[ ص: 345 ] مسألة ( الحرام والواجب متناقضان ) قد تقرر أن ، فالحرام بالشخص لا يكون حراما وواجبا من جهة واحدة إلا إذا جوزنا تكليف المحال لذاته . واعلم أن الواحد يقال بالتشكيك على الواحد بالجنس ، وعلى الواحد بالنوع ، وعلى الواحد بالشخص ، فأما الواحد بالنوع ، كمطلق السجود ، فاختلفوا هل يجوز أن يكون مأمورا به ومنهيا عنه ، بمعنى أن بعض أفراده واجب وبعضها حرام ؟ فجوزه الجمهور ، واحتجوا بوقوعه ، فإن السجود لله واجب ، وللصنم حرام بل كفر قال الله تعالى : { الحرام والواجب متناقضان فلا يجتمعان لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله } فالسجود نوع واحد قد أمر ببعضه ، ونهي عن بعضه ، ولا يقال : إن المنهي عنه تعظيم الصنم لا نفس السجود ; لأن ذلك محال لنص الآية ; ولأن الأمة مجتمعة على أن الساجد للصنم عاص بنفس السجود والقصد جميعا على ما حكاه إمام الحرمين ، وحكي عن أبي هاشم أنه قال : لا يحرم السجود ، بل المحرم القصد إلى ذلك بناء على أصله : أن أفراد النوع لا تختلف بالحسن والقبح ، وأما الواحد بالشخص : أي الواحد المعين فإما أن يكون ليس له إلا جهة واحدة ، أو له جهات مختلفة ، فإن لم يكن له إلا جهة واحدة فلا خلاف في امتناع [ ص: 346 ] كونه مأمورا به منهيا عنه إلا على رأي من يجوز التكليف بالمحال ، وإن كان له جهات مختلفة ، فهل يجوز أن يؤمر به من جهة وينهى عنه من جهة كالصلاة في الدار المغصوبة ؟ فجوزه الجمهور وقالوا : يصح . لأن تعدد الجهات يوجب التغاير ، لتعدد الصفات والإضافات ، وذلك يدفع التناقض ; لأن الصلاة من حيث هي صلاة مأمور بها ، ومن حيث إنها في البقعة المغصوبة منهي عنها ، فهما متعلقان متغايران ، وجعلوا اختلاف ، الجهتين كاختلاف المحلين ; لأن كل واحدة من الجهتين منفكة عن الأخرى ، واجتماعهما إنما وقع باختيار المكلف فليسا متلازمين ، فلا تناقض .
وذهب أبو علي الجبائيان وأبو هاشم وأبو شمر الحنفي ، والزيدية ، والظاهرية إلى أنها غير مجزئة ، وحكاه المازري عن من أصحاب أصبغ ، وبه قال مالك ، واختاره أحمد بن حنبل في " النكت " [ ص: 347 ] وقال : لا وجه لدعوى الإجماع في إجزائها مع خلاف ابن العارض المعتزلي الزيدية والظاهرية وأبو شمر والجبائي لذلك ، وحكاه وابنه القاضي حسين في تعليقه " وجها عن بعض أصحابنا ، وكذا ابن الصباغ في فتاويه " عن بعض أصحابنا بخراسان . قال : وهو مذهب القاضي الحسين المعتزلة ، وقال : لا تقع مأمورا بها ، ولكن يسقط القضاء عندها لا بها ، كما يسقط التكليف بالأعذار الطارئة من الجنون وغيره ، فكأنه جعلها سببا لسقوط الفرض ، أو أمارة عليه على نحو من خطاب الوضع لا علة لسقوطه ; لأن ذلك يستدعي صحتها . هكذا نقله الإمام عنه في " البرهان " القاضي أبو بكر وابن برهان في " الأوسط " واختاره في " المحصول " ، والسهروردي .
