الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                        معلومات الكتاب

                                                                                        البحر الرائق شرح كنز الدقائق

                                                                                        ابن نجيم - زين الدين بن إبراهيم بن محمد

                                                                                        صفحة جزء
                                                                                        ( قوله فارم جمرة العقبة من بطن الوادي [ ص: 369 ] بسبع حصيات كحصى الخذف ) أي المكان المسمى بذلك ، والجمار هي الصغار من الحجارة جمع جمرة وبها سموا المواضع التي ترمى جمارا وجمرات لما بينهما من الملابسة وقيل لتجمع ما هنالك من الحصى من تجمر القوم إذا تجمعوا وجمر شعره إذا جمعه على قفاه والخذف بالخاء والذال المعجمتين أن ترمي بحصاة أو نواة أو نحوها تأخذه بين سبابتيك وقيل أن تضع طرف الإبهام على طرف السبابة ، وفعله من باب ضرب كذا في المغرب ، وصحح الولوالجي القول الثاني ; لأنه أكثر إهانة للشيطان ، وهذا بيان للسنة فلو رمى كيف أراد جاز ولو رمى من فوق العقبة أجزأه ، وكان مخالفا للسنة قيد بالرمي ; لأنه لو وضعها وضعا لم يجز لترك الواجب والطرح رمي إلى قدميه فيكون مجزئا إلا أنه مخالف للسنة ومقدار الرمي أن يكون بين الرامي وموضع السقوط خمسة أذرع كذا في الهداية وفي الظهيرية يجب أن يكون بينهما هذا القدر فلو رماها فوقعت قريبا من الجمرة يكفيه ، ولو وقعت بعيدا لم يجزه ; لأنه لم يعرف قربة إلا في مكان مخصوص ، والقريب عفو ولو وقعت الحصاة على ظهر رجل أو على محمل وثبتت عليه كان عليه إعادتها ، وإذا سقطت عن المحمل أو عن ظهر الرجل في سننها ذلك أجزأه

                                                                                        وأشار بقوله كحصى الخذف إلى أنه لو رمى بسبع حصيات جملة واحدة فإنه يكون عن واحدة لأن المنصوص عليه تفرق الأفعال والتقييد بالسبع لمنع النقص لا لمنع الزيادة فإنه لو رماها بأكثر من السبع لم [ ص: 370 ] يضره والتقييد بالحصى لبيان الأكمل ، وإلا فيجوز الرمي بكل ما كان من جنس الأرض كالحجر والمدر وما يجوز التيمم به ولو كفا من تراب ولا يجوز بالخشب والعنبر واللؤلؤ والجواهر والذهب والفضة إما لأنها ليست من جنس الأرض أو ; لأنها نثار وليست برمي أو ; لأنه إعزاز لا إهانة ، وكذا التقييد بحصى الخذف لبيان الأكمل فإنه لو رماها بأكبر منه جاز لحصول المقصود غير أنه لا يرمى بالكبار من الحجارة كي لا يتأذى به غيره ، ولو رمى صح وكره ولم يبين الموضع المأخوذ منه الحصا لأنه يجوز أخذه من أي موضع شاء فليأخذها من مزدلفة أو من قارعة الطريق ، ويكره من عند الجمرة تنزيها ; لأنه حصى من لم يقبل حجه فإنه من قبل حجه رفع حصاه كما ورد في الحديث ولم يشترط طهارة الحجارة ; لأنه يجوز الرمي بالحجر النجس ، والأفضل غسلها وفي مناسك الحصيري جرى التوارث بحمل الحصى من جبل على الطريق فيحمل منه سبعين حصاة قال وفي مناسك الكرماني يدفع من المزدلفة بسبع حصيات ، وقال قوم بسبعين حصاة ، وليس مذهبنا ا هـ .

                                                                                        كذا في معراج الدراية وفي فتح القدير : ويكره أن يلتقط [ ص: 371 ] حجرا واحدا فيكسره سبعين حجرا صغيرا كما يفعله كثير من الناس اليوم ، ولم يبين وقته وله أوقات أربعة وقت الجواز ووقت الاستحباب ووقت الإباحة ووقت الكراهة ، فالأول ابتداؤه من طلوع الفجر يوم النحر وانتهاؤه إذا طلع الفجر من اليوم الثاني حتى لو أخره حتى طلع الفجر في اليوم الثاني لزمه دم عند أبي حنيفة خلافا لهما ولو رمى قبل طلوع فجر يوم النحر لم يصح اتفاقا ، والثاني من طلوع الشمس إلى الزوال ، والثالث من الزوال إلى الغروب ، والرابع قبل طلوع الشمس وبعد الغروب كذا في المحيط وغيره وجعل في الفتاوى الظهيرية الوقت المباح من المكروه فهي ثلاثة عنده والأكثرون على الأول .

