[ تحقيق مرادهم بالسبب ]
الرابع : ليس هنا السبب الموجب للحكم ، كزنى المراد بالسبب ماعز فرجم ; بل السبب في الجواب . قاله ابن السمعاني . وسبق منقول أبي الحسين بن القطان عن الفقهاء في ذلك . وقال صاحب المصادر : ليس المراد بالسبب هنا ما يولد الفعل ، بل المراد به الداعي إلى الخطاب بذلك القول ، والباعث عليه . فعلى هذا لا بد في خطاب الحكم من أن يكون مقصورا على سببه ، أي داعيته ، وكلام في " اختلاف الحديث " كما سبق في الشافعي بئر بضاعة يصرح بأنه ليس المراد بالسبب عين ما وقع الحكم بسببه ، بل هو أو مثله ، أو ما هو أولى بالحكم منه ، حيث قال : وكان العلم أنه على مثلها أو أكثر منها . ومن هنا قال بعضهم : لا متمسك للمستدلين بآية السرقة ، واللعان ، والظهار ، [ ص: 293 ] وغيرها ، على التعميم ، وعدم القصر على السبب ، فإن القطع ، وأحكام اللعان ، والظهار ، ثبتت فيمن كان مثل من نزلت فيه ، وذلك ليس من العموم ، وذلك أن تقول : إلحاق مثله ، أو ما هو أولى منه ، إن كان بالقياس ، فخروج عن موضوع المسألة ، وإن كان من اللفظ ، لزم اتحاد القول بالقصر على السبب . والقول بالعموم ، ثم من أي الدلالات هو ؟ فليتأمل ذلك .
الخامس : قال القاضي : يجب أن تترجم هذه المسألة باللفظ العام إذا ورد على سبب خاص . أو في سبب خاص ، ولا يقال عند سبب خاص . قال : والفرق بينهما أنك إذا قلت : عند سبب خاص ، فليس للسبب تعلق به أصلا ، وفرق بين قولك : ضربت العبد على قيامه ، وضربته عند قيامه . ففي الأول جعلت القيام سببا للضرب بخلاف الثاني . قال ابن القشيري : وهي مناقشة لفظية .
السادس : هذا العام وإن كان حجة في موضع السبب أو السؤال وغيره ، لكن دلالته على صورة السبب أقوى ، فلهذا قال الأكثرون : إنها قطعية الدخول ، فهو نص في سببه ، ظاهر فيما زاد عليه ، وإنما جعلوها قطعية في السبب لاستحالة تأخير البيان عن وقت الحاجة ، ولا يصح منه عليه السلام أن يسأل عن بيان ما يحتاج إلى بيانه فيضرب عن بيانه ويبين غيره مما لم يسأل عنه ، وعلى هذا فيجوز تخصيص هذا العام بدليل كغيره من العمومات المبتدأة ، لكن لا يجوز تخصيص صورة السبب بالاجتهاد ، لأن ، وكونه واردا لبيان حكمه . العام يدل عليه بطريق العموم
وحكي عن أنه جوز إخراج صورة السبب عن عموم اللفظ ، إجراء له مجرى العام المبتدأ ، فإنه يجوز تخصيص بعض آحاده مطلقا ، واستنبط ذلك من مصيره إلى أن الحامل لا تلاعن ، مع أن الآية نزلت [ ص: 294 ] في أبي حنيفة امرأة العجلاني ، وكانت حاملا ، ومن مصيره إلى أن ولد المشرقية يلحق بفراش المغربي مع عدم الاحتمال ، تلقيا من قوله : { } ، وقد ورد في الولد للفراش عبد بن زمعة إذ تداعى ولد وليدة أبيه ، وكانت رقيقة ، ولدته على فراش أبيه ، وعنده أن الأمة إذا أتت بولد لا يلحق السيد إلا إن أقر به . فقال بالخبر فيما لم يرد فيه ، وهو الحرة ، فألحقه بصاحب فراشها ، ولم يقل به فيما ورد فيه ، وهو الأمة فلم يلحق ولدها بصاحب فراشها ، فاستعمل عموم اللفظ في غير ما ورد فيه ، وأخرج ما ورد فيه عن حكمه . وأعجب من هذا أنه عمل بعموم الحديث مطلقا ، حيث ألحق الولد بالفراش في الحرة ، وإن تحقق نفيه كالمغربية مع المشرقي . قال : وكذا خلافهم في تكبيرات العيدين ، هي سنة فيهما عند الأستاذ أبو منصور ، وأسقطها الشافعي في عيد الفطر ، وفيه نزل قوله تعالى : { أبو حنيفة ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم } وقال الإمام الغزالي في الأولين : الظن أن ذلك لا يصح عن ، وكذلك أنكره المقترح ، وقال : لعله لم يبلغه الحديثان . أبي حنيفة قلت : ولو صح نسبة ذلك إلى من هذا للزم نسبته إلى أبي حنيفة أيضا فإن مالك قال بالقيافة في ولد الأمة لا الحرة ، مع أن حديث مالكا مجزز المدلجي إنما ورد في الحرة . [ ص: 295 ] ونقل عنه أن المحرم بالعمرة لا يباح له التحليل ، لأنه لا يخاف الفوت بخلاف الحج ، مع أن آية الإحصار إنما نزلت والنبي صلى الله عليه وسلم محرم بالعمرة ، وتحلل بسبب الإحصار .