ونقل الهندي عنه : لا يصح ، وقال في النهاية : اتفق هؤلاء على أنه لا يسقط الفرض بها لكن اختلفوا في أنه هل يسقط الفرض عندها أم لا ؟ فقال القاضي ومن تابعه : يسقط عندها لا بها ، وقال الباقون : لا يسقط الفرض لا بها ولا عندها ، بل يجب عليهم القضاء . هكذا نقل بعضهم . والصحيح : أن القاضي إنما يقول بذلك لو ثبت القول بصحة الإجماع على سقوط القضاء فأما إذا لم يثبت ذلك فلا يقول بسقوط بها ولا عندها . ا هـ .
وهو ظاهر نقل " المستصفى " ، ولهذا قال الإمام في " المعالم " هي صحيحة عندنا خلافا للفقهاء ، ثم إن صح الإجماع على عدم القضاء [ ص: 348 ] قلنا : يسقط الفرض عندها لا بها ، وإن لم يصح هذا الإجماع ، وهو الأصح أوجبنا القضاء . انتهى . والإجماع لم ينقله القاضي صريحا ، وإنما تلقاه بمسلك استنباطي على زعمه ، فقال : لم يأمر أئمة السلف العصاة بإعادة الصلوات التي أقاموها في الأرض المغصوبة ، ورد عليه الإمام بقوله : كان في السلف متعمقون في التقوى يأمرون بدون ما فرضه القاضي ، وضعفه الإبياري ، قال : وكأنه راجع إلى نقل الإجماع بطريق القياس ; لأنهم كانوا يأمرون بالقضاء بدونه ، وكيف لا يأمرون بالقضاء في هذا ؟ وقال الغزالي : خلاف لا يقدح في الإجماع ، بل الإجماع السالف حجة عليه ; لأن الظلمة لم يؤمروا بقضاء الصلوات مع كثرة وقوعها ، ولو أمروا به لانتشر ، ولما صحت أدلة أحمد المتكلمين عند القاضي من لزوم قال بها فحكم بفساد الصلاة ولما صح عنده إجماع توارد الأمر والنهي في الفعل الواحد الاختياري السلف على أنهم لم يأمروا بالقضاء في البقع المغصوبة قال : إن الإجزاء يحصل عندها لا بها .
قيل : فإن صح هذا الإجماع فلا محيص عما قال ، فإنه إعمال لكل واحد من الدليلين في محله ، وأنى يصح هذا الإجماع ، وخلاف قد ملأ الأسماع ، فلو سبقه إجماع لكان أجدر من القاضي بمعرفته ، وممن منع الإجماع أحمد إمام الحرمين ، وابن السمعاني وغيرهما من الأئمة ، وقال إلكيا : مستنده في سقوط القضاء إجماع الأولين ، والإجماع إن [ ص: 349 ] لم يسلم في هذه الصورة ممكن تحقيقه ممن عليه دين ، وهو مماطل يصلي مع المطل ، فصلاته مجزئة وإمكان الإجماع هاهنا بعيد ، وقال المقترح : نقل الإجماع عسر جدا ; لأن الإجماع السكوتي لا يصح إلا مع تقدير تكرر الواقعة ، والغصب في زمن الصحابة رضي الله عنهم كان قليل الوقوع . ا هـ . وعلى تقدير اطلاعهم عليه فالإجماع ليس بحجة عند القاضي ، وذكر النووي في باب الآنية من " شرح المهذب " : أن أصحابنا يدعون الإجماع على الصحة قبل مخالفة ، وهذا لو تم دفع مذهب أحمد القاضي ; لأنه يوافق على عدم الصحة ، وقال ابن برهان : منشأ الخلاف أن النهي هل عاد لعين الصلاة أو لأمر خارج عنها ؟ فمن قال بالأول أبطلها ، وقيل : بل أصل الخلاف : أن الأمر المطلق هل يتناول المكروه ؟ فعندنا لا يتناوله ، وإن لم يكن محرما . وقالت الحنفية : يتناوله .
