الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                        معلومات الكتاب

                                                                                        البحر الرائق شرح كنز الدقائق

                                                                                        ابن نجيم - زين الدين بن إبراهيم بن محمد

                                                                                        صفحة جزء
                                                                                        ( قوله : كل حل علي حرام فهو على الطعام والشراب ) والقياس أن يحنث كما فرع ; لأنه باشر فعلا مباحا وهو التنفس ونحوه وهذا قول زفر وجه الاستحسان أن المقصود وهو البر لا يحصل مع اعتبار العموم وإذا سقط اعتباره ينصرف إلى الطعام والشراب للعرف فإنه يستعمل فيما يتناول عادة فيحنث إذا أكل ، أو شرب ولا يتناول المرأة إلا بالنية فلا يحنث بجماع زوجته لإسقاط اعتبار العموم وإذا نواها كان إيلاء ولا تصرف اليمين عن المأكول والمشروب وهذا كله جواب ظاهر الرواية كذا في الهداية مع أن عبارة الحاكم في الكافي إذا قال الرجل كل حل علي حرام سئل عن نيته فإن نوى يمينا فهو يمين يكفرها ولا تدخل امرأته في ذلك إلا أن ينوي فإن نواها دخلت فإن أكل أو شرب ، أو قرب امرأته حنث وسقط عنه الإيلاء ، وإن لم يكن له نية فهو يمين يكفرها لا تدخل امرأته فيها ولو نوى به الطلاق فالقول فيه كالقول في الحرام أي يصح ما نوى ، وإن نوى الكذب فهو كذب ا هـ .

                                                                                        تقتضي أن الأمر موقوف على النية وأنه لو نوى الكذب لا يلزمه شيء وهو غير مستفاد من عبارة الهداية كما لا يخفى . ( قوله : والفتوى على أنه تبين امرأته من غير نية ) لغلبة الاستعمال كذا في الهداية ، وإن لم تكن له امرأة ذكر في النهاية معزيا إلى النوازل أنه يحنث وعليه الكفارة ا هـ .

                                                                                        يعني : إذا أكل ، أو شرب لانصرافه عند [ ص: 319 ] عدم الزوجة إلى الطعام والشراب لا كما يفهم من ظاهر العبارة .

                                                                                        وقال البزدوي في مبسوطه هكذا قال بعض مشايخ سمرقند ولم يتضح لي عرف الناس في هذا ; لأن من لا امرأة له يحلف به كما يحلف ذو الحليلة ولو كان العرف مستفيضا في ذلك لما استعمله إلا ذو الحليلة فالصحيح أن يقيد الجواب في هذا فنقول إن نوى الطلاق يكون طلاقا فأما من غير دلالة فالاحتياط أن يقف الإنسان فيه ولا يخالف المتقدمين واعلم أن مثل هذا اللفظ لم يتعارف في ديارنا بل المتعارف فيه حرام علي كلامك ونحوه كأكل كذا ولبسه دون الصيغة العامة وتعارفوا أيضا الحرام يلزمني ولا شك في أنهم يريدون الطلاق معلقا فإنهم يزيدون بعده لا أفعل كذا ولأفعلن وهو مثل تعارفهم " الطلاق يلزمني لا أفعل كذا " فإنه يراد إن فعلت كذا فهي طالق ويجب إمضاؤه عليهم .

                                                                                        والحاصل أن المعتبر في انصراف هذه الألفاظ عربية كانت ، أو فارسية إلى معنى بلا نية التعارف فيه فإن لم يتعارف سئل عن نيته وفيما ينصرف بلا نية لو قال أردت غيره لا يصدقه القاضي وفيما بينه وبين الله تعالى هو مصدق هكذا قال في فتح القدير .

