ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى رَبِّهِ دَاعِيًا لِجَمَاعَتِهِ ، بَعْدَ دُعَائِهِ لِنَفْسِهِ وَابْنِهِ ، فَقَالَ هُوَ وَابْنُهُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=128رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ
الْوَاوُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=128وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ عَاطِفَةٌ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=127رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا وَكُرِّرَ بَيْنَ الْمَعْطُوفَيْنِ كَلِمَةُ
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=127رَبَّنَا لِلشُّعُورِ بِكَمَالِ رُبُوبِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَبِكَمَالِ
[ ص: 406 ] الضَّرَاعَةِ لَهُ سُبْحَانَهُ ، فَتَكْرَارُ الرُّبُوبِيَّةِ شُعُورٌ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى دَائِمًا ، وَبِذِكْرِ نِعَمِهِ ، وَأَنَّهُ كَالِئٌ هَذَا الْوُجُودَ كُلَّهُ .
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=128وَاجْعَلْنَا جَعَلَ هُنَا بِمَعْنَى صَيَّرَ ، وَكَوَّنَ ; أَيِ اجْعَلْ فِي كَوْنِنَا وَوُجُودِنَا أَنْ نَكُونَ مُسْلِمَيْنِ لَكَ ، أَيْ مُخْلِصَيْنِ لَكَ وَلِوَجْهِكَ الْكَرِيمِ ، وَالْإِسْلَامُ هُنَا بِمَعْنَى الْإِخْلَاصِ وَالِاسْتِسْلَامِ ، وَأَنْ يَكُونَا لِلَّهِ وَحْدَهُ ، مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=112بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وَإِنَّ الْإِيمَانَ وَالْإِسْلَامَ هُنَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ ، بَلْ إِنَّ الْإِسْلَامَ فِي هَذَا الْمَقَامِ دَرَجَةٌ عَالِيَةٌ بَعْدَ الْإِيمَانِ ، فَالْإِيمَانُ تَصْدِيقٌ وَإِذْعَانٌ وَالْإِسْلَامُ هُنَا تَصْدِيقٌ وَإِذْعَانٌ ، وَإِسْلَامُ النَّفْسِ وَالْعَقْلِ وَالْجَوَارِحِ كُلِّهَا لِلَّهِ تَعَالَى ، فَهُوَ أَعْلَى دَرَجَاتِ الْإِيمَانِ .
وَإِنَّهُمَا لَمْ يَدْعُوَا لِأَنْفُسِهِمَا فَقَطْ ، بَلْ دَعَوَا أَيْضًا لِذُرِّيَّتِهِمَا ، فَقَالَا فِي دُعَائِهِمَا الضَّارِعِ الْمُخْلِصِ ،
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=128وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ أَيْ : وَاجْعَلْ فِي ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ .
وَ" مِنْ " هُنَا لِلتَّبْعِيضِ ، وَالْمَعْنَى اجْعَلْ بَعْضَ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً ، أَيْ مُؤْمِنَةً مُصَدِّقَةً مُذْعِنَةً مُسَلِّمَةً وَجَّهَهَا لَكَ ، بِحَيْثُ تَكُونُ كُلُّهَا لَكَ .
وَقَالُوا : إِنَّ الدُّعَاءَ لِبَعْضِ الْأُمَّةِ اتِّعَاظًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=124لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ وَنَحْنُ نَرَى أَنَّ " مِنْ " بَيَانِيَّةٌ ; لِأَنَّ الدُّعَاءَ لِلَّهِ تَعَالَى يَكُونُ بِأَعْلَى مَا يُطْلَبُ لَا بِأَدْنَاهُ ، وَالْمَعْنَى اجْعَلْ مِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً ، أَيِ اجْعَلْ ذُرِّيَّتَنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ ، وَالْمَقَامُ مُخْتَلِفٌ عَنْ دُعَاءِ الْإِمَامَةِ ; لِأَنَّ الْإِمَامَةَ لَا تَكُونُ لِلْجَمِيعِ ، إِنَّمَا تَكُونُ لِلْبَعْضِ الْمُخْتَارِ مِنْهَا ، الَّذِي يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ قُدْوَةً تُتَّبَعُ .
وَالْأُمَّةُ هُنَا الْجَمَاعَةُ الَّتِي تَجْتَمِعُ عَلَى فِكْرَةٍ ثَابِتَةٍ قَائِمَةٍ .
