فالرأي الباطل أنواع : أحدها : ، وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام فساده وبطلانه ، ولا تحل الفتيا به ولا القضاء ، وإن وقع فيه من وقع بنوع تأويل وتقليد . الرأي المخالف للنص
النوع الثاني : هو ، مع التفريط والتقصير في معرفة النصوص وفهمها واستنباط الأحكام منها ، فإن من جهلها وقاس برأيه فيما سئل عنه بغير علم ، بل لمجرد قدر جامع بين الشيئين ألحق أحدهما بالآخر ، أو لمجرد قدر فارق يراه بينهما يفرق بينهما في الحكم ، من غير نظر إلى النصوص والآثار ; فقد وقع في الرأي المذموم الباطل . الكلام في الدين بالخرص والظن
فصل .
النوع الثالث : بالمقاييس الباطلة التي وضعها أهل البدع والضلال من الرأي المتضمن تعطيل أسماء الرب وصفاته وأفعاله الجهمية والمعتزلة والقدرية ومن ضاهاهم ، حيث استعمل أهله قياساتهم الفاسدة وآراءهم الباطلة وشبههم الداحضة في رد النصوص الصحيحة الصريحة ; فردوا لأجلها ألفاظ النصوص التي وجدوا السبيل إلى تكذيب رواتها وتخطئتهم ، ومعاني النصوص التي لم يجدوا إلى رد ألفاظها سبيلا ، فقابلوا النوع الأول بالتكذيب ، والنوع الثاني بالتحريف والتأويل ، فأنكروا لذلك رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة ، وأنكروا كلامه وتكليمه لعباده ، وأنكروا مباينته للعالم ، واستواءه على عرشه ، وعلوه على المخلوقات ، وعموم قدرته على كل شيء ، بل أخرجوا أفعال عباده من الملائكة والأنبياء والجن والإنس عن تعلق قدرته ومشيئته وتكوينه لها ، ونفوا لأجلها حقائق ما أخبر به عن نفسه وأخبر به رسوله من صفات كماله ونعوت جلاله ; وحرفوا لأجلها النصوص عن مواضعها ، وأخرجوها عن معانيها وحقائقها بالرأي المجرد الذي حقيقته أنه ذبالة الأذهان ونخالة الأفكار وعفارة الآراء ووساوس الصدور ، فملئوا به الأوراق سوادا ، والقلوب شكوكا ، والعالم فسادا ، وكل من له مسكة من عقل يعلم أن فساد العالم وخرابه إنما نشأ [ ص: 55 ] من تقديم الرأي على الوحي ، والهوى على العقل ، وما استحكم هذان الأصلان الفاسدان في قلب إلا استحكم هلاكه ، وفي أمة إلا فسد أمرها أتم فساد ، فلا إله إلا الله كم نفي بهذه الآراء من حق ، وأثبت بها من باطل ، وأميت بها من هدى ، وأحيي بها من ضلالة ؟ وكم هدم بها من معقل الإيمان ، وعمر بها من دين الشيطان ؟ وأكثر أصحاب الجحيم هم أهل هذه الآراء الذين لا سمع لهم ولا عقل ، بل هم شر من الحمر ، وهم الذين يقولون يوم القيامة : { لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير } .
النوع الرابع : ، وعم به البلاء ، وتربى عليه الصغير ، وهرم فيه الكبير . الرأي الذي أحدثت به البدع ، وغيرت به السنن
فهذه الأنواع الأربعة من الرأي الذي اتفق سلف الأمة وأئمتها على ذمه وإخراجه من الدين .
