[ ص: 487 ] المبحث الخامس
المبطل الخامس: جحد الوصية
إذا قال الموصي: لم أوص، أو لم تصدر مني وصية، أو يقول أمام شهود: اشهدوا أني لم أوص لفلان بقليل ولا كثير، أي: أن الموصي ينفي الوصية في الماضي.
فقد اختلف الفقهاء -رحمهم الله- في كون جحود الوصية رجوعا على قولين:
القول الأول: أن جحد الوصية يعتبر رجوعا.
قال به صاحب أبو يوسف أبي حنيفة، والشافعية فيما إذا لم يكن الجحود لغرض ، وقال به الحنابلة في قول.
قال الكاساني: « ولو أوصى ثم جحد الوصية ذكر في الأصل أنه يكون رجوعا، ولم يذكر خلافا.
قال المعلى عن في نوادره: قال أبي يوسف -رحمه الله تعالى-: في رجل أوصى بوصية، ثم عرضت عليه من الغد فقال: لا أعرف هذه الوصية، قال: هذا رجوع منه. أبو يوسف
وكذلك لو قال: لم أوص بهذه الوصية » .
[ ص: 488 ] وقال الخطيب الشربيني: « ولو سئل عن الوصية فأنكرها. قال الرافعي: فهو على ما مر في جحد الوكالة - أي: فيفرق فيه بين أن يكون لغرض فلا يكون رجوعا، أو لا لغرض فيكون رجوعا - وهذا هو المعتمد » .
وقال « وإن جحد الوصية لم يكن رجوعا في أحد الوجهين، وهو قول ابن قدامة: في إحدى الروايتين، ولأنه عقد، فلا يبطل بالجحود، كسائر العقود. أبي حنيفة
والثاني، يكون رجوعا ; لأنه يدل على أنه لا يريد إيصاله إلى الموصى له » .
القول الثاني: أن جحد الوصية ليس برجوع.
قال به صاحب محمد بن الحسن ، وهو المختار المفتى به عند أبي حنيفة الحنفية ، وهو المذهب عند الحنابلة .
قال الكاساني: « وسألت محمدا عن ذلك فقال: لا يكون الجحد رجوعا، وذكر في الجامع إذا أوصى بثلث ماله لرجل، ثم قال بعد ذلك: اشهدوا أني لم أوص لفلان بقليل، ولا كثير، لم يكن هذا رجوعا منه عن وصية فلان، ولم يذكر خلافا » .
وقال المرداوي: « وأطلق فيما إذا جحد الوصية الوجهين وأطلقهما في المغني، والشرح، والرعايتين، والحاوي الصغير، والفروع، وشرح الحارثي:
[ ص: 489 ] أحدهما: ليس برجوع، وهو المذهب صححه في التصحيح، وجزم به في الهداية، والمذهب، والمستوعب، والخلاصة، والوجيز، وغيرهم، وقدمه في الكافي.
الأدلة:
أدلة القول الأول: 1 - الأدلة الدالة على اشتراط الرضا.
وهذا لم تطب نفسه، فلا تصح وصيته.
2 - أن الإنكار دليل على عدم رغبته في الوصية، وعدم طيب نفسه بانتقال الموصى به للموصى له.
3 - أن الجحود من الموصي يدل على أنه لا يريد إيصاله إلى الموصى له، فكان رجوعا عن الوصية.
4 - أن معنى الرجوع عن الوصية هو فسخها وإبطالها، وفسخ العقد كلام يدل على عدم الرضا بالعقد السابق وبثبوت حكمه، والجحود في معنى عدم الرضا; لأن الجاحد لتصرف من التصرفات غير راض به، وبثبوت حكمه فيتحقق فيه معنى الفسخ فيحصل معنى الرجوع; لأن الفسخ رجوع.
5 - أن الرجوع نفي في الحال فقط، والجحود نفي في الماضي والحال فنفي الماضي والحال أولى أن يكون رجوعا; فإن دلالته على رفض الوصية أقوى من الرجوع الصريح; لأن الرجوع الصريح نفي لوجود الوصية في الحال فقط.
[ ص: 490 ] أدلة القول الثاني:
1 - أن الرجوع إثبات في الماضي ونفي في الحال، والجحود نفي في الماضي والحال، وبعبارة أخرى أن الرجوع مركب من النفي والإثبات، والجحود مجرد النفي، فلا يكون الجحود رجوعا حقيقة، ولا العكس أيضا.
2 - أن الوصية عقد، فلا يبطل بالجحود، كسائر العقود، فإنها لا تبطل بالجحود والإنكار، كالبيع، والهبة، والإجارة، فكذلك الوصية.
3 - أن حقيقة الجحود يغاير حقيقة الرجوع، فلا ينوب أحدهما عن الآخر; إذ الرجوع معناه اعتراف بحصول الوصية في الماضي وإبطالها في الحاضر والمستقبل، والجحود إنكار لوجودها في الماضي والحاضر والمستقبل، فلو جعل الجحود رجوعا لدل على وجود الوصية وعدمها في الماضي، وهو تناقض.
ونوقش: بأن من جعل الجحود رجوعا لم يجعل حقيقة الجحود والرجوع واحدة حتى يقال لهم: إن حقيقتها متغايرة، وإنما يريدون بذلك أن هذا اللفظ يستعمل مجازا في الرجوع لما بينهما من العلاقة، وهي دلالة كل منهما على النفي والإنكار، وإن كان هذا في الماضي والحال وذاك في الحال فقط.
واللفظ المجازي مستعمل في غير ما وضع له، ولا يراد منه عند هذا الاستعمال معناه الحقيقي حتى يقال: إنه لو دل على الرجوع لكان تناقضا; لدلالته على حصول الوصية في الماضي، وعدم حصولها فيه.
[ ص: 491 ] الترجيح:
الراجح - والله أعلم - هو القول الأول، وهو كون الجحود عن الوصية رجوعا; وذلك لظهور معنى إرادة إبطال الوصية فيه; لأن جحود الموصي للوصية المقصود منه الإعلان عن رغبته في عدم بقائها، والجحود يدل على هذه الرغبة دلالة قوية لا تقل عن دلالة الرجوع الصريح فتبطل الوصية به، كما يبطل بالرجوع الصريح، فيكون الجحود من باب الرجوع دلالة.