هَذَا دُعَاءُ
إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِذُرِّيَّتِهِ ، وَهُوَ دُعَاءُ أَبٍ شَفِيقٍ مُخْلِصٍ يَرْتَادُ لِذُرِّيَّتِهِ أَكْمَلَ الْمَنَاهِجِ ، وَأَتَمَّ الْإِخْلَاصِ وَالضَّرَاعَةِ وَلَقَدْ دَعَا عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ وَابْنُهُ الْمُخْلِصُ الْمُطِيعُ قَالَا :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=128وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا أَيِ اجْعَلْنَا نُبْصِرُ وَنَعْلَمُ مَنَاسِكَنَا ، وَالْمَنَاسِكُ
[ ص: 407 ] جَمِيعُ مَنْسَكٍ ، وَأَصْلُ النُّسُكِ الطَّهَارَةُ ، وَأَصْلُهُ الْغَسْلُ وَالتَّنْظِيفُ ، ثُمَّ أُطْلِقَ بِمَعْنَى الْعِبَادَةِ عَامَّةً ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْعِبَادِ بِالْحَجِّ ، وَإِقَامَةِ شَعَائِرِهِ مِنْ طَوَافٍ ، وَسَعْيٍ وَذَبْحٍ وَرَمْيِ جِمَارٍ بَعْدَ الْوُقُوفِ
بِعَرَفَةَ ،
وَبِالْمُزْدَلِفَةِ ، وَيُقَالُ كَمَا ذَكَرْنَا لِكُلِّ عِبَادَةٍ ، وَمِنْ ذَلِكَ النَّاسِكُ بِمَعْنَى الْمُنْصَرِفِ لِلْعِبَادَةِ .
وَمَا الْمُرَادُ بِالْمَنَاسِكِ هُنَا ; ، فَسَّرَهَا بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِأَنَّهَا الْعِبَادَاتُ الدِّينِيَّةُ سَوَاءٌ أَكَانَتْ تَتَعَلَّقُ بِالْحَجِّ ، أَمْ تَعُمُّ كُلَّ الْعِبَادَاتِ كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالزَّكَاةِ وَغَيْرِهَا ، وَمِنْهَا الْحَجُّ .
وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِنَّهَا مَنَاسِكُ الْحَجِّ مِنْ طَوَافٍ ، وَسَعْيٍ وَذَبْحِ هَدْيٍ وَوُقُوفٍ
بِعَرَفَةَ وَالْمُزْدَلِفَةِ وَرَمْيِ الْجِمَارِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ شَعَائِرِ الْحَجِّ .
وَإِنِّي أَمِيلُ إِلَى تَعْمِيمِ مَدْلُولِ الْمَنَاسِكِ لِيَشْمَلَ كُلَّ الْعِبَادَاتِ الشَّرْعِيَّةِ .
وَالدُّعَاءُ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى قُوَّةِ الْإِحْسَاسِ الدِّينِيِّ ، وَقُوَّةِ إِسْلَامِ الْوَجْهِ هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=128وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ التَّوْبَةُ : الرُّجُوعُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى ، وَتَابَ عَلَيْهِ بِمَعْنَى قَبِلَ التَّوْبَةَ ، وَمَعْنَى
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=128وَتُبْ عَلَيْنَا اقْبَلْ تَوْبَتَنَا ، وَارْجِعْ عَلَيْنَا بِالْمَغْفِرَةِ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ، وَالتَّوَّابُ صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ مِنْ تَائِبٍ ، وَالْمُرَادُ مِنْهَا قَبُولُ التَّوْبَةِ ، وَكَأَنَّ الْمَعْنَى : إِنَّنَا تُبْنَا وَمَنَّ اللَّهُ تَعَالَى قَبُولَ التَّوْبَةِ فِي رَحْمَةٍ ، فَالتَّوَّابُ كَثِيرُ الْقَبُولِ لِتَوْبَةِ التَّائِبِينَ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=3غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ وَإِنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=32478قَبُولَ التَّوْبَةِ ، وَالْإِكْثَارَ مِنْ قَبُولِهَا هُوَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى ; وَلِذَا قَرَنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ قَبُولَ التَّوْبَةِ وَوَصْفَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِهَا بِوَصْفِهِ بِالرَّحْمَةِ ; لِأَنَّ مِنْ رَحْمَتِهِ أَنْ يَقْبَلَ التَّوْبَةَ فَهِيَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَحْمَتِهِ لَا عَنِ اسْتِحْقَاقٍ .
