مسألة [ طرق معرفة الأشياء ] قال المتكلمون : يعرف الشيء بأمور ثلاثة : أحدها : بآثاره كالاستدلال بالمصنوع على الصانع ، وبالمبني على الباني . الثاني : بحسب ذاته المخصوصة [ ص: 98 ] الثالث : بالمشاهدة ، ويعرف الله تعالى بآثاره بلا خلاف . قال الله تعالى : { سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم } . واختلفوا هل يعرف بحسب ذاته المخصوصة ؟ . فذهبت المعتزلة إلى أنه لا يعرف ، واختاره والقاضي أبو بكر الرازي في أكثر كتبه ، وفي بعضها أنه يعرف ، ونسب إلى الأشعري ، واختاره جماعة من أصحابه . ويعرف بالمشاهدة بلا خلاف عند أهل السنة من الأصحاب ، والثالث أقوى من الثاني ، والثاني من الأول ، وقال بعضهم : لا نسلم قوة معرفة المشاهدة على معرفة الذات مطلقا بل فيه تفصيل : وهو أن المشاهدة في حق عارف للذات أقوى منها في معرفتها بخلاف من لم يعرف الذات . قيل : وهذا لا محيص عنه ، فإن من وضع بين يديه ثلاثة أحجار من بلخش وبنفش وزجاج ، ولا يميز بينها لا تفيده المشاهدة في معرفة الذات شيئا .
وأبلغ من ذلك أنا نميز الإنسان عن غيره من الحيوانات بالمشاهدة ، وقد حارت الألباب في معرفة الله . ويترتب على هذا أن اكتفاء الأصحاب بالرؤية كالصفة لا يصح إلا في حق العالم بالموصوف ; لتزيل الرؤية الضرر عنه . أما في حق من لا تفيده الرؤية فلا يتجه الاكتفاء بها . ويؤيده ما نشاهده في العقلاء من معاندتهم على ما لا يعرفون ، لا يكتفون برؤيتهم بل يستصحبون الخبيرين بذلك . وقد حكى الرافعي في باب التصرية وجها : أن العيان لا يكفي في حق [ ص: 99 ] من لا يفيده العيان معرفة ، وأنه يخرج على الخلاف في بيع الغائب ولا أثر لعيانه ، قال : وهذا الوجه فيما لو اشترى زجاجة ظنها جوهرة ، واستشهد بمسألتين ذكرهما النووي في فتاويه .
إحداهما : لو فإنه يثبت له الخيار إذا كان يخفى على مثله . الثانية : لو رأى العيب وعلم أنه عيب ولكنه ظن غير العيب الذي في نفس الأمر ، ورضي بما ظنه لا بما هو عيب في نفس الأمر ثبت له الخيار إذا كان الذي في نفس الأمر أشد ضررا ، وفيما قاله هذا الفاضل نظر . فقد أطبق أئمة السنة على أن معرفة الله بالمشاهدة هو أتم النظر في حق كل أحد ينعم الله عليه سبحانه برؤيته . ولا يحتاج إلى معرفة الذات قبل ذلك ; لأنه تعالى يخلق فيه علما ضروريا بأن هذا المرئي هو الرب سبحانه ، ولا بد من ذلك ; لأن الإحاطة المقتضية للتكييف مستحيلة في حقه سبحانه ، فلا بد من هذا العلم الضروري لتصح الرؤية . رأى العيب ولم يعلم أنه عيب
وحينئذ فلا يحتاج إلى تقديم معرفة الذات ، وتمثيله بالجواهر الثلاثة ضعيف ، إذ مع العلم الضروري لا يبقى مثال ، بل قد قال الأئمة : معارف الآخرة كلها ضرورية في حق المؤمن والكافر . اللهم إلا أن نقول : العلم الضروري الذي يخلقه الله لهم كاف في معرفة الذات ، ثم تنضم إليه المشاهدة فيكون أتم ، وهذا محتمل . ثم ما رأيته من أنه لا يفيده الرؤية لا يتجه الاكتفاء بها في حقه ، وأن الضرر لا يزول عنه بذلك فيرجع إلى قاعدة المالكية في أن إذا كان بمقدار الثلث فصاعدا ، ومذهب الغبن يثبت الخيار الشافعي أنه لا يثبت ، [ ص: 100 ] وعن وأبي حنيفة أحمد وعنه يثبت إذا كان بمقدار السدس . كمالك
والدليل على أنه لا يثبت الخيار قضية حبان بن منقذ ، وأنه كان يخدع في البيع ، فقال له صلى الله عليه وسلم : { } وشرع له اشتراط الخيار ثلاثة أيام ، فلو كانت الخديعة تثبت الخيار لما احتاج إلى قوله : ( لا خلابة ) ، ولا إلى اشتراط الخيار ، بل كان خيار الغبن كافيا ، فدل على أنه لا يثبت الخيار . واستدلاله بالمسألتين الأخيرتين على أن الرؤية بالصفة لا تفيد إلا في حق العالم بالموصوف وفيه نظر ; لأن مقتضى العقد السلامة عن العيوب ، فلا يغتفر فيها ما يغتفر في غيرها . إذا بايعت ، فقل : لا خلابة