وقال بعض المتأخرين : قولهم : إن دخول السبب قطعي ينبغي أن يكون محله فيما إذا دلت قرائن حالية أو مقالية على ذلك ، أو على أن اللفظ عام يشمله بطريق الوضع لا محالة ، وإلا فقد ينازع الخصم في دخوله وضعا بحسب اللفظ العام ، ويدعي أنه قصد المتكلم بالعام إخراج السبب وبيان أنه ليس داخلا في الحكم ، فإن للحنفية أن يقولوا في عبد بن زمعة : الولد للفراش ، وإن كان واردا في أمة ، فهو وارد لبيان حكم ذلك الولد ، وبيان حكمه إما بالثبوت أو الانتفاء فإذا ثبت أن الفراش هي الزوجة ، لأنها هي التي يتخذ لها الفراش غالبا ، وقال : الوالد للفراش ، كان فيه حصر أن الولد للحرة ، ومقتضى ذلك لا يكون للأمة ، فكان فيه بيان الحكمين جميعا نفي السبب عن المسبب ، وإثباته لغيره ، ولا يليق دعوى القطع هنا ، وذلك من جهة اللفظ .
وهذا في الحقيقة نزاع في أن اسم الفراش هل هو موضوع للحرة والأمة الموطوءة أو الحرة فقط ؟ الحنفية يدعون الثاني ، فلا عموم عندهم له في الأمة ، فتخرج المسألة عن هذا البحث . نعم ، قاله : { عبد بن زمعة ، وللعاهر الحجر } يقتضي أنه ألحقه به على حكم السبب ، فيلزم أن يكون من قوله الفراش . [ ص: 296 ] هو لك يا قلت : ومن المسائل التي يعاكس فيها أبو حنيفة أصلهما ذهاب والشافعي الشافعي إلى أن التحلل في الحج مخصوص بحصر العدو ومنعاه في المرض ، لأن قوله تعالى : { ومالك فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي } نزل في الحديبية ، وكان الحصر بعدو ، فاعتبر خصوص السبب ، وخالفهما في ذلك فاعتبر عموم اللفظ لأن الآية دالة على جواز خروجه من الحج بالأعذار ، فإن الإحصار عند المعتبرين من أهل اللغة موضوع لإحصار الأعذار ، والحصر موضوع لحصر العدو . أبو حنيفة
قال الشيخ عز الدين ولا يحسن أن يقال : إن محل السبب يقتضي حصر العدو ، لأن اللفظ إذا دل على حصر العدو ، كانت دلالته على حصر الأعذار من طريق أولى ، فنزلت لتدل على إحصار العدو بمنطوقها ، وعلى إحصار العذر بمفهومها ، فتناولت الأمرين جميعا . فإن قيل : قد قرر بها ما يدل على أنها نزلت في حصر العدو ، وهو قوله تعالى : { فإذا أمنتم } والأمن إنما يستعمل في زوال الخوف من الأعداء دون زوال المرض والأعذار ، وأجاب أن الآية لما دلت على التحلل بالحصر رجع الأمر إلى ما دلت عليه بطريق الأولى لا بطريق اللفظ ، وإن جعلنا حصر وأحصر لغتين دل أحصر على الأمرين ، ورجع لفظ الأمن إلى أحدهما دون الآخر .
