nindex.php?page=treesubj&link=28862سورة المائدة :
وقد تقدم وجه في مناسبتها.
وأقول: هذه السورة أيضا شارحة لبقية مجملات سورة البقرة; فإن آية الأطعمة والذبائح فيها أبسط منها في البقرة، وكذا ما حرمه الكفار
[ ص: 94 ] تبعا لآبائهم في البقرة موجز، وفي هذه السورة مطنب أبلغ إطناب في قوله:
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=103ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة "103، 104".
وفي البقرة ذكر القصاص في القتلى، وهنا ذكر أول من سن القتل، والسبب الذي لأجله وقع، وقال:
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=32من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا "32"، وذلك أبسط من قوله [في البقرة] :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=179ولكم في القصاص حياة "البقرة: 179".
وفي البقرة:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=58وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية "البقرة: 58"، وذكرت قصتها [هنا مطولة. وذكر في البقرة من ارتد مقتصرا عليه، وقال] 2 هنا:
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=54فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه "54".
وفي البقرة قصة الأيمان موجزة، وزاد هنا بسطا بذكر الكفارة.
وفي البقرة قال في الخمر والميسر:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=219فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما "البقرة: 219". وزاد في هذه السورة ذمها، وصرح بتحريمها.
وفيها من الاعتلاق بسورة الفاتحة: بيان المغضوب عليهم
[ ص: 95 ] والضالين في قوله:
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=60قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه "60" الآية. وقوله:
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=77قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل "77".
وأما اعتلاقها بسورة النساء، فقد ظهر لي فيه وجه بديع جدا; وذلك أن سورة النساء اشتملت على عدة عقود صريحا وضمنا، فالصريح: عقود الأنكحة، وعقد الصداق، وعقد الحلف، في قوله:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=33والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم "النساء: 33". وعقد الأيمان في هذه الآية، وبعد ذلك عقد المعاهدة والأمان في قوله:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=90إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق "النساء: 90"، وقوله:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=92وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية "النساء: 92".
والضمني: عقد الوصية، والوديعة، والوكالة، والعارية، والإجارة، وغير ذلك من الداخل في عموم قوله:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=58إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها "النساء: 58"، فناسب أن يعقب بسورة مفتتحة بالأمر بالوفاء بالعقود، فكأنه قيل:
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=1يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود "1" التي فرغ من ذكرها في السورة التي تمت، فكان ذلك غاية في التلاحم والتناسب والارتباط.
ووجه آخر في تقديم سورة النساء، وتأخير سورة المائدة; وهو: أن تلك أولها:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=1يا أيها الناس "النساء: 1"، وفيها الخطاب بذلك في مواضع، وهو أشبه بخطاب [الكفار وتنزيل] 1 المكي، [وهذه أولها: " يا أيها الذين آمنوا " "1" وفيها الخطاب بذلك في مواضع، وهو أشبه بخطاب المدني] 2 وتقديم العام وشبه المكي أنسب.
ثم إن هاتين السورتين في التلازم والاتحاد نظير البقرة وآل عمران، فتلكما في تقرير الأصول; من الوحدانية، والكتاب، والنبوة، وهاتان في تقرير الفروع الحكمية.
[ ص: 96 ] وقد ختمت المائدة بصفة القدرة، كما افتتحت النساء بذلك.
وافتتحت النساء ببدء الخلق، وختمت المائدة بالمنتهى من البعث والجزاء، فكأنهما سورة واحدة، اشتملت على الأحكام من المبتدأ إلى المنتهى.
ولما وقع في سورة النساء:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=105إنا أنـزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس "النساء: 105" الآيات، وكانت نازلة في قصة سارق سرق درعا، فصل في سورة المائدة أحكام السراق والخائنين.
ولما ذكر في سورة النساء أنه أنزل إليك الكتاب لتحكم بين الناس، ذكر في سورة المائدة آيات في الحكم بما أنزل الله حتى بين الكفار، وكرر قوله: " ومن لم يحكم بما أنزل الله " "44، 45، 46".
