الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                        معلومات الكتاب

                                                                                        البحر الرائق شرح كنز الدقائق

                                                                                        ابن نجيم - زين الدين بن إبراهيم بن محمد

                                                                                        صفحة جزء
                                                                                        ( قوله والطهر بين الدمين في المدة حيض ونفاس ) يعني أن الطهر المتخلل بين دمين والدمان في مدة الحيض أو في مدة النفاس يكون حيضا في الأول ونفاسا في الثاني .

                                                                                        اعلم أن خمسة من أصحاب أبي حنيفة وهم أبو يوسف ومحمد وزفر والحسن بن زياد وابن المبارك روى كل منهم عنه في هذه المسألة رواية إلا محمدا فإنه روى عنه روايتين وأخذ بإحداهما فالأصل عند أبي يوسف وهو قول أبي حنيفة الآخر على ما في المبسوط أن الطهر المتخلل بين الدمين إذا كان أقل من خمسة عشر يوما لا يصير فاصلا بل يجعل كالدم المتوالي ; لأنه لا يصلح للفصل بين الحيضتين فلا يصلح للفصل بين الدمين ، وإن كان خمسة عشر يوما فصاعدا يكون فاصلا لكنه لا يتصور ذلك إلا في مدة النفاس ، ثم إن كان في أحد طرفيه ما يمكن جعله حيضا فهو حيض وإلا فهو استحاضة ثم ينظر إن كان لا يزيد على العشرة فهو حيض كله ما رأت الدم فيه وما لم تره وسواء كانت مبتدأة أو لا وما سواه فدم استحاضة وطهره طهر ووافق محمد أبا يوسف في الطهر المتخلل في مدة النفاس إن كان خمسة عشر يوما فصل بين الدمين فيجعل الأول نفاسا والثاني حيضا إن أمكن بأن كان ثلاثة بليالها فصاعدا أو يومين وأكثر الثالث عند أبي يوسف وإلا كان استحاضة وعند أبي حنيفة لا يفصل ويجعل إحاطة الدم بطرفيه كالدم المتوالي فلو رأت بعد الولادة يوما دما وثمانية وثلاثين طهرا ويوما دما فالأربعون نفاس عنده وعندهما نفاسها الدم الأول ومن أصل أبي يوسف أيضا أنه يجوز بداية الحيض بالطهر وختمه به بشرط أن يكون قبله وبعده دم ويجعل الطهر بإحاطة الدمين به حيضا

                                                                                        وإن كان قبله دم ولم يكن بعده دم يجوز بداية الحيض بالطهر ولا يجوز ختمه به ، وعلى عكسه بأن كان بعده دم ولم يكن قبله دم يجوز ختم الحيض بالطهر ولا يجوز بدايته به فلو رأت مبتدأة يوما وأربعة عشر طهرا أو يوما دما كانت العشرة الأولى حيضا يحكم ببلوغها ، ولو رأت المعتادة قبل عادتها يوما دما وعشرة طهرا أو يوما دما فالعشرة التي لم تر فيها الدم حيض إن كانت عادتها العشرة ، فإن كانت أقل ردت إلى أيام عادتها والأخذ بقول أبي يوسف أيسر وكثير من المتأخرين أفتوا به ; لأنه أسهل على المفتي والمستفتي ; لأن في قول محمد وغيره تفاصيل يحرج الناس في ضبطها ، وقد ثبت { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما } وروى محمد عن أبي حنيفة أن الشرط أن يكون الدم محيطا بطرفي العشرة فإذا كان كذلك لم يكن الطهر المتخلل فاصلا بين الدمين وإلا كان فاصلا ، فلو رأت مبتدأة يوما دما وثمانية [ ص: 217 ] طهرا ويوما دما فالعشرة حيض يحكم ببلوغها ، ولو كانت معتادة فرأت قبل عادتها يوما دما وتسعة طهرا ويوما دما لا يكون شيء منه حيضا ووجهه أن استيعاب الدم ليس بشرط إجماعا فيعتبر أوله وآخره كالنصاب في باب الزكاة