النوع الخامس : ما ذكره عن جمهور أهل العلم أن الرأي المذموم في هذه الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه والتابعين رضي الله عنهم أنه أبو عمر بن عبد البر ، دون ردها على أصولها والنظر في عللها واعتبارها ، فاستعمل فيها الرأي قبل أن ينزل ، وفرعت وشققت قبل أن تقع ، وتكلم فيها قبل أن تكون بالرأي المضارع للظن ، قالوا : وفي الاشتغال بهذا والاستغراق فيه تعطيل السنن ، والبعث على جهلها ، وترك الوقوف على ما يلزم الوقوف عليه منها ومن كتاب الله عز وجل ومعانيه ، احتجوا على ما ذهبوا إليه بأشياء ، ثم ذكر من طريق القول في أحكام شرائع الدين بالاستحسان والظنون ، والاشتغال بحفظ المعضلات والأغلوطات ورد الفروع بعضها على بعض قياسا ثنا أسد بن موسى شريك عن عن ليث عن طاوس قال : لا تسألوا عما لم يكن ; فإني سمعت ابن عمر يلعن عمر ، ثم ذكر من طريق من يسأل عما لم يكن أبي داود ثنا إبراهيم بن موسى الرازي ثنا عن عيسى بن يونس الأوزاعي عن عن عبد الله بن سعد عن الصنابحي { معاوية } . أن النبي صلى الله عليه وسلم : نهى عن الأغلوطات
وقال : ثنا أبو بكر بن أبي شيبة عن عيسى بن يونس الأوزاعي بإسناده مثله ; وقال : فسره الأوزاعي يعني صعاب المسائل وقال عن الوليد بن مسلم الأوزاعي عن عن عبد الله بن سعد عبادة بن قيس الصنابحي عن { معاوية بن أبي سفيان } . أنهم ذكروا المسائل عنده ، فقال : أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن عضل المسائل
وقال : واحتجوا أيضا بحديث أبو عمر سهل وغيره { } [ ص: 56 ] أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كره المسائل وعابها ، وبأنه صلى الله عليه وسلم قال : إن الله يكره لكم قيل وقال ، وكثرة السؤال
وقال : ثنا أبي ، ثنا ابن خيثمة ثنا عبد الرحمن بن مهدي عن مالك الزهري عن قال { سهل بن سعد } قال : لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها أبو بكر : هكذا ذكره أحمد بن زهير بهذا الإسناد ، وهو خلاف لفظ الموطإ ، قال : وفي سماع أبو عمر : سئل أشهب عن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : { مالك } فقال : أما كثرة السؤال فلا أدري أهو ما أنتم فيه مما أنهاكم عنه من كثرة المسائل ; فقد كره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها ، وقال الله عز وجل : { أنهاكم عن قيل وقال ، وكثرة السؤال لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم } فلا أدري أهو هذا أم السؤال في مسألة الناس في الاستعطاء .
وقال الأوزاعي : عن : وددت أن حظي من أهل هذا الزمان أن لا أسألهم عن شيء ولا يسألوني ، يتكاثرون بالمسائل كما يتكاثر أهل الدراهم بالدراهم . عبدة بن أبي لبابة
قال : واحتجوا أيضا بما رواه ابن شهاب عن أنه سمع أباه يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { عامر بن سعد بن أبي وقاص } وروى أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم على المسلمين فحرم عليهم من أجل مسألته أيضا قال : حدثني ابن وهب عن ابن لهيعة عن الأعرج عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { أبي هريرة } . ذروني ما تركتكم ; فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم ، واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه ، وإذا أمرتكم بشيء فخذوا منه ما استطعتم
وقال عن سفيان بن عيينة عمرو عن قال : قال طاوس وهو على المنبر : أحرج بالله على كل امرئ سأل عن شيء لم يكن ، فإن الله قد بين ما هو كائن . عمر بن الخطاب
وقال : وروى أبو عمر جرير بن عبد الحميد عن ومحمد بن فضيل عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير قال : ما رأيت قوما خيرا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض صلى الله عليه وسلم كلهن في القرآن : { ابن عباس يسألونك عن المحيض } ، { يسألونك عن الشهر الحرام } ، { يسألونك عن اليتامى } . ما كانوا يسألونه إلا عما ينفعهم قال : ليس الحديث من الثلاث عشرة مسألة إلا ثلاث . أبو عمر
قلت : ومراد بقوله : " ما سألوه إلا عن ثلاث عشر مسألة " المسائل التي حكاها الله في القرآن عنهم ، وإلا فالمسائل التي سألوه عنها وبين لهم أحكامها بالسنة لا تكاد تحصى ولكن إنما كانوا يسألونه عما ينفعهم من الواقعات ولم يكونوا يسألونه عن المقدرات والأغلوطات وعضل المسائل ، ولم يكونوا يشتغلون بتفريع المسائل وتوليدها ، بل [ ص: 57 ] كانت هممهم مقصورة على تنفيذ ما أمرهم به ، فإذا وقع بهم أمر سألوا عنه فأجابهم ، وقد قال الله تعالى : { ابن عباس يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم عفا الله عنها والله غفور حليم قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين } .
