الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                        معلومات الكتاب

                                                                                        البحر الرائق شرح كنز الدقائق

                                                                                        ابن نجيم - زين الدين بن إبراهيم بن محمد

                                                                                        صفحة جزء
                                                                                        ( باب القران ) هو مصدر قرن من باب نصر وفعال يجيء مصدرا من الثلاثي كلباس وهو الجمع بين شيئين يقال قرنت البعيرين إذا جمعت بينهما بحبل ، وسيأتي معناه شرعا ثم اعلم أن المحرمين أربعة مفرد بالحج إن أحرم به مفردا أو مفرد بالعمرة إن أحرم بها في غير أشهر الحج وطاف لها كذلك حج من عامه أو لا أو طاف فيها ولم يحج من عامه أو أحرم بها في أشهر الحج وطاف كذلك ولم يحج من عامه أو حج وألم بينهما بأهله إلماما صحيحا ، ومتمتع إن أتى بأكثر أشواط العمرة في أشهر الحج بعدما أحرم بها فقط مطلقا ، ثم حج من عامه من غير أن يلم بأهله إلماما صحيحا وقارن إن أحرم بهما معا ، أو أدخل إحرام الحج على إحرام العمرة قبل أن يطوف لها أكثر الأشواط أو أدخل إحرام العمرة إلى إحرام الحج قبل أن يطوف للقدوم ولو شوطا ولا إساءة في القسمين الأولين وهو قارن مسيء في الثالث ، وأما الإحرام المبهم كأن يحرم بنسك مبهم ثم يصرفه إلى ما شاء من حج أو عمرة أو لهما الإحرام المعلق كأن يحرم بإحرام كإحرام زيد فليس خارجا عن الأربعة كما لا يخفى .

                                                                                        ( قوله هو أفضل ثم التمتع ثم الإفراد ) بيان لأمرين الأول جواز الثلاثة وهو مجمع عليه إلا ما ثبت في الصحيحين عن عمرو وعن عثمان رضي الله عنهما أنهما كان ينهيان عن التمتع ، وحمله العلماء على نهي التنزيه حملا للناس على ما هو الأفضل لا أنهما يعتقدان بطلانه مع علمهما بالآية الشريفة ، وحمله على أن المراد به فسخ الحج إلى العمرة ضعيف ; لأن [ ص: 384 ] سياق الحديث في الصحيح يقتضي خلافه ، وهو ثابت بالكتاب والسنة أيضا ، أما الأول فقوله تعالى { ولله على الناس حج البيت } دليل الإفراد .

                                                                                        وقوله { وأتموا الحج والعمرة لله } دليل القران ، وقوله { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج } دليل التمتع ، وأما الثاني فما في الصحيحين من حديث عائشة قالت { خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع فمنا من أهل بعمرة ، ومنا من أهل بحج وعمرة ومنا من أهل بالحج ، وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج } وفي رواية لمسلم { منا من أهل بالحج مفردا ومنا من قرن ومنا من تمتع } الثاني تفضيل القران ثم التمتع ثم الإفراد ، وفضل مالك والشافعي الإفراد ، وفضل أحمد التمتع وأصله الاختلاف في حجته صلى الله عليه وسلم وقد أكثر الناس الكلام فيها ، وأوسعهم نفسا في ذلك الإمام الطحاوي فإنه تكلم في ذلك زيادة على ألف ورقة ، وقد قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى ليس علي شيء من الاختلاف أيسر من هذا وإن كان الغلط فيه قبيحا من جهة أنه مباح يعني لما كانت الثلاثة مباحة لم يكن في الاختلاف تغيير حكم لكن لما كانت حجة واحدة ولم يتفقوا على نقلها كان اختلافهم قبيحا منهم فما يرجح أنه عليه السلام كان قارنا ما رواه علي في الصحيحين وأنس في الصحيحين بروايات كثيرة وعمران بن الحصين في صحيح مسلم وعمر بن الخطاب في صحيح البخاري وأبي داود والنسائي وحفصة في الصحيحين وأبو موسى الأشعري في الصحيحين .

                                                                                        ومما يرجح أنه عليه السلام كان مفردا ما ثبت في الصحيح من رواية جابر وابن عمر وابن عباس وعائشة رضي الله عنهم ومما يرجح أنه كان متمتعا ما ثبت عن ابن عمر وعائشة في الصحيحين وعن ابن عباس فيما رواه الترمذي وحسنه وعن عمران بن الحصين في الصحيحين ، وجمع أئمتنا بين الروايات بأن سبب رواية الإفراد سماع من رأى تلبيته بالحج وحده ، ورواية التمتع سماع من سمعه يلبي بالعمرة ، ورواية القران سماع من سمعه يلبي بهما ، وهذا لأنه لا مانع من إفراد ذكر نسك في التلبية وعدم ذكر شيء أصلا وجهة أخرى مع نية القران فهو نظير سبب الاختلاف في تلبيته عليه السلام أكانت دبر الصلاة أو عند استواء ناقته أو حين علا على البيداء فروى كل بحسب ما سمع ، وما يرجح القران أن من روى الإفراد روى التمتع فتناقض بخلاف من روى التمتع وهو بلغة القرآن الكريم وعرف الصحابة أعم من القران ، وترجح الفرد المسمى بالقران في الاصطلاح بما في الصحيح عن عمر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بوادي العقيق يقول { أتاني الليلة آت من ربي عز وجل فقال صل في هذا الوادي المبارك ركعتين } وقل عمرة في حجة ولا بد له من امتثال ما أمر به في مقامه الذي هو وحي ولأئمتنا ترجيحات كثيرة .

