وذاك حين قتلوا مسيلمه وانقلبت جيوشه منهزمه
ذكر في هذا البيت مشيرا إلى القصة المتضمنة سبب جمعه فيها. الوقت الذي كان فيه جمع القرآن في الصحففقوله: وذاك؛ إشارة إلى الجمع المفهوم من قوله: قبل جمعه، أي: وذلك الجمع كان حين قتل الصحابة -رضي الله عنهم- مسيلمة الكذاب، وانقلبت أي: رجعت جيوشه منهزمة، والجيوش جمع جيش، وهو الجمع الكثير السائرون لحرب أو غيرها، ومعنى منهزمة منكسرة، ومسيلمة لقب هارون بن حبيب، وكنيته أبو ثمامة، وهو من قبيلة تسمي بني حنيفة، وبلده مدينة باليمن تسمى اليمامة، وهو أحد الكذابين اللذين ادعيا النبوءة في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، وهو كذاب اليمامة، والكذاب الآخر: هو الأسود بن كعب العنسي، وهو كذاب صنعاء، وكان يزعم أن ملكين يكلمانه أحدهما سحيق والآخر شريق، وكان مسيلمة يزعم أن جبريل يأتيه، وكان يبعث إلى مكة من يخبره بأحوال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وينقل إليه ما سمعه من القرآن ليقرأه على جماعته، ويقول لهم: نزل علي هذا القرآن، وتسمى فيهم رحمانا، فلما تواتر القرآن من رسول الله صلى الله عليه وسلم بطلت دعوى مسيلمة الكذاب فاختلق كلاما يوهمه قرآنا؛ فمجت ركاكته الأسماع ونفرت من بشاعته الطباع؛ كقوله: والزارعات زرعا والحاصدات حصدا، والطاحنات طحنا، والخابزات خبزا، والثاردات ثردا، يا ضفدع بنت ضفدعين إلى الماء كم تنقنقين، لا الماء تكدرين، ولا الشراب تمنعين، أعلاك في الماء وأسفلك في الطين. وسمع بسورة الفيل فقال: الفيل ما الفيل، وما أدراك ما الفيل، له ذنب وثيل، وخرطوم [ ص: 12 ] طويل، إلى غير ذلك من فظيع كذبه. وقد أخرج من طريق البخاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أبي هريرة فكان أحدهما بينما أنا نائم رأيت في يدي سوارين من ذهب، فأهمني شأنهما، فأوحي إلي في المنام أن انفخهما، فنفختهما فطارا؛ فأولتهما كذابين يخرجان بعدي، العنسي، والآخر مسيلمة الكذاب صاحب اليمامة. ا ه.
ولما انتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الدار الآخرة وولي الخلافة وارتدت قبائل من العرب أظهر أبو بكر مسيلمة إلى ما كان سبب هلاكه، فجهز له أبي بكر فئة من المسلمين ذات بأس شديد، وأمر عليهم سيف الله أبو بكر فسارت إليه فلما التقت الفئتان استعرت نار الحرب بينهما وتأخر الفتح فمات من المسلمين ألف ومائتان منهم سبعمائة من حملة القرآن، فثار خالد بن الوليد، مع من سلم من المسلمين على البراء بن مالك مسيلمة وجيشه، وجاء نصر الله فانهزموا، وتبعهم المسلمون حتى أدخلوهم حديقة، فأغلق أصحاب مسيلمة بابها، فحمل درقته وألقى نفسه عليهم حتى صار معهم في الحديقة، وفتح الباب للمسلمين فدخلوا وقتلوا البراء بن مالك مسيلمة وأصحابه ومات من المشركين زهاء عشرة آلاف؛ فسميت حديقة الموت، وكان الذي قتل مسيلمة وحشيا كما ثبت في صحيح وقيل غير ذلك، فلما رأى البخاري، -رضي الله عنه- ما وقع بقراء القرآن خشي على من بقي منهم، وأشار على عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بجمع القرآن. أبي بكر
أسند: في المحكم إلى أبو عمرو الداني أن زيد بن ثابت -رضي الله عنه- جاء إلى عمر بن الخطاب فقال: إن القتل قد أسرع في قراء القرآن أيام أبي بكر اليمامة، وقد خشيت أن يهلك القرآن فاكتبه، فقال فكيف نصنع شيئا لم يأمرنا فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم يعهد إلينا فيه عهدا؟ فقال أبو بكر: افعل؛ فهو والله خير، فلم يزل عمر: عمر حتى أرى الله بأبي بكر مثل رأي أبا بكر قال عمر، زيد: فدعاني فقال: إنك رجل شاب قد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فاجمع القرآن واكتبه، قال زيد: كيف تصنعون شيئا لم يأمركم فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأمر ولم [ ص: 13 ] يعهد إليكم فيه بعهد؟ قال: فلم يزل أبو بكر حتى أراني الله الذي رأى أبو بكر أبو بكر والله لو كلفوني نقل الجبال لكان أيسر من الذي كلفوني، قال: "فجعلت أتتبع القرآن من صدور الرجال ومن الرقاع، ومن الأضلاع، ومن العسب، قال: ففقدت آية كنت أسمعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم أجدها عند أحد، فوجدتها عند رجل من الأنصار: وعمر، من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر فألحقتها في سورتها، فكانت تلك الصحف عند حتى مات، ثم كانت عند أبي بكر حتى مات، ثم كانت عند عمر حتى ماتت. ا ه. حفصة
وفي بعض الروايات عن فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاع والعسب واللخاف وصدور الرجال. ا ه. زيد بن ثابت:
والرقاع: جمع رقعة بالضم، وهي القطعة من الجلد، والعسب: جمع عسيب؛ وهو جريدة من النخل مستقيمة دقيقة مزال خوصها، واللخاف: ككتاب حجارة بيض رقاق.
واحدها: لخفة بفتح اللام، وقد كانوا يكتبون في هاته الأشياء لقلة الورق (أي: الكاغد).