وَهُنَا يَسْأَلُ السَّائِلُ : إِنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=21377_28751الْأَنْبِيَاءَ مَعْصُومُونَ عَنِ الذُّنُوبِ ، فَلِمَ يَتُوبُونَ ، فَإِنَّهُ لَا يَحْصُلُ مِنْهُمْ ذُنُوبٌ تَسْتَوْجِبُ التَّوْبَةَ وَالْغُفْرَانَ ؟ وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ أَنَّ التَّوْبَةَ رُجُوعٌ إِلَى اللَّهِ وَتَقَرُّبٌ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ ، وَالتَّوْبَةُ عَلَى ذَلِكَ مَرَاتِبُ :
[ ص: 408 ] الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى وَهِيَ أَدْنَاهَا الْإِقْلَاعُ عَنِ الذُّنُوبِ بِالنَّدَمِ عَلَى ارْتِكَابِهَا وَالِابْتِعَادِ عَنْهَا ، وَاعْتِزَامُ أَلَّا تَقَعَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَهَذِهِ تَكُونُ لِلْعُصَاةِ الَّذِينَ ارْتَكَبُوا كَبَائِرَ أَوْ أَصَرُّوا عَلَى صَغَائِرَ ، وَقَدْ دَعَاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى أَنْ يُنِيبُوا إِلَى رَبِّهِمْ فَقَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=53قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا
الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ : وَهِيَ مُتَوَسِّطَةٌ بَيْنَ أَعْلَاهَا وَأَدْنَاهَا ، وَهِيَ الِاسْتِغْفَارُ عَمَّا يَكُونُ مِنْ خَطَأٍ أَوْ نِسْيَانٍ ، أَوْ هَفَوَاتٍ إِنْسَانِيَّةٍ فَقَطْ مِمَّا يُؤَاخَذُ عَلَيْهِ الْأَبْرَارُ الْأَطْهَارُ ، وَهُوَ الَّذِي يَنْطَبِقُ عَلَيْهِ قَوْلُ بَعْضِهِمْ : حَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ .
الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ : وَهِيَ الْإِحْسَاسُ بِالْقُصُورِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لِفَرْطِ إِيمَانِهِمْ ، وَقُرْبِهِمْ مِنَ اللَّهِ ، وَهَذِهِ تَوْبَةُ الْأَطْهَارِ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالرُّسُلِ ، فَهَذِهِ تَوْبَةُ
إِبْرَاهِيمَ . وَالتَّوْبَةُ كَيْفَمَا كَانَتْ رُتْبَتُهَا عِبَادَةٌ ، وَأَهْلُ اللَّهِ يَقُولُونَ : رُبَّ مَعْصِيَةٍ أَوْرَثَتْ ذُلًّا خَيْرٌ مِنْ طَاعَةٍ أَوْرَثَتْ دَلًّا ، فَالطَّاعَةُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ لَا تُورِثُ دَلًّا ، بَلْ نُفُوسُهُمْ لِقُرْبِهِمْ مِنَ اللَّهِ تُحِسُّ بِالذُّلِّ لَهُ ، فَيَتُوبُونَ ، ثُمَّ يَتُوبُونَ .
وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ وَخَلِيلَهُ وَابْنَهُ لَا يَكْتَفِيَانِ بِالدَّعْوَةِ لِذُرِّيَّتِهِمَا وَلِأَنْفُسِهِمَا بِالتَّوْبَةِ ، بَلْ يَطْلُبَانِ هَادِيًا مُرْشِدًا لَهُمْ مِنْ بَعْدِهِمَا ; وَلِذَلِكَ يَقُولَانِ فِي دَعَوَاتِهِمَا :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=129رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ الْوَاوُ عَاطِفَةٌ عَطَفَتِ " ابْعَثْ " عَلَى " وَاجْعَلْ " ، وَاعْتَرَضَتْ كَلِمَةُ رَبَّنَا لِكَمَالِ الضَّرَاعَةِ وَالشُّعُورِ بِنِعْمَةِ الرُّبُوبِيَّةِ ، وَالرَّسُولُ هُوَ الْمُرْسَلُ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَبَعْثُهُ تَكْلِيفُهُ بِالْقِيَامِ بِرِسَالَةِ رَبِّهِ ، وَتَبْلِيغِهَا ، وَ " فِيهِمْ " أَيْ فِي وَسَطِهِمْ عَلَى أَنَّهُ مِنْهُمْ ، لِيَكُونَ بِهِمْ أَرْحَمَ وَعَلَيْهِمْ أَعْطَفَ ، وَلَهُمُ أَكَفَّ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=128لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ
، وَوَاضِحٌ أَنَّ الرَّسُولَ الَّذِي دَعَا
إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ بِبَعْثَتِهِ هُوَ
مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ إِجَابَةً لِنَفَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ
nindex.php?page=hadith&LINKID=702076قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ عَرِّفْنَا بِنَفْسِكَ ، فَقَالَ : " نَعَمْ ، أَنَا دَعْوَةُ إِبْرَاهِيمَ ، وَبُشْرَى عِيسَى " فَإِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ دَعَا ، بِبَعْثِهِ
وَعِيسَى بَشَّرَ بِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=61&ayano=6وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ [ ص: 409 ] اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنَ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ
وَقَدْ نَكَّرَ " رَسُولًا " لِلتَّعْظِيمِ ، أَيْ رَسُولًا عَظِيمًا كَرِيمًا مِنْهُمْ . وَقَدْ ذَكَرَ
إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ مَا أُرْسِلَ بِهِ إِلَيْهِمْ فَقَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=129يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَالْآيَاتُ هُنَا هِيَ الْآيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ ، وَالْقُرْآنُ هُوَ الْمُعْجِزَةُ الْكُبْرَى الدَّالَّةُ عَلَى نُبُوَّةِ
مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَمَعْنَى " يَتْلُو " يَقْرَؤُهَا مُرَتَّلَةً تَتْلُو كُلُّ كَلِمَةٍ أُخْتَهَا ، وَيَتْلُوهَا عَلَيْهِمْ يَعْنِي يَقْرَؤُهَا فَقَدْ نَزَلَ مُرَتَّلًا كَمَا قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=32وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُـزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلا أَيْ أَنْزَلْنَاهُ كَذَلِكَ لِنُثْبِتَ بِهِ فُؤَادَكَ بِاسْتِمْرَارِ نُزُولِهِ ، وَلِنُعَلِّمَكَ تَرْتِيلَهُ حَتَّى تَحْفَظَهُ ، وَقِيلَ إِنَّ الْآيَاتِ هِيَ الدَّلَائِلُ عَلَى نُبُوَّتِهِ ، وَإِذَا عَلِمْنَا أَنَّ الْمُعْجِزَةَ الْكُبْرَى الدَّالَّةَ عَلَى رِسَالَةِ
مُحَمَّدٍ هِيَ الْقُرْآنُ الْمَتْلُوُّ ، تَكُونُ النَّتِيجَةُ وَاحِدَةً ، وَهِيَ أَنَّ الْمَتْلُوَّ الْقُرْآنُ .
وَكَانَ عَمَلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ أَنْ يَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الْآيَاتِ مُرَتَّلَةً تَرْتِيلًا ، أَنْ يُعَلِّمَهُمْ عِلْمَ الْكِتَابِ مِنْ أَوَامِرَ وَنَوَاهٍ لَهُمْ تَبْيِينًا ، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=129وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالْكِتَابُ هُوَ الْقُرْآنُ لِأَنَّهُ الْكِتَابُ الْكَامِلُ الَّذِي إِذَا أُطْلِقَ اسْمُهُ انْصَرَفَ إِلَيْهِ ، لِأَنَّهُ الْكَامِلُ كَمَالًا مُطْلَقًا .
وَتَعْلِيمُ الْكِتَابِ بِتَبْيِينُ أَحْكَامِهِ ، فَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ الْمُبَيِّنُ لَهُ ، وَالشَّارِحُ لِأَحْكَامِهِ ; وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=44وَأَنْـزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُـزِّلَ إِلَيْهِمْ
فَتَعْلِيمُهُمُ الْكِتَابَ هُوَ تَعْلِيمُ أَحْكَامِهِ ، وَبَيَانُ شَرَائِعِهِ ، وَمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ ، وَ " الْحِكْمَةُ " : قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيُّ : إِنَّهَا السُّنَّةُ ; وَلِذَلِكَ اقْتَرَنَتْ بِالْكِتَابِ بِاعْتِبَارِهَا الْمَصْدَرَ الثَّانِيَ وَرَوَى
ابْنُ وَهْبٍ عَنِ الْإِمَامِ
nindex.php?page=showalam&ids=16867مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ : الْمَعْرِفَةُ بِالدِّينِ وَالْفِقْهُ فِي التَّأْوِيلِ وَالْفَهْمُ الَّذِي هُوَ مِنْحَةٌ وَنُورٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ، وَقِيلَ : الْحِكْمَةُ هِيَ الْحُكْمُ ، وَالْفَصْلُ فِي عَدَالَةٍ بَيْنَ النَّاسِ .