فانظر إلى هذه السور الأربع المدنيات، وحسن ترتيبها، وتلاحمها، وتناسقها، وتلازمها. وقد افتتحت البقرة التي هي أول ما نزل في
المدينة، وختمت بالمائدة التي هي آخر ما نزل بها، كما في حديث
nindex.php?page=showalam&ids=13948الترمذي.
nindex.php?page=treesubj&link=28862سُورَةُ الْمَائِدَةِ :
وَقَدْ تَقَدَّمَ وَجْهٌ فِي مُنَاسَبَتِهَا.
وَأَقُولُ: هَذِهِ السُّورَةُ أَيْضًا شَارِحَةٌ لِبَقِيَّةِ مُجْمَلَاتِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ; فَإِنَّ آيَةَ الْأَطْعِمَةِ وَالذَّبَائِحِ فِيهَا أَبْسَطُ مِنْهَا فِي الْبَقَرَةِ، وَكَذَا مَا حَرَّمَهُ الْكُفَّارُ
[ ص: 94 ] تَبَعًا لِآبَائِهِمْ فِي الْبَقَرَةِ مُوجَزٌ، وَفِي هَذِهِ السُّورَةِ مُطْنِبٌ أَبْلَغَ إِطْنَابٍ فِي قَوْلِهِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=103مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ "103، 104".
وَفِي الْبَقَرَةِ ذَكَرَ الْقَصَاصَ فِي الْقَتْلَى، وَهُنَا ذَكَرَ أَوَّلَ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ، وَالسَّبَبُ الَّذِي لِأَجْلِهِ وَقَعَ، وَقَالَ:
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=32مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا "32"، وَذَلِكَ أَبْسَطُ مِنْ قَوْلِهِ [فِي الْبَقَرَةِ] :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=179وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ "الْبَقْرَةُ: 179".
وَفِي الْبَقْرَةِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=58وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ "الْبَقْرَةُ: 58"، وَذُكِرَتْ قِصَّتُهَا [هُنَا مُطَوَّلَةً. وَذَكَرَ فِي الْبَقَرَةِ مَنِ ارْتَدَّ مُقْتَصِرًا عَلَيْهِ، وَقَالَ] 2 هُنَا:
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=54فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ "54".
وَفِي الْبَقَرَةِ قِصَّةُ الْأَيْمَانِ مُوجَزَةً، وَزَادَ هُنَا بَسْطًا بِذِكْرِ الْكَفَّارَةِ.
وَفِي الْبَقَرَةِ قَالَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=219فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا "الْبَقْرَةُ: 219". وَزَادَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ ذَمَّهَا، وَصَرَّحَ بِتَحْرِيمِهَا.
وَفِيهَا مِنَ الِاعْتِلَاقِ بِسُورَةِ الْفَاتِحَةِ: بَيَانُ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ
[ ص: 95 ] وَالضَّالِّينَ فِي قَوْلِهِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=60قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ "60" الْآيَةَ. وَقَوْلُهُ:
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=77قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ "77".
وَأَمَّا اعْتِلَاقُهَا بِسُورَةِ النِّسَاءِ، فَقَدْ ظَهَرَ لِي فِيهِ وَجْهٌ بَدِيعٌ جِدًّا; وَذَلِكَ أَنَّ سُورَةَ النِّسَاءِ اشْتَمَلَتْ عَلَى عِدَّةِ عُقُودٍ صَرِيحًا وَضِمْنًا، فَالصَّرِيحُ: عُقُودُ الْأَنْكِحَةِ، وَعَقْدُ الصَّدَاقِ، وَعَقْدُ الْحَلِفِ، فِي قَوْلِهِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=33وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ "النِّسَاءُ: 33". وَعَقْدُ الْأَيْمَانِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَبَعْدَ ذَلِكَ عَقْدُ الْمُعَاهَدَةِ وَالْأَمَانِ فِي قَوْلِهِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=90إِلا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ "النِّسَاءُ: 90"، وَقَوْلُهُ:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=92وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ "النِّسَاءُ: 92".
