[ ص: 252 ] لما ذكر النكاح وأحكامه اللازمة ، والمتأخرة عنه شرع فيما به يرتفع وقدم الرضاع لأنه يوجب حرمة مؤبدة بخلاف الطلاق تقديما للأشد على الأخف وهو في اللغة يدل على الحل ، والانحلال يقال أطلقت الأسير إذا حللت إساره وخليت عنه فانطلق أي ذهب في سبيله وطلق الرجل امرأته تطليقا فهو مطلق فإن كثر تطليقه للنساء قيل مطليق ومطلاق ، والاسم الطلاق فطلقت هي تطلق من باب قتل ، وفي لغة من باب قرب فهي طالق بغير هاء .
قال الأزهري وكلهم يقول طالق بغير هاء قال وأما قول الأعشى
أيا جارتا بيني فإنك طالقه كذاك أمور الناس غاد وطارقه
فقال : أراد طالقة غدا وإنما اجترأ عليه لأنه يقال طلقت فحمل النعت على الفعل ، وقال الليث ابن فارس : أيضا امرأة طالق طلقها زوجها وطالقة غدا فصرح بالفرق لأن الصفة غير واقعة ، وقال إذا كان النعت منفردا به الأنثى دون الذكر لم تدخله الهاء نحو طالق وطامث وحائض لأنه لا يحتاج إلى فارق لاختصاص الأنثى به وتمامه في المصباح وبه اندفع ما ذكره في الصحاح من أنه يقال طالق وطالقة قالوا إنه استعمل في النكاح بالتطليق ، وفي غيره بالإطلاق حتى كان الأول صريحا ، والثاني كناية فلم يتوقف على النية في طلقتك وأنت مطلقة بالتشديد وتوقف عليها في أطلقتك ومطلقة بالتخفيف ، والتفعيل هنا للتكثير إن قاله في الثالثة كغلقت الأبواب وإلا فللإخبار عن أول طلقة أوقعها فليس فيه إلا التوكيد ، وفي المعراج أنه اسم مصدر بمعنى التطليق كالسلام بمعنى التسليم ومنه قوله تعالى { ابن الأنباري الطلاق مرتان } أو مصدر من طلقت المرأة بالضم طلاقا أو بالفتح كالفساد من فسد ، وعن الأخفش لا يقال طلقت بالضم ، وفي ديوان الأدب أنه لغة ا هـ .وفي الشريعة ما أفاده بقوله ( وهو رفع القيد الثابت شرعا بالنكاح ) فخرج بالشرعي القيد الحسي وبالنكاح العتق ولو اقتصر على رفع قيد النكاح لخرجا به ويرد عليه أنه منقوض طردا وعكسا أما الأول فبالفسخ كتفريق القاضي بإبائها عن الإسلام وردة أحد الزوجين وخيار البلوغ ، والعتق فإن تفريق القاضي ونحوه فيه فسخ وليس بطلاق فقد وجد الحد ولم يوجد المحدود وأما الثاني فبالطلاق الرجعي فإنه ليس فيه رفع القيد فقد انتفى الحد ولم ينتف المحدود فالحد الصحيح قولنا رفع قيد النكاح حالا أو مآلا بلفظ مخصوص فخرج بقيد النكاح الحسي ، والعتق وباللفظ المخصوص الفسخ لأن المراد به ما اشتمل على مادة الطلاق صريحا وكناية وسائر الكنايات الرجعية ، والبائنة ولفظ الخلع وقول القاضي فرقت بينكما عند إباء الزوج عن الإسلام ، وفي العنة ، واللعان ودخل الرجعي بقولنا أو مآلا وهاهنا أبحاث الأول أنهم قالوا ركنه اللفظ المخصوص الدال على رفع القيد فكان ينبغي أن يعرفوه به فإن حقيقة الشيء ركنه فعلى هذا هو لفظ دال على رفع قيد النكاح الثاني أن القيد صيرورتها ممنوعة عن الخروج ، والبروز كما صرح به في البدائع في بيان أحكام النكاح ورفعه يحصل بالإذن لها في الخروج ، والبروز فكان هذا التعريف مناسبا للمعنى اللغوي لا الشرعي .
