الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                        معلومات الكتاب

                                                                                        البحر الرائق شرح كنز الدقائق

                                                                                        ابن نجيم - زين الدين بن إبراهيم بن محمد

                                                                                        صفحة جزء
                                                                                        ( قوله : وإذا أسلم أحد الزوجين عرض الإسلام على الآخر فإن أسلم وإلا فرق بينهما ) لأن المقاصد قد فاتت فلا بد من سبب تبتنى عليه الفرقة ، والإسلام طاعة فلا يصلح سببا فيعرض الإسلام لتحصل المقاصد بالإسلام أو تثبت الفرقة بالإباء وإضافة الشافعي الفرقة إلى الإسلام من باب فساد الوضع وهو أن يترتب على العلة نقيض ما تقتضيه وسيأتي أن زوج الكتابية إذا أسلم فإنه يبقى النكاح لجواز التزوج بها ابتداء فحينئذ صار المراد من عبارته هنا أنهما إما مجوسيان فأسلم الزوج أو المرأة أو كتابيا فأسلمت المرأة أو أحدهما كتابي ، والآخر مجوسي فأسلم الكتابي أو المجوسي وهو المرأة فالحاصل أنهما إما أن يكونا كتابيين أو مجوسيين أو أحدهما كتابي ، والآخر مجوسي وهو صادق بصورتين فهي أربعة وكل من الأربعة إما أن يكون المسلم الزوج أو الزوجة فهي ثمانية منها مسألتان لا يعرض الإسلام فيهما على الآخر وهما إذا كانت المرأة كتابية ، والزوج كتابي أو مجوسي ، والمسلم هو الزوج ، والباقية مراده هنا أطلق في الآخر فشمل البالغ ، والصبي لكن بشرط التمييز حتى يفرق بينهما بإباء الصبي المميز باتفاق على الأصح ، والفرق لأبي يوسف بين ردته وإبائه أن الإباء تمسك بما هو عليه فيكون صحيحا فأما الردة فإنشاء لما لم يكن موجودا وهو يضره فلا يصح منه كذا في المبسوط ، وفيه الأصل أن كل من صح منه الإسلام إذا أتى به يصح منه الإباء إذا عرض عليه ا هـ .

                                                                                        وأما الصبي الذي لا يميز فإنه ينتظر عقله أي تمييزه ، والصبية كالصبي بخلاف ما إذا كان مجنونا فإنه لا ينتظر بل يعرض على أبويه لأنه ليس له نهاية معلومة كالمرأة إذا وجدت الزوج عنينا فإنه يؤجل ولو مجبوبا فإنه لا يؤجل بل يفرق للحال لعدم الفائدة في الانتظار بخلاف العنين يؤجل لإفادته ومعنى العرض على أبوي المجنون أن أي الأبوين أسلم بقي النكاح لأنه يتبع المسلم منهما كذا في فتح القدير ويرد على المصنف ما إذا أسلم الزوج وهي مجوسية فتهودت أو تنصرت داما على النكاح كما لو كانت يهودية أو نصرانية من الابتداء كذا في المبسوط وقوله : فإن أسلم وإلا فرق بينهما ينافيه وقيد بالإسلام لأن النصرانية إذا تهودت أو عكسه لا يلتفت [ ص: 227 ] إليهم لأن الكفر كله ملة واحدة وكذا لو تمجست زوجة النصراني فهما على نكاحهما كما لو كانت مجوسية في الابتداء ومعنى قوله وإلا فرق بينهما أنه إن لم يسلم الآخر بأن أبى عنه فرق بينهما وأما إذا لم يسلم ولم يمتنع بأن سكت فإنه يكرر العرض عليه لما في الذخيرة إذا صرح بالإباء فالقاضي لا يعرض الإسلام عليه مرة أخرى ويفرق بينهما

                                                                                        وإن سكت ولم يقل شيئا فالقاضي يعرض عليه الإسلام مرة بعد أخرى حتى تتم الثلاث احتياطا ا هـ .

                                                                                        ( قوله : وإباؤه طلاق لا إباؤها ) وقال أبو يوسف : لا يكون طلاقا في الوجهين لأن الفرقة سبب يشترك فيه الزوجان فلا يكون طلاقا كالفرقة بسبب الملك ولهما أنه بالإباء امتنع عن الإمساك بالمعروف مع قدرته عليه بالإسلام فينوب القاضي منابه في التسريح بالإحسان كما في الجب ، والعنة أما المرأة فليست بأهل للطلاق فلا ينوب منابها عند إبائها كذا في الهداية ومراده أنه لا ينوب منابها في الطلاق لأنه ليس إليها وإنما ينوب منابها فيما إليها وهو التفريق على أنه فسخ .