وَالضِّمْنِيُّ: عَقْدُ الْوَصِيَّةِ، وَالْوَدِيعَةِ، وَالْوِكَالَةِ، وَالْعَارِيَةِ، وَالْإِجَارَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الدَّاخِلِ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=58إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا "النِّسَاءُ: 58"، فَنَاسَبَ أَنْ يُعَقِّبَ بِسُورَةٍ مُفْتَتَحَةٍ بِالْأَمْرِ بِالْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ:
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=1يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ "1" الَّتِي فَرَغَ مِنْ ذِكْرِهَا فِي السُّورَةِ الَّتِي تَمَّتْ، فَكَانَ ذَلِكَ غَايَةً فِي التَّلَاحُمِ وَالتَّنَاسُبِ وَالِارْتِبَاطِ.
وَوَجْهٌ آخَرُ فِي تَقْدِيمِ سُورَةِ النِّسَاءِ، وَتَأْخِيرِ سُورَةِ الْمَائِدَةِ; وَهُوَ: أَنَّ تِلْكَ أَوَّلُهَا:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=1يَا أَيُّهَا النَّاسُ "النِّسَاءُ: 1"، وَفِيهَا الْخِطَابُ بِذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ، وَهُوَ أَشْبَهُ بِخِطَابِ [الْكُفَّارِ وَتَنْزِيلِ] 1 الْمَكِّيِّ، [وَهَذِهِ أَوَّلُهَا: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا " "1" وَفِيهَا الْخِطَابُ بِذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ، وَهُوَ أَشْبَهُ بِخِطَابِ الْمَدَنِيِّ] 2 وَتَقْدِيمِ الْعَامِّ وَشَبَهُ الْمَكِّيِّ أَنْسَبُ.
ثُمَّ إِنَّ هَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ فِي التَّلَازُمِ وَالِاتِّحَادِ نَظِيرُ الْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ، فَتِلْكُمَا فِي تَقْرِيرِ الْأُصُولِ; مِنَ الْوَحْدَانِيَّةِ، وَالْكِتَابِ، وَالنُّبُوَّةِ، وَهَاتَانِ فِي تَقْرِيرِ الْفُرُوعِ الْحُكْمِيَّةِ.
[ ص: 96 ] وَقَدْ خُتِمَتِ الْمَائِدَةُ بِصِفَةِ الْقُدْرَةِ، كَمَا افْتُتِحَتِ النِّسَاءُ بِذَلِكَ.
وَافْتُتِحَتِ النِّسَاءُ بِبَدْءِ الْخَلْقِ، وَخُتِمَتِ الْمَائِدَةُ بِالْمُنْتَهَى مِنَ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، فَكَأَنَّهُمَا سُورَةٌ وَاحِدَةٌ، اشْتَمَلَتْ عَلَى الْأَحْكَامِ مِنَ الْمُبْتَدَأِ إِلَى الْمُنْتَهَى.
وَلَمَّا وَقَعَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=105إِنَّا أَنْـزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ "النِّسَاءُ: 105" الْآيَاتُ، وَكَانَتْ نَازِلَةً فِي قِصَّةِ سَارِقٍ سَرَقَ دِرْعًا، فَصَّلَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ أَحْكَامَ السِّرَاقِ وَالْخَائِنِينَ.
وَلَمَّا ذَكَرَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ أَنَّهُ أَنْزَلَ إِلَيْكَ الْكِتَابَ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ، ذَكَرَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ آيَاتٍ فِي الْحُكْمِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ حَتَّى بَيْنَ الْكُفَّارِ، وَكَرَّرَ قَوْلَهُ: " وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ " "44، 45، 46".
فَانْظُرْ إِلَى هَذِهِ السُّوَرِ الْأَرْبَعِ الْمَدَنِيَّاتِ، وَحُسْنِ تَرْتِيبِهَا، وَتَلَاحُمِهَا، وَتَنَاسُقِهَا، وَتَلَازُمِهَا. وَقَدِ افْتُتِحَتِ الْبَقَرَةُ الَّتِي هِيَ أَوَّلُ مَا نَزَلَ فِي
الْمَدِينَةِ، وَخُتِمَتْ بِالْمَائِدَةِ الَّتِي هِيَ آخِرُ مَا نَزَلَ بِهَا، كَمَا فِي حَدِيثِ
nindex.php?page=showalam&ids=13948التِّرْمِذِيِّ.