الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                        معلومات الكتاب

                                                                                        البحر الرائق شرح كنز الدقائق

                                                                                        ابن نجيم - زين الدين بن إبراهيم بن محمد

                                                                                        صفحة جزء
                                                                                        قوله ( والمفتي ينبغي أن يكون هكذا ) أي موثوقا به في دينه وعفافه إلى آخره ، وأن يكون مجتهدا قال في الفتح القدير واعلم أن ما ذكر في القاضي ذكر في المفتي فلا يفتي إلا المجتهد ، وقد استقر رأي الأصوليين على أن المفتي هو المجتهد فأما غير المجتهد ممن يحفظ أقوال المجتهد فليس مفتيا ، والواجب عليه إذا سئل أن يذكر قول المجتهد كأبي حنيفة على جهة الحكاية فعرف أن ما يكون في زماننا من فتوى الموجودين ليس بفتوى بل هو نقل كلام المفتي ليأخذ به المستفتي ، وطريق نقله لذلك عن المجتهد أحد أمرين إما أن يكون له سند فيه ، أو يأخذه من كتاب معروف تداولته الأيدي نحو كتب محمد بن الحسن ونحوها من التصانيف المشهورة للمجتهدين ; لأنه بمنزلة الخبر المتواتر أو المشهور هكذا ذكر الرازي فعلى هذا لو وجد بعض نسخ النوادر في زماننا لا يحل عزو ما فيها إلى محمد ولا إلى أبي يوسف ; لأنها لم تشتهر في عصرنا في ديارنا ، ولم تتداول نعم إذا وجد النقل عن النوادر مثلا في كتاب مشهور معروف كالهداية والمبسوط كان ذلك تعويلا على ذلك الكتاب ، فلو كان حافظا للأقاويل المختلفة للمجتهدين ولا يعرف الحجة ولا قدرة له على الاجتهاد للترجيح لا يقطع بقول منها يفتى به بل يحكيها للمستفتي فيختار المستفتي ما يقع في قلبه أنه الأصوب .

                                                                                        ذكره في بعض الجوامع ، وعندي لا يجب عليه حكاية كلها بل يكفيه أن يحكي قولا منها فإن المقلد له أن يقلد أي مجتهد شاء ، فإذا ذكر أحدها فقلده حصل المقصود نعم لا يقطع عليه فيقول جواب مسألتك كذا ، بل يقول قال أبو حنيفة حكم هذا كذا نعم لو حكى الكل فالأخذ بما يقع في قلبه أنه أصوب أولى ، وإلا فالعامي لا عبرة بما يقع في قلبه من صواب الحكم وخطئه ، وعلى هذا إذا استفتى فقيهين أعني مجتهدين فاختلفا عليه الأولى بأن يأخذ بما يميل إليه قلبه منهما ، وعندي أنه لو أخذ بقول الذي لا يميل إليه قلبه جاز ; لأن ذلك الميل وعدمه سواء ، والواجب عليه تقليد مجتهد ، وقد فعل أصاب ذلك المجتهد أو أخطأ وقالوا المنتقل من مذهب إلى مذهب باجتهاد وبرهان آثم يستوجب التعزير فبلا اجتهاد وبرهان أولى ولا بد أن يراد بهذا الاجتهاد معنى التحري وتحكيم القلب ; لأن العامي ليس له اجتهاد ، ثم حقيقة الانتقال إنما [ ص: 290 ] تتحقق في حكم مسألة خاصة قلد فيه وعمل به ، وإلا فقوله قلدت أبا حنيفة فيما أفتى به من المسائل والتزمت العمل به على الإجماع ، وهو لا يعرف صورها ليس حقيقة التقليد بل هذا حقيقة تعليق التقليد ، أو وعد به كأنه التزم أن يعمل بقول أبي حنيفة فيما يقع له من المسائل التي تتعين في الوقائع .

                                                                                        فإن أرادوا هذا الالتزام فلا دليل على وجوب اتباع المجتهد المعين بالتزام نفسه ذلك قولا أو نية شرعا ، بل دليل اقتضى العمل بقول المجتهد فيما احتاج إليه بقوله تعالى { فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } والسؤال إنما يتحقق عند طلب حكم الحادثة المعينة ، وحينئذ إذا ثبت عنده قول المجتهد وجب عمله به ، والغالب أن مثل هذا إلزامات منهم لكف الناس عن تتبع الرخص ، وإلا أخذ العامي في كل مسألة بقول مجتهد .

                                                                                        قوله أخف عليه وأنا لا أدري ما يمنع هذا من النقل أو العقل ، وكون الإنسان يتبع ما هو أخف على نفسه من قول مجتهد سوغ له الاجتهاد وما علمت من الشرع ذمه عليه وكان صلى الله عليه وسلم يحب ما خفف عن أمته إلى هنا ما في فتح القدير ، ولم يبسط أصحابنا الكلام على المفتي والمستفتي في المتون والشروح ، وإنما ذكر أصحاب الفتاوى بعض مسائلهما ، وقد بسط الكلام عليهما في الروض في كتاب القضاء فأحببت نقله ; لأن قواعدنا لا تأباه ، ثم أنبه بعده على نقل البعض لمذهبنا والله تعالى أعلم .