                                                                                        وقال النووي في شرح المهذب والصواب الذي نعتقده أنه صلى الله عليه وسلم أحرم بالحج أولا مفردا ثم أدخل عليه العمرة فصار قارنا وإدخال العمرة على الحج جائز على أحد القولين عندنا وعلى الأصح لا يجوز لنا ، وجاز للنبي صلى الله عليه وسلم تلك السنة للحاجة وأمر به في قوله لبيك عمرة وحجة فمن روى أنه كان مفردا اعتمد أول الإحرام ، ومن روى أنه كان قارنا اعتمد آخره ، ومن روى أنه كان متمتعا أراد التمتع اللغوي وهو الانتفاع بأن كفاه عن النسكين فعل واحد ويؤيده أنه عليه السلام لم يعتمر تلك السنة عمرة مفردة لا قبل الحج ولا بعده ، وقد قدمنا أن القران أفضل من إفراد الحج من غير عمرة بلا خلاف ولو جعلت حجته عليه السلام مفردة لزم أن لا يكون اعتمر تلك السنة ، ولم يقل أحد أن الحج وحده أفضل من القران ا هـ .

                                                                                        [ ص: 385 ] وبهذا تبين صحة ما في النهاية من أن محل الاختلاف بيننا وبين الشافعي إنما هو أن إفراد كل نسك بإحرام في سنة واحدة أفضل أو الجمع بينهما بإحرام واحد أفضل ، وأنه لم يقل أحد بتفضيل الحج وحده على القران وتبين به بطلان ما ذكره الشارح هنا ردا على صاحب النهاية .

                                                                                        وما روي عن محمد أنه قال حجة كوفية وعمرة كوفية أفضل عندي من القران فليس بموافق لمذهب الشافعي في تفضيل الإفراد فإنه يفضل الإفراد سواء أتى بنسكين في سفرة واحدة أو في سفرتين ومحمد إنما فضل الإفراد إذا اشتمل على سفرين ، وبهذا اندفع ما ذكره الشارح من لزوم موافقة محمد للشافعي .

                                                                                        [ ص: 383 ]

                                                                                        التالي السابق


                                                                                        [ ص: 383 ] ( باب القران ) ( قوله وطاف لها كذلك ) أي في غير أشهر الحج وقوله أو طاف فيها أي أشهر الحج ، وقوله كذلك أي في أشهر الحج ( قوله في القسمين الأولين ) أي من أقسام القارن الثلاثة [ ص: 384 ] ( قوله وفضل أحمد التمتع ) قال المرحوم الشيخ عبد الرحمن أفندي العمادي مفتي دمشق الشام في منسكه المسمى المستطاع من الزاد ما حاصله أني لما حججت اخترت التمتع لما أنه أفضل من الإفراد وأسهل من القران لما على القارن من مشقة جمع أداء النسكين ولما يلزمه من الجناية من الدمين ومع ذلك فلنكتة أخرى كان التمتع بها لأمثالنا أحرى ، وهي إمكان المحافظة على صيانة إحرام الحج للمتمتع من الرفث والفسوق والجدال فيرجى له أن يكون حجه مبرورا ; لأنه مفسر بما لا رفث ولا فسوق ولا جدال فيه ، وإنما كان المتمتع أقرب إلى الاحتراز عن ذلك فإنه لا يحرم من الميقات إلا بالعمرة فقط ، وإنما يحرم بالحج يوم التروية من الحرم فيمكنه الاحتراز في ذينك اليومين فيسلم حجه بخلاف المفرد والقارن يبقيان محرمين بالحج أكثر من عشرة أيام ، وقلما يقدر الإنسان على الاحتراز في مثل هذه المدة قال شيخ مشايخنا الشهاب أحمد المنيني في مناسكه وهو كلام نفيس يريد به أن القران في حد ذاته أفضل من التمتع لكن قد يقترن به ما يجعله مرجوحا بالنظر إلى التمتع فإذا دار الأمر بين أن يحج الرجل قارنا ولا يسلم إحرامه من الرفث والفسوق والجدال وبين أن يحج متمتعا ويسلم إحرامه عنها فالأولى في حقه أن يحج متمتعا ليسلم حجه ويكون مبرورا ; لأنه وظيفة العمر فليحرص الحاج مهما أمكنه على صونه عن مثل هذه الأمور لئلا يضيع سعيه وماله ا هـ .

                                                                                        ( قوله ولو جعلت حجته عليه السلام مفردة إلخ ) أي من غير إدخال العمرة عليها وهذا من كلام النووي كما [ ص: 385 ] لا يخفى لا كما فهمه الرملي ( قوله وتبين به بطلان ما ذكره الشارح ) حيث قال بعد نقل كلام النهاية ولم ينقل فيه شيئا ، وإنما قاله حزرا واستدلالا بمواضع الاحتجاج ، وإطلاقهم أن القران أفضل من الإفراد يرده ; لأن ظاهره يراد به الإفراد بالحج وأيضا لو كان كما قاله لكان محمد مع الشافعي وكلهم كانوا معه ; لأن محمدا لم يبين أن قولهما خلاف ذلك فيحتمل أن يكون مجمعا عليه ا هـ . وجزم في الفتح بما في النهاية .

                                                                                        ( قوله وبهذا اندفع ما ذكره الشارح ) قال في النهر وبه استغنى عما في الحواشي السعدية من أنه يجوز أن يكون معه على هذه الرواية ، وأما لزوم كون الكل معه فممنوع بقوله عندي .




                                                                                        الخدمات العلمية