                                                                                        والحاصل أنه نائب عن كل منهما فيما إليه لا كما يتوهم من عبارة الهداية أنه نائب عن الزوج لا عنها لأنه لو كان كذلك لم تتوقف الفرقة على القضاء فيما إذا كانت الآبية وليس مراده أن الطلاق يقع بمجرد إبائه كما هو ظاهر العبارة لما قدمه من قوله فرق بينهما أي فرق القاضي بينهما ولو وقع بمجرد إبائه لم يحتج إلى تفريق القاضي ولذا قالوا وما لم يفرق القاضي بينهما فهي امرأته حتى يجب كمال المهر لها بموته قبل الدخول وإنما لا يتوارثان لو مات أحدهما قبل التفريق للمانع منه وهو كفر أحدهما لا للبينونة وسيأتي حكم المهر في الارتداد حيث قال : والإباء نظيره وأطلق في الزوج فشمل الصغير ، والكبير ، والمجنون فيكون إباء الصبي المميز طلاقا على الأصح كما في المبسوط وإباء أحد أبوي المجنون طلاقا أيضا مع أن الطلاق لا يصح منهما لما ذكرنا من المعنى قالوا وهي من أغرب المسائل حيث يقع الطلاق منهما نظيره إذا كانا مجبوبين أو كان المجنون عنينا فإن القاضي يفرق بينهما ويكون طلاقا اتفاقا وتحقيقه أن الصبي ، والمجنون أهلان للوقوع لا للإيقاع بدليل أن الصبي إذا ورث قريبه فإنه يعتق عليه وما نحن فيه وقوع لا إيقاع ونظيره لو علق الزوج الطلاق بشرط [ ص: 228 ] وهو عاقل فجن ثم وجد الشرط وقع عليه وهو مجنون لما ذكرنا وأشار بالطلاق إلى وجوب العدة عليها إن كان دخل بها لأن المرأة إذا كانت مسلمة فقد التزمت أحكام الإسلام ومن حكمه وجوب العدة

                                                                                        وإن كانت كافرة لا تعتقد وجوبها لأن الزوج مسلم ، والعدة حقه وحقوقنا لا تبطل بديانتهم وأشار أيضا إلى وجوب النفقة لها ما دامت في العدة ، وإن كانت المرأة مسلمة لأن المنع من الاستمتاع جاء من جهة الزوج وهو غير مسقط بخلاف ما إذا كانت كافرة وأسلم الزوج فلا نفقة لها لأن المنع من جهتها ولذا لا مهر لها إن كان قبل الدخول وأشار أيضا إلى وقوع طلاقه عليها ما دامت في العدة كما لو وقعت الفرقة بالخلع أو بالجب ، والعنة كذا في المحيط وظاهره أنه لا فرق في وقوع الطلاق عليها بين أن يكون هو الآبي أو هي وظاهر ما في فتح القدير أنه خاص بما إذا أسلمت وأبى هو ، والظاهر الأول ، وقد وقع في شرح المجمع لابن الملك هنا سهو ونقله عن المحيط وهو بريء عنه فاجتنبه فإنه قال لو كانت نصرانية وقت إسلامه ثم تمجست تكون فرقتها طلاقا وإنما الصواب وقعت الفرقة بلا عرض عليها كما في المحيط .

                                                                                        التالي السابق


                                                                                        ( قوله : بل يعرض على أبويه ) ذكر الباقاني في شرح الملتقى ما نصه قال في روضة العلماء للزاهدي : فإن لم يكن له أب نصب القاضي عن المجنون وصيا فيقضي عليه بالفرقة وإنما ينصب الولي لأن المجنون ليس من أهل التطليق لينوب القاضي بالتفريق ا هـ .

                                                                                        وما نقله عن الزاهدي مذكور في التتارخانية ( قوله : كالمرأة إذا وجدت الزوج عنينا فإنه يؤجل ولو مجبوبا فإنه لا يؤجل ) هكذا في نسخة والذي في عامة النسخ كالمرأة إذا وجدت الزوج مجبوبا فإنه لا يؤجل ( قوله : ويرد على المصنف ما إذا أسلم الزوج . . . إلخ ) قال الرملي قال في النهر : ويمكن أن يراد بالكتابية ولو مآلا فلا يرد ا هـ .

                                                                                        يعني في قوله الآتي ولو أسلم [ ص: 227 ] زوج الكتابية بقي نكاحها أقول : وأحسن من هذا أن المراد في كلامه بالزوجين الممتنع نكاحهما بعد إسلام أحدهما وبقيا على تلك الصفة وإلا كان يرد عليه أيضا زوج الكتابية إذا أسلم وكان كتابيا أو مجوسيا تأمل .