                                                                                        التالي السابق


                                                                                        ( قوله ثم حقيقة الانتقال إنما يتحقق إلخ ) قال الرملي قال في تصحيح القدوري وقال الأصوليون أجمع : لا يصح الرجوع عن التقليد بعد العمل بالاتفاق ، وهو المختار في المذهب وقال الإمام أبو الحسن الخطيب في كتاب الفتاوى والمفتي على مذهب إذا أفتى بكون الشيء كذا على مذهب إمام ليس له أن يقلد غيره ويفتي بخلافه ; لأنه محض تشه ، وقال أيضا إنه بالتزامه مذهب إمام يكلف به ما لم يظهر له غيره ، والمقلد لا يظهر له ا هـ .

                                                                                        قلت : وفي التحرير لابن الهمام مسألة لا يرجع فيما قلد فيه أي عمل به اتفاقا ، وهل يقلد غيره في غيره المختار نعم للقطع بأنهم كانوا يستفتون مرة واحدا ومرة غيره غير ملتزمين مفتيا واحدا فلو التزم مذهبا معينا كأبي حنيفة والشافعي فهل يلزمه الاستمرار عليه فقيل نعم ، وقيل لا وقيل كمن لم يلتزم إن عمل بحكم تقليدا لا يرجع عنه وفي غيره له تقليد غيره ، وهو الغالب على الظن لعدم ما يوجبه شرعا ، ويتخرج منه جواز اتباعه للرخص ولا يمنع منه مانع شرعي إذ للإنسان أن يسلك الأخف عليه إذا كان له إليه سبيل بأن لم يكن عمل بآخر فيه ا هـ .

                                                                                        وللشيخ حسن الشرنبلالي رسالة سماها العقد الفريد في جواز التقليد وذكر فيها ما حاصله أن دعوى الاتفاق على عدم الرجوع فيما قلد فيه ذكرها الآمدي وابن الحاجب ، وتبعهما في جمع الجوامع وغيره ، وذكر العلامة ابن أبي شريف أن في كلام غيرهما ما يشعر بإثبات الخلاف بعد العمل فله التقليد بعده بقول غيره ، وذكر مثله عن الزركشي العلامة ابن أمير الحاج والسيد بادشاه في شرحهما على التحرير أي فيجوز اتباع القائل بالجواز ، وأيضا القول بالمنع ليس على إطلاقه ; لأنه محمول على ما إذا بقي من آثار الفعل السابق أثر يؤدي إلى تلفيق العمل بشيء مركب من مذهبين كتقليد الشافعي في مسح بعض [ ص: 290 ] الرأس والإمام مالك في طهارة الكلب في صلاة واحدة كذا ذكر العلامتان ابن حجر والرملي في شرحهما على المنهاج .

                                                                                        وفي كلام ابن الهمام ما يفيد ذلك في غير هذا المحل أو المراد بمنع المرجوع فيما قلد فيه اتفاقا الرجوع في خصوص العين لا خصوص الجنس ، وذلك بنقض ما فعله مقلدا في فعله إماما ; لأنه لا يملك إبطاله بإمضائه كما لو قضى به فلو صلى ظهرا بمسح ربع الرأس ليس له إبطالها باعتقاده لزوم مسح الكل ، وأما لو صلى يوما على مذهب ، وأراد أن يصلي يوما آخر على غيره فلا يمنع منه ا هـ .

                                                                                        وقد بسط الكلام فيها فراجعه وما ذكره المحقق من جواز تتبع الرخص رده ابن حجر وزعم أنه مخالف للإجماع وانتصر له العلامة خير الدين في حاشيته هنا بكلام طويل ، ومنع دعوى الإجماع فراجعه ويؤيد منعه ما في شرح ابن أمير حاج بعد نقله الإجماع عن ابن عبد البر حيث قال إن صح احتاج إلى جواب ، ويمكن أن يقال لا نسلم صحة دعوى الإجماع إذ في تفسيق المتتبع للرخص عن أحمد روايتان وحمل القاضي أبو يعلى الرواية المفسقة على غير متأول ولا مقلد ، وذكر بعض الحنابلة إن قوي دليل أو كان عاميا لا يفسق وفي روضة النووي وأصلها عن حكاية الحناطي وغيره عن أبي هريرة أنه لا يفسق به ثم لعله محمول على نحو ما يجتمع له من ذلك ما لم يقل بمجموعه مجتهد كما أشار إليه المصنف ا هـ .

                                                                                        وسيذكر المؤلف عن الشارح أن في فسقه وجهين أوجههما عدمه ، والله سبحانه أعلم . ( قوله بقول مجتهد قوله أخف ) قال الرملي الجملة من المبتدأ والخبر نعت لمجتهد .




                                                                                        الخدمات العلمية