                                                                                        والحاصل أنه على ظاهر الرواية يحنث بالأكل والشرب فقط ولا يقع عليه طلاق وعلى المفتى به إن لم يكن له امرأة فكذلك ، وإن كان له امرأة وقع الطلاق عليها ولا يحنث بالأكل والشرب ، وفي الظهيرية : رجل قال : كل حل علي حرام ، أو قال : كل حلال علي حرام ، أو قال حلال الله ، أو قال حلال المسلمين وله امرأة ولم ينو شيئا قال الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل والفقيه أبو جعفر وأبو بكر الإسكاف وأبو بكر بن سعيد تبين امرأته بتطليقة وإن نوى ثلاثا فثلاث .

                                                                                        وإن قال : لم أنو الطلاق لا يصدق قضاء ; لأنه صار طلاقا عرفا ولهذا لا يحلف به إلا الرجال فإن كان له امرأة واحدة تبين بتطليقة ، وإن كن ثلاثا ، أو أربعا يقع على كل واحدة واحدة بائنة ، وإن حلف بهذا اللفظ إن كان فعل كذا وقد كان فعل وله امرأة واحدة أو أكثر بن جميعا ، وإن لم يكن له امرأة لا يلزمه شيء ; لأنه جعل يمينا بالطلاق ولو جعلناه يمينا بالله فهو غموس وإن حلف بهذا على أمر في المستقبل ففعل ذلك ليس له امرأة كان عليه الكفارة لأن تحريم الحلال يمين ، وإن كان له امرأة وقت اليمين فماتت قبل الشرط ، أو بانت لا إلى عدة ثم باشر الشرط لا تلزمه الكفارة ; لأن يمينه انصرف إلى الطلاق وقت وجودها وإن لم تكن له امرأة وقت اليمين ، ثم تزوج امرأة ثم باشر الشرط اختلفوا فيه قال الفقيه أبو جعفر : تبين المتزوجة وقال غيره : لا تبين وبه أخذ الفقيه أبو الليث وعليه الفتوى لأن يمينه جعل يمينا بالله تعالى وقت [ ص: 320 ] وجودها فلا يكون طلاقا بعد ذلك ا هـ .

                                                                                        وقيد بصيغة العموم لأنه لو قال لزوجته أنت علي حرام فقد قدم في باب الإيلاء أنه ينصرف للزوجة فتطلق من غير نية .

                                                                                        التالي السابق


                                                                                        ( قوله : تقتضي أن الأمر موقوف على النية إلخ ) الضمير في " تقتضي " راجع إلى عبارة الحاكم وفي كونها تقتضي ذلك نظر فإن قوله : وإن لم تكن له نية فهو يمين يكفرها إلخ معناه أنه يمين على الطعام والشراب كما أفاده ما قبله من قوله فإن نوى يمينا إلخ فصار حاصله أنه إن نوى اليمين ، أو لم ينو شيئا فهو يمين يكفرها ولا تدخل امرأته إلا أن ينويها فإن أكل ، أو شرب حنث ، وإن كان نوى المرأة وقربها سقط الإيلاء ; لأنه حنث وهذا كله مستفاد من عبارة الهداية أيضا ، نعم في عبارة الحاكم زيادة وهي لو نوى به الطلاق ، أو نوى به الكذب فهو كما نوى وليس في الهداية ما ينافي ذلك فلا مخالفة بين العبارتين إلا في زيادة حكم لم تصرح به عبارة الهداية كما لا يخفى على المتأمل ( قوله : يعني إذا أكل ، أو شرب إلخ ) مخالف لما سيأتي عن الظهيرية من أنه لو لم تكن له امرأة ، ثم تزوج امرأة ثم باشر الشرط : الفتوى على أنه لا تبين ; لأن يمينه جعل يمينا بالله تعالى إلخ ولكن ينبغي تقييد هذا بما إذا حلف على أمر في المستقبل ، وإلا فلا يلزمه شيء كما يأتي في عبارة الظهيرية أيضا وفي البزازية : قال : وفي المواضع التي يقع الطلاق بلفظ الحرام إن لم تكن له امرأة إن حنث لزمته الكفارة [ ص: 319 ] والنسفي على أنه لا تلزمه ا هـ .

