قال رحمه الله لما روي أن سبعة من أهل ( ويقتل الجمع بالمفرد ) صنعاء قتلوا واحدا فقتلهم به وقال لو تمالأ عليه أهل عمر صنعاء لقتلتهم ; ولأن القتل بطريق التغالب والقصاص شرع حكمه للزجر فيجعل كل واحد منهم كالمنفرد به فيجري القصاص عليهم جميعا تحقيقا لمعنى الإحياء ، ولولا ذلك لسد باب القصاص وفتح باب التغالب إذ لا يوجد القتل من واحد غالبا ; لأنه يقاومه الواحد فلم يقدر عليه فلم يحصل إلا نادرا والنادر يشرع فيما يغلب لا فيما يندر قال صاحب النهاية : هذا جواب الاستحسان ، وفي القياس لا يلزمهم القصاص ; لأن المساواة لما في الزيادة من الظلم على المتعدي ، وفي النقصان من البخس بحق المعتدى عليه ولا مساواة بين العشرة والواحد في شيء هذا يعلم ببداهة العقل فالواحد من العشرة يكون مثلا للواحد فكيف تكون العشرة مثلا للواحد وأيد هذا القياس قوله تعالى { المعتبر في القصاص وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس } وذلك ينفي مقابلة النفوس بنفس ولكن ترك هذا القياس بما روي أن سبعة من أهل صنعاء قتلوا رجلا فقضى رضي الله عنه بالقصاص عليهم وقال لو تمالأ عليه أهل عمر صنعاء لقتلتهم به انتهى كلامه .
أقول : فيه بحث ; لأنه صرح بأن هذا القياس مقيد بقوله تعالى { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس } وقال في بيانه وذلك ينفي مقابلة النفوس بنفس فعلى ذلك يلزم من ترك هذا القياس ترك العمل بمدلول الآية المذكورة ، وذا لا يجوز بما روي عن رضي الله عنه ; لأن عمر إن كان منفردا في قضائه وقوله المزبورين فظاهر ; لأن قول صحابي واحد وفعله لا يصلحان للمعارضة لكتاب الله تعالى فضلا عن الرجحان عليه ، وإن انضم إليه إجماع الصحابة حيث كانوا متوافرين ولم ينكر عليه أحد منهم فحل محل الإجماع كما صرح به في العناية وغيرها ، فكذلك إذ قد تقرر في أصول الفقه أن الإجماع لا يكون ناسخا للكتاب ، ولا السنة كما لا يكون القياس ناسخا لشيء منهما فالحق في أسلوب تحرير هذا المقام أن لا يتعرض لحديث كون الآية المذكورة مؤيدة لما هو مقتضى القياس في هذه المسألة وأن يبين عدم المنافاة بين مدلول تلك الآية ، وبين جواب الاستحسان هاهنا وسيجيء منا الكلام في التوفيق بينهما بعيد القول إن شاء الله تعالى قالوا القتل بطريق التغالب غالب والقصاص شرع لحكمة الزجر فيجب تحقيقا لحكمة الإحياء قال صاحب العناية لقائل أن يقول ما ذكرتم من المقتول إن لم يكن قياسا على مجمع عليه لا يكون معتبرا في الشرع ، وإن كان فلا يربو عن القياس المقتضي لعدمه المؤيد بقوله تعالى { عمر أن النفس بالنفس } .
والجواب أنه قياس سائر أبواب العقوبات المرتبة على ما يوجب الفساد من أفعال العباد ويربو على ذلك بقوة الباطن ، وهو إحياء كلمة الإحياء وقوله تعالى { أن النفس بالنفس } لا ينافيه ; لأنهم في إزهاق الروح الغير المتجزئ عن مجموعهم وجعلهم كشخص واحد ا هـ . كلامه .
أقول : فيه نظر ; لأن جعل الأشخاص المتعددة الذوات في الحقيقة شخصا واحدا بمجرد صدور إزهاق الروح الغير المتجزئ عن مجموعهم وجعلهم متساوين كشخص واحد بحيث يتحقق بين ذلك الشخص الواحد وبين هؤلاء الجماعة مماثلة معتبرة في القصاص بعيد جدا عن مساعدة العقل والنقل وأيضا ينافي هذا ما سيأتي في تعليل المسألة الآتية من أن الأصل أن كل واحد منهم قاتل بوصف الكمال الصادر منهم بهذا الاعتبار فثلاث متعددة على عدد رءوسهم فحصلت المماثلة المعتبرة في القصاص [ ص: 355 ] ، والحق عندي هاهنا أن يقال أن قوله تعالى { أن النفس بالنفس } لا ينافي ما قالوا في هذه المسألة إذ لا دلالة فيه على اعتبار الوحدة في النفس بل فيه مجرد مقابلة جنس النفس بجنس النفس كما ترى والمقصود منه الاحتراز عن أن تقتل النفس بما في قوله تعالى { والعين بالعين والأنف بالأنف } ونحوهما ، وأما أنه هل تحقق المماثلة المعتبرة في القصاص عند تعذر النفس في جانب القاتل والمقتول .
وإنما يستفاد ذلك من دليل آخر ألا ترى أن العين اليمنى لا تقتص بالعين اليسرى وكذا العكس مع أن قوله تعالى { والعين بالعين } لا يدل عليه نظرا إلى ظاهر إطلاقه بل إنما يستفاد ذلك من دليل آخر فكذا هنا تبصر .