                                                                                        [ ص: 369 ]

                                                                                        التالي السابق


                                                                                        [ ص: 369 ] ( قوله أي المكان المسمى بذلك ) تفسير لجمرة العقبة ( قوله وقيل أن تضع طرف الإبهام إلخ ) قال في الشرنبلالية عليه مشى في الهداية فقال وكيفية الرمي أن يضع الحصاة على ظهر إبهامه اليمنى ويستعين بالمسبحة ا هـ .

                                                                                        قال الكمال وهذا التفسير يحتمل كلا من تفسيرين قيل بهما أحدهما أن يضع طرف إبهامه اليمنى على وسط السبابة ويضع الحصاة على ظهر الإبهام كأنه عاقد سبعين فيرميها ، وعرف منه أن المسنون في كون الرمي باليد اليمنى ، والآخر أن يحلق سبابته ويضعها على مفصل إبهامه كأنه عاقد عشرة وهذا في التمكن من الرمي به مع الزحمة والوهجة عسر ، وقيل يأخذها بطرفي إبهامه وسبابته وهذا هو الأصح ; لأنه الأيسر المعتاد ا هـ .

                                                                                        وكذا نقل تصحيحه في السراج عن النهاية وهو الذي صححه الولوالجي أيضا وظاهر كلام المؤلف أن الثاني مما في المغرب هو هذا فما مشى عليه في الهداية غيره كما يدل عليه كلام الكمال وهو الظاهر خلافا لما مر عن الشرنبلالية ( قوله ومقدار الرمي إلخ ) هذا تقدير أقل ما يكون بينه وبين المكان في المسنون كذا في الفتح . ( قوله فلو رماها فوقعت قريبا من الجمرة إلخ ) أي قدر ذراع ونحوه ومنهم من لم يقدره اعتبارا للقرب عرفا وضده البعد وتمامه في الفتح وقال في اللباب وقدر القريب بثلاثة أذرع والبعيد بما فوقها وقيل القريب ما دون الثلاثة . ( قوله ولو وقعت الحصاة على ظهر رجل إلخ ) فلو وقعت على الشاخص أي أطراف الميل الذي هو علامة للجمرة أجزأه ولو على قبة الشاخص ولم تنزل عنه فالظاهر أنه لا يجزئه للبعد لباب وفيه وإن لم يدر أنها وقعت في المرمى بنفسها أو بنفض من وقعت عليه وتحريكه ففيه اختلاف ، والاحتياط أن يعيده وكذا لو رمى وشك في وقوعها موقعها فالأحوط أن يعيد .

                                                                                        ( قوله ولو رمى بسبع حصيات جملة إلخ ) وفي الكرماني إذا وقعت متفرقة على مواضع الجمرات جاز كما لو جمع بين أسواط الحد بضربة واحدة وإن وقعت على مكان واحد لا يجوز ، وقال مالك والشافعي وأحمد لا يجزئه إلا عن حصاة واحدة كيفما كان ; لأنه مأمور بالرمي سبع مرات شرح اللباب ثم نقل عن مصنف اللباب في منسكه الكبير أن الذي في المشاهير من كتب أصحابنا الإطلاق في عدم الجواز كما هو قول الأئمة الثلاثة ، ثم نازعه بما فيه نظر لمن أحسن النظر فراجعه وتبصر وفي حاشية المدني عن المرشدي ولا يجزئ الرمي بالقوس ونحوه ولا الرمي بالرجل ومن كان مريضا أو مغمى عليه توضع الحصاة في يده ويرمي بها ، وإن رمى عنه غيره بأمره أجزأه والأول أفضل وفي اللباب ولو رمى بحصاتين إحداهما عن نفسه والأخرى عن غيره جاز ويكره ، والأولى أن يرمي أولا عن نفسه ثم عن غيره ( قوله فإنه لو رماها بأكثر من السبع لم يضره ) قال في اللباب ولو رمى أكثر من سبع يكره ، وقال شارحه أي إذا رماه عن قصد ، وأما إذا شك في السابع ورماه وتبين أنه الثامن فإنه لا يضره ذلك هذا وقد ناقضه في الكبير بقوله ولو رمى بأكثر من السبع لا يضره ا هـ .