                                                                                        قلت : والظاهر حمل كلام النسفي على ما إذا لم يكن حلفه على مستقبل فلا ينافي ما قبله والحاصل أنه إذا قال : كل حل علي حرام وسكت ، أو قال إن كنت فعلت كذا لأمر فعله لا يلزمه شيء إذا لم تكن له امرأة .

                                                                                        وإن قال إن فعلت كذا في المستقبل لزمه كفارة بالحنث هذا كله بناء على تغير العرف من انصرافه إلى الطلاق بعدما كان العرف قبله في انصرافه إلى الطعام والشراب فما ذكره المؤلف في تأويل عبارة النهاية مخالف لكلامهم والله سبحانه وتعالى أعلم ( قوله : وقال البزدوي في مبسوطه إلخ ) قال الرملي في حاشيته على المنح أقول : ما بحثه جيد موافق لكلام المتقدمين ويحمل كلام صاحب الهداية وغيره على ما إذا لم يكن الاستعمال مشتركا فيه ، وفي غيره أما إذا كان مشتركا تعين موافقة المتقدمين وأقول : أكثر عوام بلادنا لا يقصدون بقولهم : أنت محرمة علي ، أو حرام علي أو حرمتك علي إلا حرمة الوطء المقابلة لحله ولذلك أكثرهم يضرب مدة لتحريمها ولا يريد قطعا إلا تحريم الجماع إلى هذه المدة ولا شك أنه يمين موجب للإيلاء تأمل ; فقل من حقق هذه المسألة على وجهها وانظر إلى قولهم لا نقول لا تشترط النية لكن يجعل ناويا عرفا فهو صريح في اعتبار العرف فإن لم يكن العرف كذلك بل كان مشتركا تعين اعتبار النية وتصديق الحالف كما هو مذهب المتقدمين .

                                                                                        ( قوله : وإن كن ثلاثا ، أو أربعا يقع على كل واحدة واحدة بائنة ) قال في النهر بعده : لكن في الدراية لو كان له امرأتان وقع الطلاق على واحدة وإليه البيان في الأظهر كقوله امرأتي كذا وله امرأتان ، أو أكثر ا هـ .

                                                                                        قال محشي مسكين : ظاهر قوله : أو أكثر أن وقوع الطلاق على واحدة ، وإليه البيان لا يخص الثنتين بل كذلك لو كن ثلاثا أو أربعا فهو قول مقابل لما في الظهيرية : وحيث كان وقوع الطلاق على واحدة ، وإليه البيان هو الأظهر مطلقا سواء كان له امرأتان ، أو أكثر فما في الظهيرية من وقوعه على الكل خلاف الأظهر ، وإن كان في البحر لم يحك خلافه ولم يذكر ما نقله في النهر عن الدراية ا هـ .

                                                                                        قلت : لم يذكره اعتمادا على ما قدمه آخر باب الإيلاء وقدم هناك عن الفتح أن الأشبه ما هنا لأن قوله : حلال الله ، أو حلال المسلمين يعم كل زوجة على سبيل الاستغراق [ ص: 320 ] ( قوله : فقد قدم في باب الإيلاء أنه ينصرف للزوجة فتطلق من غير نية ) كان عليه حذف قوله فتطلق من غير نية ; لأنه مساو في ذلك لقوله كل حل علي حرام على أن المذكور في المتن في باب الإيلاء هكذا أنت علي حرام إيلاء إن نوى التحريم أو لم ينو شيئا وظهار إن نواه وكذب إن نوى الكذب وبائنة إن نوى الطلاق وثلاث إن نوى ، وفي الفتوى إذا قال لامرأته : أنت علي حرام والحرام عنده طلاق ولكن لم ينو طلاقا وقع الطلاق ا هـ .

                                                                                        وحاصله أن قوله أنت علي حرام يخص المرأة ولا يدخل فيه الطعام والشراب بخلاف العام .




                                                                                        الخدمات العلمية