ولذا قال في البدائع : اللفظ الذي جعل دلالة على معنى الطلاق لغة وهو التخلية ، والإرسال ورفع القيد في الصريح وقطع الوصلة ونحوه في الكنايات أو شرعا وهو إزالة حل المحلية في النوعين أو ما يقوم مقام اللفظ ا هـ . ركن الطلاق
فقد أفاد أن ركنه شرعا اللفظ الدال على إزالة حل المحلية وأن رفع القيد إنما هو مناسب للمعنى اللغوي [ ص: 253 ] الثالث كان ينبغي تعريفه بأنه رفع عقد النكاح بلفظ مخصوص ولو مآلا لا يقال لو كان الطلاق رافعا للعقد لارتفع الطلاق لأن رفع العقد بدون العقد لا يتصور فإذا انعدم العقد من الأصل انعدم الفسخ من الأصل فإذا انعدم الفسخ عاد العقد لفقد ما ينافيه لأنا نقول جوابه ما أجابوا به في القول بفسخ عقد البيع وحاصله أنه يجعل العقد كأن لم يكن في المستقبل دون الماضي ويؤيده ما في الجوهرة وهو في الشرع عبارة عن المعنى الموضوع لحل عقدة النكاح ويقال إنه عبارة عن إسقاط الحق عن البضع ولهذا يجوز تعليقه بالشرط ، والطلاق عندهم لا يزيل الملك وإنما يحصل زوال الملك عقيبه إذا كان طلاقا قبل الدخول أو بائنا ، وإن كان رجعيا وقف على انقضاء العدة أي لم يزل الملك إلا بعد انقضائها ا هـ .
وفي البدائع وأما بيان ما يرفع حكم النكاح فالطلاق إلى آخره فجعل المرفوع الحكم ، وفيه ما علمت ، وقد يقال إنما لم يقولوا برفع العقد لبقاء آثاره من العدة إلا أنه يخص المدخول بها وأما غير المدخول بها فلا أثر بعد الطلاق ، والتحقيق ما أفاده في التلويح من بحث العلل بقوله وأما بقاء العلل الشرعية حقيقة كالعقود مثلا فلا خفاء في بطلانه فإنها كلمات لا يتصور حدوث حرف منها حال قيام حرف آخر ، والفسخ إنما يرد على الحكم دون العقد ولو سلم فالحكم ببقائها ضروري ثبت دفعا للحاجة إلى الفسخ فلا يثبت في حق غير الفسخ ا هـ .
الرابع أنه لو ينبغي أن لا يكون طلاقا لأنه لم يوجد الرفع في المآل وجوابه أن الرفع في المآل لم ينحصر في انقضاء العدة قبل المراجعة بل فيه ، وفيما إذا طلقها بعد ثنتين فإنه حينئذ يظهر عمل الطلقة الأولى بانضمام الثنتين إليها فتحرم حرمة غليظة . طلقها ثم راجعها قبل انقضاء عدتها
كما أشار إليه في المحيط بقوله : وإذا طلقها ثم راجعها يبقى الطلاق ، وإن كان لا يزيل القيد ، والحل للحال لأنه يزيلهما في المآل إذا انضم إليه ثنتان ا هـ .
وعلى هذا لو ينبغي أن يتبين عدم وقوع الطلقة الأولى حتى لو طلقها ثم ماتت قبل انقضاء العدة أو طلقها ثم راجعها ثم ماتت بعد سنين لا يحنث ، وقد علمت ركنه ، وأما سببه فالحاجة إلى الخلاص عند تباين الأخلاق وعروض البغضاء الموجبة عدم إقامة حدود الله تعالى وشرعه رحمة منه - سبحانه - وأما حلف أنه لم يوقع عليها طلاقا قط فهو أبغض المباحات إلى الله تعالى ، وفي المعراج : صفته مباح ، وإن كان مبغضا في الأصل عند عامة العلماء ومن الناس من يقول : لا يباح إيقاعه إلا لضرورة كبر سن أو ريبة لقوله عليه السلام { إيقاع الطلاق } ولنا إطلاق الآيات فإنه يقتضي الإباحة مطلقا { لعن الله كل مذواق مطلاق حفصة رضي الله عنها فأمره الله تعالى أن يراجعها فإنها صوامة قوامة } ولم يكن هناك ريبة ولا كبر سن وكذا الصحابة رضي الله عنهم فإن وطلق النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنه طلق عمر أم عاصم وابن عوف تماضر أربع نسوة والمغيرة بن شعبة رضي الله عنهما استكثر النكاح ، والطلاق والحسن بن علي بالكوفة فقال رضي الله عنه على المنبر : إن ابني هذا مطلاق فلا تزوجوه فقالوا [ ص: 254 ] نزوجه ثم نزوجه ثم نزوجه ا هـ . علي
وقد روى أبو داود عن مرفوعا { ابن عمر } قال أبغض الحلال إلى الله تعالى عز وجل الطلاق الشمني رحمه الله فإن قيل هذا الحديث مشكل لأن كون الطلاق مبغضا إلى الله عز وجل مناف لكونه حلالا لأن كونه مبغضا يقتضي رجحان تركه على فعله وكونه حلالا يقتضي مساواة تركه بفعله أجيب ليس المراد بالحلال هنا ما استوى فعله وتركه بل ما ليس تركه بلازم الشامل للمباح ، والواجب ، والمندوب ، والمكروه ا هـ .