                                                                                        وقد اختار هذه الرواية أصحاب المتون لكن لم تصحح في الشروح كما لا يخفى ولعله لضعف وجهها فإن قياسها على النصاب غير صحيح ; لأن الدم منقطع في أثناء المدة بالكلية وفي المقيس عليه يشترط بقاء جزء من النصاب في أثناء الحول ، وإنما الذي اشترط وجوده في الابتداء والانتهاء تمامه ، وروى ابن المبارك عن أبي حنيفة أنه يعتبر أن يكون الدم في العشرة مثل أقله وهو قول زفر ، ووجهه أن الحيض لا يكون أقل من ثلاثة أيام وهو اسم للدم فإذا بلغ المرئي هذا المقدار كان قويا في نفسه فجعل أصلا وما يتخلله من الطهر تبع له ، وإن كان الدم دون هذا كان ضعيفا في نفسه لا حكم له إذا انفرد فلا يمكن جعل زمان الطهر تبعا له فلو رأت يوما دما وثمانية طهرا ويوما دما لم يكن شيء منه حيضا وقال محمد الطهر المتخلل إن نقص عن ثلاثة أيام ولو بساعة لا يفصل اعتبارا بالحيض ، فإن كان ثلاثة فصاعدا ، فإن كان مثل الدمين أو أقل فكذلك تغليبا للمحرمات ; لأن اعتبار الدم يوجب حرمتها واعتبار الطهر يوجب حلها فغلب الحرام الحلال ، وإن كان أكثر فصل ثم ينظر إن كان في أحد الجانبين ما يمكن أن يجعل حيضا فهو حيض والآخر استحاضة ، وإن لم يمكن فالكل استحاضة ولا يمكن كون كل من المحتوشين حيضا ; لأن الطهر حينئذ أقل من الدمين إلا إذا زاد على العشرة فيجعل الأول حيضا لسبقه لا الثاني ومن أصله أن لا يبدأ الحيض بالطهر ولا يختم به سواء كان قبله أو بعده دم أو لم يكن ولا يجعل زمان الطهر زمان الحيض بإحاطة الدمين به ولو رأت مبتدأة يوما دما ويومين طهرا ويوما دما فالأربعة حيض ، ولو رأت يوما دما وثلاثة طهرا أو يومين دما فالستة حيض للاستواء

                                                                                        ولو رأت يوما دما وخمسة طهرا ويوما دما لا يكون حيضا لغلبة الطهر ، ولو رأت ثلاثة دما وخمسة طهرا أو يوما دما فالثلاثة حيض لغلبة الطهر فصار فاصلا والمتقدم أمكن جعله حيضا ، ولو رأت يوما دما وخمسة طهرا وثلاثة دما فالأخير حيض لما تقدم ، ولو رأت ثلاثة دما وستة طهرا و ثلاثة دما فحيضها الثلاثة الأول لسبقها ولا تكون العشرة حيضا لغلبة الطهر فيها ، وإن كان مساويا باعتبار الزائد عليها ، وقد صحح قول محمد في المبسوط والمحيط وعليه الفتوى لكن قال المحقق في فتح القدير الأولى الإفتاء بقول أبي يوسف لما قدمناه ، وفي معراج الدراية جعل قول محمد رواية عن أبي حنيفة فثبت أنه روي عنه روايتين أخذ بإحداهما وروى زفر عن أبي حنيفة أنها إذا رأت في طرفي العشرة ثلاثة أيام دما فهي حيض وإلا فلا ذكر هذه الرواية في التوشيح والمعراج والخبازية إلا أن المذكور في المبسوط وأكثر الكتب المشهورة أن قول زفر رواية ابن المبارك المتقدمة ولم يذكروا له رواية عن أبي حنيفة والظاهر أن هذه الرواية لا تخالف رواية ابن المبارك إلا أن يقال : إن هذه الرواية تفيد اشتراط [ ص: 218 ] وجود الدم في العشرة ورواية ابن المبارك لا تفيد إلا اشتراط وجود ثلاثة أيام دما ولو في طرف واحد .

                                                                                        وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة إن نقص الطهر عن ثلاثة لم يفصل ، وإن كان ثلاثة فصل كيفما كان ثم ينظر إن أمكن أن يجعل أحدهما بانفراده حيضا يجعل ذلك حيضا كما قاله محمد ، وإنما خالفه في أصل واحد وهو أنه لم يعتبر غلبة الدم ولا مساواته بالطهر وفي فتح القدير فرع على هذه الأصول رأت يومين دما وخمسة طهرا ويوما دما ويومين طهرا و يوما دما فعند أبي يوسف العشرة الأولى حيض إن كانت عادتها أو مبتدأة ; لأن الحيض يختم بالطهر ، وإن كانت معتادة فعادتها فقط لمجاوزة الدم العشرة وعلى قول محمد الأربعة الأخيرة فقط ; لأنه تعذر جعل العشرة حيضا لاختتامها بالطهر وتعذر جعل ما قبل الطهر الثاني حيضا ; لأن الغلبة فيه للطهر فطرحنا الدم الأول والطهر الأول فبقي بعده يوم دم ويومان طهر ويوم دم والطهر أقل من ثلاثة فجعلنا الأربعة حيضا . وعند زفر الثمانية حيض لاشتراطه كون الدم ثلاثة في العشرة ولا يختم عنده بالطهر ، وقد وجد أربعة دما وكذلك هو أيضا رواية محمد عن أبي حنيفة لخروج الدم الثاني عن العشرة .