واحتج أصحابنا باستحالة ، فيجب أن يكون المأمور بفعل إذا فعله على وجه كره الشرع إيقاعه عليه ، لا يكون ممتثلا . وقيل : يتوجه على القائلين بالصحة صحة يوم النحر نقضا ، إذ لا فرق بينهما ، وقولهم : الغصب منفك عن الصلاة بخلاف الوقوع يوم النحر [ ص: 350 ] تخصيص للدعوى بما يجوز انفكاك الجهتين فيه ، ويتوجه على القائلين بعدم الصحة صوم يوم خيف على نفسه الهلاك فيه بسبب الصوم ، فإنه حرام مع الصحة ، وكذا إذا صلى في البلد الذي حرم عليه المقام فيه ; لأجل وجوب الهجرة ، فإن الصلاة تصح إجماعا . الجمع بين طلب الفعل والترك في فعل واحد من جهة واحدة
وعن ابن تيمية أنه نقل أربعة مذاهب : أحدها : يجوز عقلا وشرعا ، والثاني : لا يجوز عقلا ولا شرعا ، والثالث : يجوز عقلا لا شرعا . والرابع : يجوز شرعا لا عقلا . قال : وهو بمعنى قولهم : يصح عندها لا بها . واختلفت الرواية عن في الصحة . ثالثها : إن علم التحريم لم يصح وإلا صحت . ثم اختلفوا في هذه المسألة هل هي من مسائل القطع أو الاجتهاد ؟ فقال أحمد القاضي : الصحيح أنها من مسائل القطع ، وبه جزم في " المستصفى " ، وقال المصيب فيها واحد ; لأن المصحح أخذه من الإجماع ، وهو قطعي ، ومن أبطل أخذه من التضاد الذي بين القربة والمعصية ، ويدعي استحالته عقلا ، فالمسألة قطعية ، فكأنه قال : انعقد الإجماع على أنها قطعية ، وإنما يبقى النظر في التعيين . [ ص: 351 ]
الأولى إذا قلنا : يصح فحكى النووي عن " الفتاوى " التي نقلها القاضي أبو منصور عن عمه أبي نصر بن الصباغ أن المحفوظ من كلام أصحابنا بالعراق أنها صحيحة يسقط بها الفرض ، ولا ثواب فيها ، وإن ابن الصباغ ذكر في كتابه " الكامل " أنا إذا قلنا بالصحة فينبغي أن يحصل الثواب ، ويكون مثابا على فعله عاصيا بمقامه . قال القاضي أبو المنصور : وهذا هو القياس إذا صححنا . انتهى . قال ابن الرفعة : والقول بأنه لا يثاب يعتضد بنص في أن الردة تحبط أجر العمل الواقع قبلها في الإسلام ، ولا تجب عليه الإعادة . الشافعي
الثانية : أطلقوا الكلام في الصحة وعدمها ، وقال ابن الرفعة في " المطلب " : عندي أن هذا إنما هو في صلاة الفرض ; لأن فيها مقصودين أداء ما وجب وحصول الثواب ، فإذا انتفى الثواب صحت لحصول المقصود الآخر ، ونحن لا نشترط في سقوط خطاب الشرع حصول الثواب ، ولهذا قال : إن الردة تحبط أجر الأعمال الواقعة في الإسلام ، ولا يجب عليه إعادتها لو أسلم ، وكذا نقول الشافعي لا يثاب عليها ; لفقد النية منه ، وسقط بها خطاب الشرع عنه ; لحصول مقصوده بالنسبة إلى أهل السهمان ، ولهذا قال فيمن أخذت منه الزكاة قهرا ابن الخطيب : وإن قام الإجماع على عدم وجوب [ ص: 352 ] إعادتها ، فنقول سقط الفرض عندها لا بها ، ولهذا قال في " التنبيه " : فإن صلى لم يعد ، ولم يقل : صحت بخلاف قوله في " المهذب " : وإذا كان كذلك فصلاة النفل لا مقصود فيها غير الثواب ، فإذا لم يحصل لا تنعقد ، وإطلاق من أطلق محمول على التقييد بالفرض . ا هـ .