                                                                                        أقول : ما ذكره في المنسك الكبير هو ما ذكره المؤلف هنا ولعله محمول على غير القصد فلا تناقض إذ لا شك أن السبع هو المسنون فالزيادة عليها مخالفة للسنة فتكره لو كانت مقصودة وإلا فلا وفي حاشية المدني قال الشيخ عز الدين بن جماعة في مناسكه الكبرى قالوا لو زاد الرمي على السبع هل يندب أو يكره فقال بعضهم إنه لا تكره الزيادة ; لأن رميه طاعة وقال بعضهم بل تكره ; لأنه خلاف السنة هكذا نقل الخلاف ا هـ .

                                                                                        وقال شمس الأئمة لو زاد على سبع حصيات لا أجر له وينبغي أن يكره قال القاضي عيد : وينبغي أن يكون هذا هو المذهب ويكره رمي الجمرتين [ ص: 370 ] كذلك في هذا اليوم بالطريق الأولى ; لأنه بدعة ولم يفعله عليه الصلاة والسلام ، وربما اتخذها الجهال نسكا ا هـ .

                                                                                        ( قوله وإلا فيجوز الرمي إلخ ) قال في النهر ظاهر الإطلاق يعطي جوازه بالياقوت والفيروزج وفيهما خلاف ومنعه الشارحون وغيرهم بناء على اشتراط الاستهانة بالمرمى ، وأجازه بعضهم بناء على نفي ذلك الاشتراط ، وممن ذكر جوازه الفارسي في مناسكه كذا في الفتح وهذا يفيد ترجيح اعتبار الشرط المذكور ومقتضى كلام الشارح تبعا للغاية عدم اعتباره حيث جزما بجوازه بالأحجار النفيسة بخلاف الخشب والعنبر واللؤلؤ يعني كباره ; لأنها ليست من أجزاء الأرض ، وأما الذهب والفضة فنثار وليست برمي ا هـ .

                                                                                        وفي الشرنبلالية قدمنا جواز الرمي بكل ما كان من جنس الأرض وممن صرح به صاحب الهداية فشمل كل الأحجار النفيسة كالياقوت والزبرجد والزمرد والبلخش الفيروزج والبلور والعقيق ، وبهذا صرح الزيلعي إلا أنه قال في العناية اعترض على صاحب الهداية بالفيروزج والياقوت فإنهما من أجزاء الأرض حتى جاز التيمم بهما ، ومع ذلك لا يجوز الرمي بهما ، وأجيب بأن الجواز مشروط بالاستهانة برميه وذلك لا يحصل بهما ا هـ .

                                                                                        فقد أثبت تخصيص العموم وهو مخالف لنص الزيلعي وخصص بالفيروزج والياقوت دون غيرهما فليتأمل ويحرر ا هـ .

                                                                                        بقي شيء وهو أن الزيلعي استثنى الجواهر وتبعه المؤلف مع أنه صرح بجواز الأحجار النفيسة ، ولم يذكر الجواهر العيني ولا الشمني قال نوح أفندي : لأنها من قبيل الأحجار النفيسة بل الأحجار النفيسة مستخرجة منها وفي حاشية مسكين تفرقة الزيلعي بين الجواهر والأحجار النفيسة في الحكم ليس إلا محض تحكم ا هـ .

                                                                                        لكن ذكر الشيخ إسماعيل في شرحه عن الغاية والجواهر وهي كبار اللؤلؤ ، وبه اندفع التحكم ; لأنها ليست من جنس الأرض وممن اعترض عن العناية بما في الغاية والزيلعي سعدي أفندي في حواشيه عليها ، وسبقه إليه في التتارخانية فإنه بعد ما ذكر الاعتراض والجواب السابقين وعزاهما إلى السغناقي .