                                                                                        ( فرع آخر )

                                                                                        عادتها عشرة فرأت ثلاثة وطهرت ستة عند أبي يوسف لا يجوز قربانها وعند محمد يجوز ; لأن المتوهم بعده من الحيض يوم والستة أغلب من الأربعة فيجعل الدم الأول فقط حيضا بخلاف قول أبي يوسف ولو كانت طهرت خمسة وعادتها تسعة اختلفوا على قول محمد قيل لا يباح قربانها لاحتمال الدم في يومين آخرين وقيل يباح وهو الأولى ; لأن اليوم الزائد موهوم ; لأنه خارج العادة وفي نظم ابن وهبان إفادة أن المجيز للقربان يكرهه . ا هـ .

                                                                                        ما في فتح القدير وعبارة النظم هذه

                                                                                        ولو طهرت بعد الثلاث وطهرت وعادتها لم تمض فالوطء يذكر     كراهته بعض وينفيه بعضهم
                                                                                        وبالصوم تأتي والصلاة وتذكر

                                                                                        ولا يخفى بعد هذه الإفادة من النظم ; لأن ما فيه ليس هذه الصورة بل الاغتسال عقب الطهر من غير بيان أن الطهر غالب على الحيض أو لا وهي المسألة التي قدمناها وهي أن الدم إذا انقطع لأقل من العادة هل وطؤها حرام أو مكروه وليس فيه خلاف الإمامين ولم ينقل فيها الجواز أصلا ونقل الكراهة لا يفيده ; لأن الجواز بمعنى الحل لا يجامع كراهة التحريم بخلافه بمعنى الصحة .

                                                                                        التالي السابق


                                                                                        ( قوله : لكنه لا يتصور ذلك إلا في مدة النفاس ) فيه نظر فإنه يتصور فصله في الحيض بأن يجعل ما قبله حيضا وما بعده كذلك إن بلغ أقله ولم يقيد فصله بمدة الحيض حتى يقال لا يتصور ذلك في الحيض بل الكلام في تخلله بين الدمين ولهذا والله تعالى أعلم قال في الشرنبلالية بعد نقله لعبارة المؤلف فراجعه متأملا ولعله قال بتخصيصه بمدة النفاس ليمكن فيه بيان الاختلاف بين أبي يوسف وغيره ممن يشترط كونه في مدة الحيض تأمل .

                                                                                        ( قوله : ثم إن كان في أحد طرفيه ) أي طرفي الطهر الذي هو خمسة عشر يوما فصاعدا وقوله ثم ينظر إن كان إلخ أي الطهر الناقص عن خمسة عشر يوما . ( قوله : وعند أبي حنيفة إلخ ) قال في التتارخانية قال أبو حنيفة الطهر المتخلل بين الأربعين في النفاس لا يعتبر فاصلا بين الدمين سواء كان خمسة عشر أو أقل أو أكثر ويجعل إحاطة الدمين بطرفيه كالدم المتوالي وعليه الفتوى وقالا لو خمسة عشر فصل ومحمد يجعل الطهر أقل من خمسة عشر فاصلا في الحيض بين الدمين لا في الأربعين ، ثم ذكر الصورة التي ذكرها المؤلف ثم قال ولو رأت مبتدأة بلغت بالحبل بعد الولادة خمسة دما ثم خمسة عشر طهرا ثم خمسة دما ثم خمسة عشر طهرا ثم استمر الدم فعندهما نفاسها الخمسة وطهرها خمسة عشر وحيضها الخمسة الثانية وعنده نفاسها خمسة وعشرون وتمامه فيها فراجعها . ( قوله : ويجعل الطهر ) هذا أصل آخر كما في النهاية . ( قوله : وروى محمد عن أبي حنيفة أن الشرط إلخ ) وعلى هذه الرواية لا يجوز بداية الحيض ولا ختمه بالطهر قال ; لأن ضد الحيض الطهر ولا يبدأ الشيء بما يضاده ولا يختم به ولكن المتخلل بين الطرفين يجعل تبعا لهما كما في الزكاة ، كذا في النهاية [ ص: 217 ] ( قوله : فإن قياسها على النصاب إلخ ) قال في النهر لا نسلم أن هذا قياس بل تنظير ولئن سلم فالدم موجود حكما وإن انعدم حسا بدليل ثبوت أحكام الحيض كلها في هذه الحالة واعتماد أصحاب المتون على شيء ترجيح له . ا هـ .