وقد اختلف في هذه الأشياء المسئول عنها : هل هي أحكام قدرية أو أحكام شرعية ؟ على قولين ، فقيل : إنها أحكام شرعية عفا الله عنها ، أي سكت عن تحريمها فيكون سؤالهم عنها سبب تحريمها ، ولو لم يسألوا لكانت عفوا ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم { } ; ويدل على هذا التأويل حديث وقد سئل عن الحج أفي كل عام ؟ فقال : لو قلت نعم لوجبت ، ذروني ما تركتكم ، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم المذكور { أبي ثعلبة } الحديث ومنه الحديث الآخر : { إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما } وفسرت بسؤالهم عن أشياء من الأحكام القدرية ; { إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها ، وحد حدودا فلا تعتدوها ، وحرم أشياء فلا تنتهكوها ، وسكت عن أشياء رحمة من غير نسيان فلا تبحثوا عنها من أبي يا رسول الله عبد الله بن حذافة } ؟ وقول آخر : { كقول } . أين أبي يا رسول الله ؟ قال : في النار
والتحقيق أن الآية تعم النهي عن النوعين ، وعلى هذا فقوله تعالى : { إن تبد لكم تسؤكم } أما في أحكام الخلق والقدر فإنه يسوءهم أن يبدو لهم ما يكرهونه مما سألوا عنه ، وأما في أحكام التكليف فإنه يسوءهم أن يبدو لهم ما يشق عليهم تكليفه مما سألوا عنه ، وقوله تعالى : { وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم } فيه قولان :
أحدهما : أن القرآن إذا نزل بها ابتداء بغير سؤال فسألتم عن تفصيلها وعلمها أبدى لكم وبين لكم ، والمراد بحين النزول زمنه المتصل به ، لا الوقت المقارن للنزول ، وكأن في هذا إذنا لهم في السؤال عن تفصيل المنزل ومعرفته بعد إنزاله ; ففيه رفع لتوهم المنع من السؤال عن الأشياء مطلقا ، والقول الثاني أنه من باب التهديد والتحذير ، أي ما سألتم عنها في وقت نزول الوحي جاءكم بيان ما سألتم عنه بما يسوءكم ، والمعنى لا تتعرضوا للسؤال عما يسوءكم بيانه ، وإن تعرضتم له في زمن الوحي أبدى لكم .
وقوله : { عفا الله عنها } أي عن بيانها خبرا وأمرا ، بل طوي بيانها عنكم رحمة ومغفرة وحلما والله غفور حليم ; فعلى القول الأول عفا الله عن التكليف بها توسعة عليكم ، وعلى القول الثاني عفا الله عن بيانها لئلا يسوءكم بيانها .
وقوله : { قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين } أراد نوع تلك المسائل ، لا [ ص: 58 ] أعيانها ، أي قد تعرض قوم من قبلكم لأمثال هذه المسائل ، فلما بينت لهم كفروا بها ، فاحذروا مشابهتهم والتعرض لما تعرضوا له .
ولم ينقطع حكم هذه الآية ، بل . ومن ههنا قال لا ينبغي للعبد أن يتعرض للسؤال عما إن بدا له ساءه ، بل يستعفي ما أمكنه ، ويأخذ بعفو الله رضي الله عنه : يا صاحب الميزاب ، لا تخبرنا ، لما سأله رفيقه عن مائه أطاهر أم لا ، وكذلك لا ينبغي للعبد أن يسأل ربه أن يبدي له من أحواله وعاقبته ما طواه عنه وستره ، فلعله يسوءه إن أبدي له ، فالسؤال عن جميع ذلك تعرض لما يكرهه الله ; فإنه سبحانه يكره إبداءها ، ولذلك سكت عنها ، والله أعلم . عمر بن الخطاب
فصل .
قالوا : ومن تدبر وجدها لا تخرج عن هذه الأنواع المذمومة ، ونحن نذكر آثار التابعين ومن بعدهم بذلك ; ليتبين مرادهم : قال الآثار المروية في ذم الرأي الخشني : ثنا محمد بن بشار ثنا عن يحيى بن سعيد القطان عن مجالد الشعبي قال : لعن الله أرأيت
قال يحيى بن سعيد : وثنا صالح بن مسلم قال : سألت الشعبي عن مسألة من النكاح فقال : إن أخبرتك برأيي فبل عليه .
قالوا : فهذا قول الشعبي في رأيه ، وهو من كبار التابعين ، وقد لقي مائة وعشرين من الصحابة ، وأخذ عن جمهورهم .