قال : والذي ذكره مالك لا نظير له في الشريعة السمحة ، [ ص: 297 ] فإن من انكسرت رجله وتعذر عليه العود إلى الحج أو العمرة ، يبقى في بقية عمره حاسر الرأس ، مجردا عن اللباس ، محرما عليه كل ما يحرم على المحرم ، بعيد شرعا . واعلم أن مذهب والشافعي أن الكلام لمصلحة الصلاة لا يبطلها ، ورد عليه مالك إمام الحرمين بحديث : { } . قال : ولو جاز الكلام في مصلحتها لما أمر المأمور في ذلك إذا ناب الإمام شيء ، ويلزم التسبيح للرجال ، والتصفيق للنساء مالكا ، فإن الحديث ورد على شيء ناب إخراج محل السبب من العموم أبا بكر في صلاته ، لما صلى بهم وصفقوا ، فلما فرغ من الصلاة قال صلى الله عليه وسلم : { } ، فلا يجوز إخراج السبب ، ويعتبر اللفظ ، حتى لو استأذن عليه شخص وهو في الصلاة ، أو رأى أعمى يقع في بئر فإنه يفهمه بالتسبيح . إنما التسبيح للرجال
السابع : أورد على قولهم إن السبب داخل قطعا أنه قبل نزول الآية ، والحكم إنما يثبت من حين نزولها فكيف ينعطف على ما مضى ؟ وقد أجمعت الأمة على أن أوس بن الصامت شمله الظهار وأمثاله من الأسباب ، وهذا الإشكال وارد على سبب . ويخص آية الظهار واللعان إشكال آخر وهو أن " الذين " في قوله تعالى : { والذين يظاهرون من نسائهم } مبتدأ وخبره " فتحرير " أي فكفارتهم تحرير ، وحذف لدلالة الكلام عليه . وجاز دخول الفاء في الخبر لتضمن المبتدأ معنى الشرط ، وتضمن الخبر معنى الجزاء . فإذا أريد التنصيص على أن الخبر مستحق بالصلة دخلت الفاء حتما للدلالة على ذلك ، وإذا لم تدخل احتمل أن يكون مستحقا به أو بغيره . كما لو قيل : الذين يظاهرون عليهم تحرير رقبة ، وإن كنا نقول : إن ، ولكن ليس بنص ودخول الفاء نص . [ ص: 298 ] إذا عرفت هذا فالآية لا تشمل إلا من وجد منه الظهار بعد نزولها ، لأن نفي الشرط مستقبل فلا يدخل فيه الماضي ، وقد أوجب النبي عليه السلام الكفارة على ترتب الحكم على الوصف مشعر بالعلية أوس بن الصامت ، وذلك لا شك فيه من جهة أنه السبب .
وأجيب عنه بأن إثبات أحكام هذه الآيات لمن وجد منه السبب قبل نزولها لأن هذه الأفعال كانت معلومة التحريم ، كالسرقة والزنى ، ووجوب الحد فيهما لا يتوقف على العلم ، والفاعل لها قبل نزول الآية إذا كان هو السبب في نزولها من حكم المقارن لها ، لأنها نزلت مبينة لحكمه فلذلك ثبت حكمها فيه دون غيره ممن تقدم الماضي والمستقبل ، وسبب النزول حاضر أو في الحكم الحاضر ، وأما دلالة الفاء على الاختصاص بالمستقبل فقد يمنع .
الثامن : أن العموم الخارج مخرج التشريع أولى من الخارج على سبب ، كقوله عليه السلام : { } مع قوله : { إنما الربا في النسيئة } ، فهذا خرج مخرج التشريع ، والأول أمكن خروجه على سؤال سائل ترك الراوي ذكر سببه قاله لا تبيعوا الذهب بالذهب أبو الحسين بن القطان .
وقال الغزالي : يصير احتمال التخصيص للخارج على سبب أقرب مما [ ص: 299 ] لم يخرج على سبب ، ويقنع فيه بدليل أخف وأضعف . وقد يصرف بقرينة اختصاص بالواقعة ، ويأتي فيها ما ذكر في باب التراجيح .
التاسع : لك أن تسأل عن الفرق بين هذه المسألة ، وبين قولهم : إن وجهان مذكوران في استحباب الذهاب إلى العيد من طريق ، الرجوع من أخرى . وترجيحهم الميل إلى تعميم الحكم كما في الرمل ، والاضطباع في الطواف . وجعل الحكم إذا شرع لحكمة أو سبب ، ثم زال ذلك السبب ، هل يبقى الحكم تمسكا بعموم اللفظ أو لا يبقى نظرا للعلة ؟ الرافعي منه أن العرايا لا تختص بالمحاويج على الصحيح ، وإن كان سبب على الرخصة ورد في المحاويج تمسكا بعموم الأحاديث .
العاشر : إذا اعتبرنا السبب فلا ينبغي جعله من العام المخصوص ، بل من العام الذي أريد به الخصوص ، وسيأتي الفرق بينهما . فائدة
نزول الآية لمحل لا يقتضي تعلقها به ، وقد يخرج فيها قولان ، فإنه ذهب في القديم إلى أن المتمتع له صيام أيام التشريق عن تمتعه ، لقوله تعالى : { للشافعي فمن تمتع بالعمرة } إلى قوله تعالى : { فصيام ثلاثة أيام في الحج }
قال الماوردي : ولا خلاف بين أهل العلم أن هذه الآية نزلت في يوم التروية ، وهو الثامن من ذي الحجة ، فعلم أنه أراد بها أيام التشريق .