                                                                                        ( قوله : والحاصل أنه نائب عن كل منهما فيما إليه ) قال الرملي : وهو الطلاق منه ، والفسخ منها ( قوله : وإباء أحد أبوي المجنون ) المراد تعميم الآبي سواء كان الأب أو الأم أي إذا وجد أحدهما وأبى يكون طلاقا فلا يرد أنه لو وجد أو أبى أحدهما وأسلم الآخر يصير مسلما تبعا لأشرفهما دينا ، وفي التحرير وشرحه ( وصح إسلامه ) أي المجنون تبعا لأبويه أو أحدهما كالصبي ( وإنما يعرض الإسلام لإسلام زوجته على أبيه أو أمه لصيرورته مسلما بإسلامه ) أي إسلام أحدهما فإن أسلم أقرا على النكاح ، وإن أبى فرق بينهما دفعا للضرر عن المسلمة بالقدر الممكن ( وإنما عرض ) على وليه إذا أسلمت زوجته ( دفعا للضرر عنها إذ ليس له ) أي الجنون ( نهاية معلومة ) ففي التأخير ضرر بها مع ما فيه من الفساد لقدرة المجنون على الوطء ثم قال شمس الأئمة : ليس المراد من عرض الإسلام على ، والده أن يعرض عليه بطريق الإلزام بل على سبيل الشفقة المعلومة من الآباء على الأولاد عادة فلعل ذلك يحمله على أن يسلم ألا ترى أنه إذا لم يكن له ، والدان جعل القاضي له خصما وفرق بينهما فهذا دليل على أن الإباء يسقط اعتباره هنا للتعذر

                                                                                        ( ويصير مرتدا تبعا بارتداد أبويه ولحاقهما به ) أي بالمجنون بدار الحرب ( إذا بلغ مجنونا وهما مسلمان ) لأنه قد ثبت الإسلام في حقه تبعا لهم فيزول بزوال ما يتبعه ثم كون أبويه مسلمين ليس بقيد لأن إسلام أحدهما وارتداده ولحوقه معه بدار الحرب كاف في ارتداده ( بخلاف ما إذا تركاه في دار الإسلام ) فإنه يكون مسلما لظهور تبعية الدار بزوال تبعية الأبوين لأنها كالخلف عنهما ( أو بلغ مسلما ثم جن أو أسلم عاقلا فجن ) قبل البلوغ ( فارتدا ولحقا به بدار الحرب ) لأنه صار أصلا في الإيمان بتقرر ركنه فلا ينعدم بالتبعية أو عروض الجنون ا هـ .

                                                                                        ( قوله : ونظيره إذا كانا مجبوبين ) من الجب وهو قطع الذكر وضمير كانا يرجع إلى الصبي المميز ، والكبير المجنون وقوله : أو كان المجنون عنينا قيد به لأن الصغير العنين ينتظر بلوغه ( قوله : وما نحن فيه وقوع لا إيقاع ) جواب عن الاستغراب ونظر فيه بعض الفضلاء لتصريحهم بأنه إنما كان إباؤه طلاقا لأنه لما فات الإمساك بالمعروف وجب التسريح بالإحسان فإن فعل وإلا ناب القاضي منابه فكان تفريق القاضي بإبائه بطريق النيابة عن المميز وأحد أبوي المجنون وفعل النائب منسوب للمنوب عنه لا محالة فكان الطلاق واقعا منهما حكما ا هـ .

                                                                                        قلت ويؤيده أن شمس الأئمة السرخسي حقق أن [ ص: 228 ] الطلاق بملك النكاح إذ لا ضرر في إثبات أصل الملك بل في الإيقاع فإذا تحققت الحاجة إلى صحة إيقاع الطلاق من جهته لدفع الضرر كان صحيحا ، وتمامه في فصل العوارض من شرح التحرير ( قوله : وإن كانت هي مسلمة ) الأولى إسقاط الواو ( قوله : بخلاف ما إذا كانت كافرة وأسلم الزوج فلا نفقة لها ) قال في الشرنبلالية شامل للصغيرة المجنونة التي فرق بإباء ، والدها قبل الدخول بها ولا نفع لها في إسقاط حقها فيكون واردا على أنه لا يتصرف إلا فيما فيه نفع للصغير فلينظر جوابه ( قوله : وظاهره أنه لا فرق . . . إلخ ) هذا الظاهر خلاف الظاهر بل الظاهر أنه خاص بما إذا كان هو الآبي ليكون إباؤه طلاقا كما هو مقتضى التشبيه في قوله كما لو وقعت الفرقة بالخلع أو بالجب ، والعنة فإنها فرقة من جانبه فتكون طلاقا ومعتدة الطلاق يقع عليها الطلاق أما لو كان الآبي هي تكون الفرقة فسخا لأنها ليست أهلا للطلاق ، والفسخ رفع للعقد فلا يقع الطلاق في عدته ، والظاهر أن هذا وجه ما في الفتح لكن سيأتي أول كتاب الطلاق أنه لا يقع طلاق في عدة عن فسخ إلا في تفريق القاضي بإباء أحدهما عن الإسلام ، وفي ارتداد أحدهما مطلقا .




                                                                                        الخدمات العلمية