وقال : ثنا الطحاوي سليمان بن شعيب ثنا عبد الرحمن بن خالد ثنا عن مالك بن مغول الشعبي قال : ما جاءكم به هؤلاء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فخذوه وما كان من رأيهم فاطرحوه في الحش .
وقال : حدثنا البخاري سنيد بن داود ثنا عن حماد بن زيد زيد عن عمرو بن دينار قال : قيل : إنهم يكتبون ما يسمعون منك ، قال : إنا لله وإنا إليه راجعون ، يكتبونه وأنا أرجع عنه غدا . لجابر بن زيد
قال : قال إسحاق بن راهويه : اجتهاد الرأي هو مشاورة أهل العلم ، لا أن يقول هو برأيه . سفيان بن عيينة
وقال ابن أبي خيثمة : ثنا الحوطي ثنا عن إسماعيل بن عياش سوادة بن زياد [ ص: 59 ] وعمرو بن المهاجر عن أنه كتب إلى الناس : أنه لا رأي لأحد مع سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم . عمر بن عبد العزيز
قال أبو بصيرة : سمعت يقول أبا سلمة بن عبد الرحمن : بلغني أنك تفتي برأيك ، فلا تفت برأيك إلا أن يكون سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . للحسن البصري
وقال : حدثني البخاري محمد بن محبوب ثنا عبد الواحد ثنا ابن الزبرقان بن عبد الله الأسيدي أن قال : إياك ومجالسة من يقول : أرأيت أرأيت . أبا وائل شقيق بن سلمة
وقال أبان بن عيسى بن دينار عن أبيه عن ابن القاسم عن عن مالك ابن شهاب قال : دعوا السنة تمضي ، لا تعرضوا لها بالرأي .
وقال عن يونس - سمعت أبي الأسود وهو محمد بن عبد الرحمن بن نوفل يقول : ما زال أمر عروة بن الزبير بني إسرائيل معتدلا حتى نشأ فيهم المولدون أبناء سبايا الأمم ، فأخذوا فيهم بالرأي ، فأضلوهم .
وذكر عن ابن وهب ابن شهاب أنه قال ، وهو يذكر ما وقع فيه الناس من هذا الرأي وتركهم السنن ، فقال : إن اليهود والنصارى إنما انسلخوا من العلم الذي بأيديهم حين اتبعوا الرأي وأخذوا فيه .
وقال : حدثني ابن وهب أن رجلا سأل ابن لهيعة عن شيء ، فقال : لم أسمع في هذا شيئا ، فقال له الرجل : فأخبرني أصلحك الله برأيك ، فقال : لا ، ثم أعاد عليه ، فقال : إني أرضى برأيك ، فقال سالم بن عبد الله بن عمر سالم : إني لعلي إن أخبرتك برأيي ثم تذهب فأرى بعد ذلك رأيا غيره فلا أجدك .
وقال : حدثنا البخاري عبد العزيز بن عبد الله الأويسي ثنا قال : كان مالك بن أنس يقول ربيعة لابن شهاب : إن حالي ليس بشبه حالك ، أنا أقول برأيي من شاء أخذه وعمل به ومن شاء تركه .