                                                                                        ( قوله : فإن كان مثل الدمين ) أي بعد أن يكون الدمان في العشرة كما في السراج . ( قوله : ثم ينظر إن كان إلخ ) أي ينظر إن أمكن أن يجعل أحدهما بانفراده حيضا ، إما المتقدم أو المتأخر يجعل ذلك حيضا قال في النهاية وإن أمكن أن يجعل كل واحد منهما حيضا بانفراده يجعل الحيض أسرعهما إمكانا ولا يكون كلاهما حيضا إذا لم يتخللهما طهر تام . ا هـ .

                                                                                        وهذا حاصل قوله الآتي ولا يمكن كون كل من المحتوشين حيضا إلخ وفي النهر واختلف على هذه الرواية فيما إذا اجتمع طهران معتبران وصار أحدهما حيضا لاستواء الدم بطرفيه حتى صار كالمتوالي كما إذا رأت يومين دما وثلاثة طهرا ويوما دما وثلاثة طهرا و يوما دما فقيل يتعدى إلى الطرف الآخر فيصير الكل حيضا وقيل لا وهو الأصح .

                                                                                        ( قوله : ولا يمكن كون كل من المحتوشين حيضا ) كذا في فتح القدير وهذه مسألة مبتدأة ليست مرتبطة بقوله وإن كان أكثر ومعناها أنه لو كان في طرفي الطهر نصابا حيض لا يمكن جعل كل منهما حيضا ; لأن الدمين إذا كانا في العشرة فأكثر طهر يمكن وقوعه بينهما أربعة أيام وهي أقل من الدمين فلا توجب الفصل إلا إذا زاد على العشرة فيجعل الأول حيضا لسبقه لا الثاني ولكن هذا إذا لم يفصل بين الدمين طهر تام وإلا فيجعل كل منهما حيضا كما قدمناه عن النهاية . ( قوله : فالأربعة حيض ) أي لأن الطهر المتخلل دون الثلاث . ( قوله : ولا تكون العشرة حيضا إلخ ) إشارة إلى دفع ما يقال إنه قد استوى الدم بالطهر هنا فلم لم يجعل كالدم المتوالي ، وبيان الجواب أن استواء الدم بالطهر إنما يعتبر في مدة الحيض وأكثر الحيض عشرة ثلاثة دم وستة طهر ويوم دم فكان الطهر غالبا فلهذا صار فاصلا . ( قوله : والظاهر أن هذه الرواية إلخ ) قال العلامة الشيخ إسماعيل النابلسي في شرحه على الدرر والغرر فيه بحث ; لأن الاشتراط المفاد عين المخالفة [ ص: 218 ] وقوله في العشرة صوابه في طرفي العشرة ولعله سقط من قلم الناسخ ، وأما ما في النهر من قوله وروى ابن المبارك عنه اعتبار كون الدم في العشرة ثلاثة فقط وبه أخذ زفر وجعلها في التوشيح رواية عنه فلا يخفى ما فيه من الخلل ومنشؤه نفي المخالفة فليتأمل . ا هـ .

                                                                                        ( قوله : وقد وجد أربعة دما ) كذا هو في الفتح والظاهر أن يقول ثلاثة . ( قوله : وطهرت بالتشديد ) أي اغتسلت وكراهته مفعول يذكر في آخر البيت الأول وهو تضمين عدوه من عيوب الشعر والضمير للوطء وضمير ينفيه له أيضا وتأتي وتذكر لمن طهرت قال الشرنبلالي في شرحه تبعا لابن الشحنة اشتمل البيتان على مسألتين الأولى صورتها لو طهرت الحائض بعد ثلاثة أيام وعادتها تزيد على ذلك واغتسلت يكره لزوجها أو سيدها وطؤها كما في المحيط حتى تمضي عادتها احتياطا وبعضهم قال لا يكره لزوجها وطؤها ، والثانية أطبقوا على أنها تصوم وتصلي وتأتي بجميع ما يمتنع فعله على الحائض من العبادات أخذا بالاحتياط فيها لاحتمال عدم العود ا هـ .




                                                                                        الخدمات العلمية