وبما ذكرناه عن المعراج تبين أن قوله في فتح القدير ، والأصح حظره إلا لحاجة اختيار القول الضعيف وليس المذهب عن علمائنا وأما قوله : ولا يخفى أن كلامهم فيما سيأتي من التعليل يصرح بأنه محظور لما فيه من كفران نعمة النكاح وإنما أبيح للحاجة ، والحاجة ما ذكرنا في بيان سببه فبين الحكمين منهم تدافع ا هـ .
فجوابه أنه لا تدافع بين كلامهم لأن كلامهم هنا صريح في إباحته لغير حاجة ودعوى أن تعليلهم فيما سيأتي بأنه محظور خلاف الواقع منهم وإنما قالوا في الاستدلال على بدعية الثلاث أن هو الحظر لما فيه من قطع النكاح الذي تعلقت به المصالح الدينية ، والدنيوية ، والإباحة للحاجة إلى الخلاص ولا حاجة إلى الجمع بين الثلاث كذا في الهداية ، والمحيط وغيرهما فهذا لا يدل على أنه محظور شرعا وإنما [ ص: 255 ] يفيد أن الأصل فيه الحظر وترك ذلك بالشرع فصار الحل هو المشروع فهو نظير قول صاحب كشف الأسرار أن الأصل في النكاح الحظر وإنما أبيح للحاجة إلى التوالد ، والتناسل فهل يفهم منه أنه محظور فالحق إباحته لغير حاجة طلبا للخلاص منها لقوله تعالى { الأصل في الطلاق لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن } وحمله على الحاجة ليس بصحيح .
وفي غاية البيان : يستحب طلاقها إذا كانت سليطة مؤذية أو تاركة للصلاة لا تقيم حدود الله تعالى ا هـ .
وهو يفيد جواز ولا إثم عليه بل عليها ولذا قالوا في الفتاوى له أن يضربها على ترك الصلاة ولم يقولوا عليه مع أن في ضربها على تركها روايتين ذكرهما معاشرة من لا تصلي قاضي خان فقد علمت أنه مباح ومستحب وسيأتي أنه حرام بدعي ويكون واجبا إذا فات الإمساك بالمعروف كما في امرأة المجبوب ، والعنين بعد الطلب ، ولذا قالوا إذا فاته الإمساك بالمعروف ناب القاضي منابه فوجب التسريح بالإحسان وأما في الزوج فالعقل ، والبلوغ ، وفي الزوجة أن تكون منكوحته أو في عدته التي تصلح معها محلا للطلاق وهي المعتدة بعدة الطلاق لا المعتدة بعدة الوطء ، والخلوة وحاصل ما في فتح القدير أن المعتدة التي هي محل للطلاق هي كل معتدة عن طلاق أو بعد تفريق القاضي بإباء أحدهما عن الإسلام وبعد ارتداد أحدهما مطلقا فقط فلا يقع الطلاق في عدة عن فسخ إلا في هاتين ولا يقع في العدة عن فسخ بحرمة مؤبدة كما إذا اعترضت الحرمة بتقبيل ابن الزوج وكذا عن فسخ بحرمة غير مؤبدة كالفسخ بخيار العتق ، والبلوغ وعدم الكفاءة ونقصان المهر وسبي أحدهما ومهاجرته إلينا ، وقد صرح في بحث خيار البلوغ بأن الأوجه وقوع الطلاق في العدة ونبهنا في ذلك المحل أن المنقول خلافه فالحق ما ذكره هنا من عدمه وزاد في البدائع أن من شرائطه شرط الركن وهو اللفظ المخصوص أن لا يلحقه استثناء وأن لا يكون للطلاق انتهاء غاية فإنه لو شرطه لم تقع الثلاث عند قال : أنت طالق من واحدة إلى ثلاث وأما الإمام فوقوع الفرقة مؤجلا إلى انقضاء العدة في الرجعي وبدونه في البائن وأما حكمه فالتخلص به من المكاره الدينية ، والدنيوية وبه يعلم أن طلاق الدور واقع كما في القنية من آخر الإيمان وأما محاسنه فثلاثة : حسن ، وأحسن ، وبدعي [ ص: 256 ] وأما أقسامه فثلاثة صريح وما ألحق به وكناية وسيأتيان . ألفاظه