وقال الفريابي : ثنا قال : سمعت أحمد بن إبراهيم الدورقي يقول : سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول : قيل حماد بن زيد : ما لك لا تنظر في الرأي ؟ فقال لأيوب السختياني : قيل للحمار ما لك لا تجتر ؟ قال : أكره مضغ الباطل . أيوب
وقال الفريابي : ثنا أخبرني أبي قال : سمعت العباس بن الوليد بن مزيد الأوزاعي يقول : عليك بآثار من سلف وإن رفضك الناس ، وإياك وآراء الرجال وإن زخرفوا لك القول [ ص: 60 ]
وقال أبو زرعة : ثنا قال : كان أبو مسهر إذا سئل لا يجيب حتى يقول : لا حول ولا قوة إلا بالله ، هذا الرأي ، والرأي يخطئ ويصيب . سعيد بن عبد العزيز
وقد روى أبو يوسف كلاهما عن والحسن بن زياد أنه قال : علمنا هذا رأي ، وهو أحسن ما قدرنا عليه ، ومن جاءنا بأحسن منه قبلناه منه . أبي حنيفة
وقال : ثنا الطحاوي ثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال : كنت عند أشهب بن عبد العزيز فسئل عن البتة ، فأخذت ألواحي لأكتب ما قال ، فقال لي مالك : لا تفعل ، فعسى في العشي أقول إنها واحدة . مالك
وقال : سمعت معن بن عيسى القزاز يقول : إنما أنا بشر أخطئ وأصيب ، فانظروا في قولي ، فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوا به ، وما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه فرضي الله عن أئمة الإسلام ، وجزاهم عن نصيحتهم خيرا ، ولقد امتثل وصيتهم وسلك سبيلهم أهل العلم والدين من أتباعهم . مالكا
[ المتعصبون عكسوا القضية ]
وأما المتعصبون فإنهم عكسوا القضية ، ونظروا في السنة فما وافق أقوالهم منها قبلوه ، وما خالفها تحيلوا في رده أو رد دلالته ، وإذا جاء نظير ذلك أو أضعف منه سندا ودلالة وكان يوافق قولهم قبلوه ، ولم يستجيزوا رده ، واعترضوا به على منازعيهم ، وأشاحوا وقرروا الاحتجاج بذلك السند ودلالته ، فإذا جاء ذلك السند بعينه أو أقوى منه ، ودلالته كدلالة ذلك أو أقوى منه في خلاف قولهم ; دفعوه ولم يقبلوه ، وسنذكر من هذا إن شاء الله طرفا عند ذكر غائلة التقليد وفساده ، والفرق بينه وبين الاتباع .
وقال بقي بن مخلد : ثنا سحنون عن والحارث بن مسكين ابن القاسم عن أنه كان يكثر أن يقول : { مالك إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين } .
وقال القعنبي : دخلت على في مرضه الذي مات فيه ، فسلمت عليه ، ثم جلست ، فرأيته يبكي ، فقلت له : يا مالك بن أنس ، ما الذي يبكيك ؟ فقال لي : يا أبا عبد الله ابن قعنب ، ومالي لا أبكي ؟ ومن أحق بالبكاء مني ؟ والله لوددت أني ضربت بكل مسألة أفتيت فيها بالرأي سوطا ، وقد كانت لي السعة فيما قد سبقت إليه ، وليتني لم أفت بالرأي [ ص: 61 ]
وقال ابن أبي داود : ثنا قال : سمعت أحمد بن سنان يقول : مثل الذي ينظر في الرأي ثم يتوب منه مثل المجنون الذي عولج حتى برئ فأعقل ما يكون قد هاج به . الشافعي
وقال ابن أبي داود : حدثنا قال : سمعت أبي يقول : لا تكاد ترى أحدا نظر في الرأي إلا وفي قلبه دغل . عبد الله بن أحمد بن حنبل
وقال أيضا : سمعت أبي يقول : الحديث الضعيف أحب إلي من الرأي ، فقال عبد الله بن أحمد عبد الله : سألت أبي عن الرجل يكون ببلد لا يجد فيه إلا صاحب حديث لا يعرف صحيحه من سقيمه وأصحاب رأي ، فتنزل به النازلة ، فقال أبي : يسأل أصحاب الحديث ، ولا يسأل أصحاب الرأي ، . ضعيف الحديث أقوى من الرأي
[ يقدم الحديث الضعيف على الرأي ] أبو حنيفة
وأصحاب رحمه الله مجمعون على أن مذهب أبي حنيفة أن ضعيف الحديث عنده أولى من القياس والرأي ، وعلى ذلك بنى مذهبه ، كما قدم حديث القهقهة مع ضعفه على القياس والرأي ، وقدم حديث الوضوء بنبيذ التمر في السفر مع ضعفه على الرأي والقياس ، ومنع قطع السارق بسرقة أقل من عشرة دراهم والحديث فيه ضعيف ، وجعل أكثر الحيض عشرة أيام والحديث فيه ضعيف ، وشرط في إقامة الجمعة المصر والحديث فيه كذلك ، وترك القياس المحض في مسائل الآبار لآثار فيها غير مرفوعة ; فتقديم الحديث الضعيف وآثار الصحابة على القياس والرأي قوله وقول أبي حنيفة ، وليس المراد بالحديث الضعيف في اصطلاح السلف هو الضعيف في اصطلاح المتأخرين ، بل ما يسميه المتأخرون حسنا قد يسميه المتقدمون ضعيفا كما تقدم بيانه . الإمام أحمد
والمقصود أن السلف جميعهم على ذم الرأي والقياس المخالف للكتاب والسنة وأنه لا يحل العمل به لا فتيا ولا قضاء ، وأن الرأي الذي لا يعلم مخالفته للكتاب والسنة ولا موافقته فغايته أن يسوغ العمل به عند الحاجة إليه من غير إلزام ولا إنكار على من خالفه .