                                                                                        قال واعلم أن هذه الرواية مخالفة لما في المحيط أي من الجواز بكل ما كان من جنس الأرض كما مر عن الهداية ( قوله إما لأنها ليست من جنس الأرض ) هذا خالص فيما قبل الذهب والفضة ، وقوله وإما لأنها نثار خاص بهما كما هو مذكور في السعدية عن الغاية وقوله وإما لأنه إعزاز إلخ يشمل الكل إلا الخشب إن كان مما ليس له قيمة . ( قوله كما ورد في الحديث ) جعله في الهداية أثرا وقال في الفتح وقوله به ورد الأثر كأنهما عن سعيد بن جبير قلت لابن عباس ما بال الجمار ترمى من وقت الخليل عليه السلام ولم تصر هضابا تسد الأفق فقال أما علمت أن من يقبل حجه يرفع حصاه قال ومن لم يقبل ترك حصاه . قال مجاهد لما سمعت هذا من ابن عباس جعلت على حصياتي علامة ثم توسطت الجمرة فرميت من كل جانب ثم طلبت فلم أجد بتلك العلامة شيئا ا هـ .

                                                                                        لكن في حاشية المدني عن شرح النقاية لمنلا علي القاري أنه رواه الدارقطني والحاكم ، وصححه { عن أبي سعيد الخدري قال قلت يا رسول الله هذه الجمار التي نرمي بها كل عام فنحسب أنها تنقص فقال إنه ما يقبل منها رفع ولولا ذلك لرأيتها أمثال الجبال } ا هـ .

                                                                                        واستشكله ابن كمال باشا بأن حج المشركين غير مقبول ، وأجيب بأن الكفار قد تقبل عباداتهم فيجازون عليها في الدنيا أقول : المراد أعمالهم التي هي عبادات صورة لا حقيقة ; لأن مثل الحج لا يكون عبادة إلا بالنية ، والكافر ليس من أهلها كما صرحوا به وتأمل هذا وفي منى خمس آيات هذه إحداها ، وقد نظمها بعضهم فقال

                                                                                        وآي منى خمس فمنها اتساعها لحجاج بيت الله لو جاوزوا الحدا ومنع حداة خطف لحم بأرضها
                                                                                        وقلة وجدان البعوض بها عدا وكون ذباب لا يعاقب طعمها
                                                                                        ورفع حصى المقبول دون الذي ردا .



                                                                                        ( قوله وليس مذهبنا ) قال في الشرنبلالية يعارضه قول الجوهرة ويستحب أن يأخذ حصى الجمار من المزدلفة أو من الطريق ا هـ .

                                                                                        ولذا قال في الهداية يأخذ الحصى من أي موضع شاء ا هـ .

                                                                                        فالنفي ليس إلا على التعيين أي لا يتعين الأخذ من المزدلفة لنا مذهبا وما قاله في الهداية يقتضي خلاف ما قيل [ ص: 371 ] إنه يلتقطها من الجبل الذي على الطريق في المزدلفة وما قيل يأخذ من المزدلفة سبعا فأفاد أنه لا سنة في ذلك يوجب خلافها الإساءة . ( قوله وانتهاؤه إذا طلع الفجر إلخ ) فيه أن وقت الجواز لا آخر له ; لأن المراد به الصحة لا الحل فالأولى عدم التعرض للانتهاء كما في عبارة المبسوط المذكورة في الفتح ثم ظهر لي الجواب بأنه أراد بيان وقت الجواز أداء كما أفاده في شرح اللباب ، لكن في الفتح ويثبت وصف القضاء في الرمي من غروب الشمس عند أبي حنيفة إلا أنه لا شيء فيه سوى ثبوت الإساءة إن لم يكن لعذر ا هـ .

                                                                                        تأمل هذا وفي حاشية المدني عن حاشية شيخه بعد عزوه ما ذكره المؤلف إلى المبسوط والمحيط الرضوي قال لكن في الهداية والزيلعي والعيني والبدائع والكافي والكرماني وغيرها أن وقته من طلوع الفجر إلى غروب الشمس ، وقال في مبسوط السرخسي ففي ظاهر المذهب وقته إلى غروب الشمس ، ولكنه لو رمى بالليل لا يلزمه شيء ا هـ .

                                                                                        وعليه يحمل ما قدمناه عن الفتح تأمل . ( قوله والثاني من طلوع الشمس إلى الزوال ) قال الرملي أي المستحب وقد وافق على الاستحباب العيني ، وذكره في مجمع الرواية عن المحيط أيضا بصيغة المسنون ووافقه في النهر . ( قوله والرابع قبل طلوع الشمس إلخ ) قيده في الفتح بعد أحاديث ساقها بعدم العذر قال حتى لا يكون رمي الضعفة قبل الشمس ورمي الرعاة ليلا يلزمهم الإساءة وكيف بذلك بعد الترخص .




                                                                                        الخدمات العلمية