[ ص: 410 ] وَإِنَّ الْحِكْمَةَ مَعْنَاهَا حُسْنُ التَّدْبِيرِ لِلْأُمُورِ ، وَفَهْمُهَا وَفِقْهُ الدِّينِ ، وَمَعْرِفَةُ أَسْرَارِهِ ، وَفِي الْجُمْلَةِ هِيَ الْمَعْنَى الْجَامِعُ لِصِفَةِ الْإِسْلَامِ وَإِدْرَاكُ غَايَاتِهِ ، وَعِلَاجُهُ لِلْأُمُورِ ، وَسِيَاسَةُ النَّاسِ ، وَتَصْرِيفُ الْأُمُورِ مَعَهُمْ ، وَكَانَتْ جَلَسَاتُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَحْوِي الْكَثِيرَ مِنْ أَدَبِ النَّفْسِ ، وَتَعْلِيمِ لِيَاقَةِ الْمُجْتَمِعِ وَالتَّقْرِيبِ وَالتَّأْلِيفِ بَيْنَ النُّفُوسِ ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنَ الْحِكْمَةِ النَّبَوِيَّةِ حَتَّى لَقَدْ قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=11990أَبُو حَنِيفَةَ : إِنَّ سَاعَةً فِي حَضْرَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تُغْنِي عَنْ فِقْهِ سِنِينَ . وَإِنَّ عَمَلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ تِلَاوَةِ الْكِتَابِ وَتَعْلِيمِهِ تَزْكِيَةُ النُّفُوسِ وَتَنْمِيَتُهَا وَتَطْهِيرُهَا فَقَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=129وَيُزَكِّيهِمْ أَيْ يُطَهِّرُهُمْ مِنْ رِجْسِ الْجَاهِلِيَّةِ وَيُنَمِّيهِمْ ، بِمَعْنَى يُنَمِّي فِيهِمْ قُوَّةَ الْخُلُقِ وَقُوَّةَ الدِّينِ ، وَمَا يَكُونُ سَبَبًا لِنُمُوِّ عَدَدِهِمْ وَشُيُوعِ أَمْرِ الْإِسْلَامِ ، وَبَقَائِهِ خَالِدًا قَائِمًا .
وَإِنَّهُ يُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا
nindex.php?page=treesubj&link=29568أَنَّ الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ يُتَعَبَّدُ بِتِلَاوَتِهِ وَأَشَارَ إِلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=129يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعْلَمُ الشَّرْعُ مِنْهُ ; إِذْ فِيهِ كُلُّهُ ، وَيُشِيرُ إِلَى هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=129وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ
وَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُهَذِّبُ النُّفُوسَ ، وَيُزَكِّي الْقُلُوبَ بِتَعْلِيمِ الْحِكْمَةِ وَالتَّزْكِيَةِ .
وَقَدْ خَتَمَ
إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ دَعْوَتَهُ بِالضَّرَاعَةِ إِلَى رَبِّهِ فَقَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=129إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ الْعَزِيزُ : هُوَ ذُو الْعِزَّةِ . وَتَتَضَمَّنُ مَعْنَى الْقُدْرَةِ وَالْمَنَعَةِ ، وَالْغَلَبِ ، وَالسُّلْطَانِ ، أَيْ أَنْتَ الْغَالِبُ الْمُعِزُّ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ الْمُدَبِّرُ الْمُنَظِّمُ لِلْوُجُودِ ، الْوَاضِعُ كُلَّ شَيْءٍ فِي مَوْضِعِهِ بِإِحْكَامٍ .
وَأَكَّدَ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ بِإِنَّ الْمُؤَكِّدَةِ ، وَبِتَوْكِيدِ الْقَوْلِ ، بِقَوْلِهِ " أَنْتَ " ، وَبِتَعْرِيفِ الْوَصْفَيْنِ الدَّالِّ عَلَى اخْتِصَاصِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِالْعِزَّةِ وَالسُّلْطَانِ ، فَلَا عَزَّةَ لِأَحَدٍ بِجِوَارِ عِزَّتِهِ ، وَلَا سُلْطَانَ لِأَحَدٍ بِجِوَارِ سُلْطَانِهِ .
* * *