قال : ثنا أبو عمر بن عبد البر عبد الرحمن بن يحيى ثنا أحمد بن سعيد بن حزم ثنا عبد الله بن يحيى عن أبيه أنه كان يأتي فيقول له : من أين ؟ فيقول له : من عند ابن وهب ابن القاسم ، فيقول له : اتق الله ; فإن أكثر هذه المسائل رأي . ابن وهب
وقال الحافظ أبو محمد : ثنا عبد الرحمن بن سلمة ثنا ثنا أحمد بن حنبل أخبرني خالد بن سعيد محمد بن عمر بن كنانة ثنا أبان بن عيسى بن دينار قال : كان أبي قد أجمع على ترك الفتيا بالرأي ، وأحب الفتيا بما روي من الحديث ، فأعجلته المنية عن ذلك [ ص: 62 ]
وقال أبو عمر : وروى الحسن بن واصل أنه قال : إنما هلك من كان قبلكم حين تشعبت بهم السبل ، وحادوا عن الطريق ، وتركوا الآثار ، وقالوا في الدين برأيهم ، فضلوا وأضلوا قال أبو عمر : وذكر عن نعيم بن حماد عن أبي معاوية عن الأعمش عن مسلم : من يرغب برأيه عن أمر الله يضل . مسروق
وذكر قال : أخبرني ابن وهب بكر بن نصر عن رجل من قريش أنه سمع ابن شهاب يقول وهو يذكر ما وقع فيه الناس من هذا الرأي وتركهم السنن ، فقال : إن اليهود والنصارى إنما انسلخوا من العلم الذي كان بأيديهم حين اشتقوا الرأي وأخذوا فيه .
وذكر في كتاب " تهذيب الآثار " له عن ابن جرير قال : قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تم هذا الأمر واستكمل ; فإنما ينبغي أن تتبع آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تتبع الرأي ; فإنه من اتبع الرأي جاء رجل آخر أقوى منه في الرأي فاتبعه ، فأنت كلما جاء رجل غلبك اتبعته . مالك
وقال : ثنا نعيم بن حماد عن ابن المبارك أن رجلا جاء إلى عبد الله بن وهب القاسم بن محمد ، فسأله عن شيء ، فأجابه ، فلما ولى الرجل دعاه فقال له : لا تقل إن القاسم زعم أن هذا هو الحق ، ولكن إذا اضطررت إليه عملت به .
وقال أبو عمر : قال : قال لي ابن وهب وهو ينكر كثرة الجواب للمسائل : يا مالك بن أنس أبا عبد الله ، ما علمته فقل به ودل عليه ، وما لم تعلم فاسكت ، وإياك أن تتقلد للناس قلادة سوء .
وقال : وذكر أبو عمر محمد بن حارث بن أسد الخشني أنبأنا أبو عبد الله محمد بن عباس النحاس قال : سمعت أبا عثمان سعيد بن محمد الحداد يقول : سمعت يقول : ما أدري ما هذا الرأي ، سفكت به الدماء ، واستحلت به الفروج ، واستحقت به الحقوق ، غير أنا رأينا رجلا صالحا فقلدناه . سحنون بن سعيد
وقال : سمعت سلمة بن شبيب يقول : رأي أحمد ورأي الشافعي ورأي مالك كله عندي رأي وهو عندي سواء ، وإنما الحجة في الآثار . أبي حنيفة
وقال : أنشدني أبو عمر بن عبد البر عبد الرحمن بن يحيى أنشدنا أبو علي الحسن بن الخضر الأسيوطي بمكة أنشدنا أنشدنا محمد بن جعفر عن أبيه : [ ص: 63 ] عبد الله بن أحمد بن حنبل
دين النبي محمد آثار نعم المطية للفتى الأخبار لا تخدعن عن الحديث وأهله
فالرأي ليل والحديث نهار ولربما جهل الفتى طرق الهدى
والشمس طالعة لها أنوار
العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس خلف فيه
ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين النصوص وبين رأي سفيه
كلا ولا نصب الخلاف جهالة بين الرسول وبين رأي فقيه
كلا ولا رد النصوص تعمدا حذرا من التجسيم والتشبيه
حاشا النصوص من الذي رميت به من فرقة التعطيل والتمويه