الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        معلومات الكتاب

        الجامع لأحكام الوقف والهبات والوصايا

        خالد المشيقح - أ.د/ خالد بن علي بن محمد المشيقح

        صفحة جزء
        الأمر التاسع، هبة المفلس:

        وفيه فرعان:

        الفرع الأول: تعريف المفلس، لغة واصطلاحا:

        تعريف المفلس في اللغة: المفلس مأخوذ من الفلس، وهو شيء تافه من المال، قليل القيمة، وجمعه: فلوس.

        قال ابن فارس: "الفلس معروف، والجمع فلوس، يقولون: أفلس الرجل، قالوا: معناه صار ذا فلوس بعد أن كان ذا دراهم".

        وقال الجوهري: "وقد أفلس الرجل: صار مفلسا، كأنما صارت دراهمه فلوسا وزيوفا... ويجوز أن يراد به أنه صار إلى حال يقال فيها: ليس معه فلس... وقد فلسه القاضي تفليسا: نادى عليه أنه مفلس".

        فالمفلس في اللغة هو: من لا مال له إلا الفلوس التي هي أدنى أنواع المال قيمة، فهو معدوم لا مال له ولا ما يدفع به حاجته، يدل على هذا المعنى:

        (78 ) ما رواه مسلم عن من طريق العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه [ ص: 194 ] أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع".

        تعريف المفلس اصطلاحا: المفلس في اصطلاح الفقهاء: هو من عليه ديون حالة أكثر من ماله.

        الفرع الثاني: حكم هبة المفلس:

        اختلف الفقهاء في صحة هبة المفلس على قولين:

        القول الأول: عدم صحة هبة المفلس.

        وهذا قول الصاحبين من الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة.

        القول الثاني: صحة هبة المفلس.

        وهو قول أبي حنيفة، وزفر.

        الأدلة:

        أدلة الرأي الأول: (79 ) 1. ما رواه الدارقطني من طريق هشام بن يوسف، عن معمر، عن [ ص: 195 ] ابن شهاب، عن ابن كعب بن مالك، عن أبيه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "حجر على معاذ ماله، وباعه في دين كان عليه" (مرسل ) .

        [ ص: 196 ] ونوقش هذا الدليل من وجهين:

        الأول: أنه مرسل.

        الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم باع مال معاذ بسؤاله هو; لأنه لم يكن في ماله وفاء بدينه، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يتولى بيع ماله لينال ماله بركة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيصير فيه وفاء بديونه، وقالوا: ولا يظن بمعاذ رضي الله عنه أنه كان يأبى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إياه ببيع ماله حتى يبيعه عليه بغير رضاه، فإنه كان سمحا جوادا لا يمنع أحدا شيئا، ولأجله ركبته الديون، فكيف يمتنع من قضاء دينه بماله بعد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.

        [ ص: 197 ] وأجيب عن هذه المناقشة: بأنه قد جاء في بعض الروايات التصريح بالتماس غرماء معاذ الحجر عليه، وبيع ماله من قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يقال بعد ذلك أن بيع ماله كان بسؤاله هو.

        ثم إذا كان بيع المال بطلبه هو فما معنى النص على الحجر عليه في الحديث، وهل يكون الحجر عليه أيضا بطلبه هو؟ هذا لا يمكن.

        (80 ) 2 - ما رواه مسلم من طريق عياض بن عبد الله، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: أصيب رجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمار ابتاعها فكثر دينه، فقال رسول الله: "تصدقوا عليه" فتصدق الناس عليه، ولم يبلغ ذلك وفاء دينه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لغرمائه: "خذوا ما وجدتم، وليس لكم إلا ذلك".

        وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزد على خلع ماله لهم، ولم يحبسه، وهذا التصرف من النبي صلى الله عليه وسلم في مال الرجل لا يتحقق إلا بالحجر عليه، بل إن بيع المال على المدين نوع من الحجر، وعليه فلا تصح هبته.

        3 - ما رواه الإمام مالك عن عمر بن عبد الرحمن بن دلاف المزني، عن أبيه: "أن رجلا من جهينة كان يسبق الحاج، فيشتري الرواحل فيغلي بها، ثم يسرع السير فيسبق الحاج، فأفلس، فرفع أمره إلى عمر بن الخطاب، فقال: أما بعد: أيها الناس، فإن الأسيفع أسيفع جهينة رضي من دينه وأمانته بأن [ ص: 198 ] يقال سبق الحاج، ألا وإنه قد دان معرضا فأصبح قد دين به، فمن كان له عليه دين فليأتنا بالغداة نقسم ماله بينهم، وإياكم والدين، فإن أوله هم، وآخره حرب" (ضعيف ) .

        وجه الدلالة: أن عمر رضي الله عنه قسم مال الرجل بين غرمائه، وهذا لا يكون إلا بعد الحجر عليه.

        ونوقش: بأن الأثر يحمل على أن مال الأسيفع من جنس الدين، وإن ثبت البيع فإنما هو برضاه، ولم ينقل أن الغرماء طالبوا، وإنما ابتدأهم عمر، فدل على أنه برضاه.

        وأجيب: أما الدعوى بأن ماله من جنس الدين، فإنها دعوى عارية عن الدليل، فهي تأويل بلا مستند.

        وأما دعوى أن البيع إن ثبت إنما كان برضاه، فإن سياق الأثر يدل على أن البيع تم بغير رضاه لما رافقها من تأنيب وتشهير، ولا قرينة تدل على أن البيع وقع برضاه.

        وقولهم: إنه لم ينقل أن الغرماء طالبوه بذلك يقال جوابا عليه:

        أنه جاء في الأثر ما يدل على أن صنيع عمر رضي الله عنه إنما كان بناء على طلب من الغرماء، حيث جاء في الأثر: (فرفع أمره إلى عمر ) ولا بد أن يكون الرافع هم الغرماء; لأنهم هم الذين يعنيهم الأمر.

        4 - القياس على المريض مرض الموت، حيث ورد النص بالحجر عليه عن التصرف في ثلثي ماله لحق ورثته.

        [ ص: 199 ] قالوا: فكذلك يحجر على المدين المفلس لحق غرمائه، بل إنه أولى بالحجر عليه.

        قال ابن القيم: "كالمريض مرض الموت لما تعلق حق الورثة بماله منعه الشارع من التبرع بما زاد عن الثلث، فإن في تمكينه من التبرع بماله إبطال حق الورثة منه، وفي تمكين المدين من التبرع إبطال حقوق الغرماء، والشريعة لا تأتي بمثل هذا، فإنها إنما جاءت بحفظ حقوق أرباب الحقوق بكل طريق، وسد الطرق المفضية إلى إضاعتها.

        (81 ) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: فيما رواه البخاري من طريق أبي الغيث، عن أبي هريرة رضي الله عنه: "من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله"، ولا ريب أن هذا التبرع إتلاف لها، فكيف ينفذ تبرع من دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على فاعله؟".

        5 - أن الحجر كما جاز على السفيه نظرا له، فكذلك يجوز على المدين نظرا للغرماء; لأن المدين قد يلحق الضرر بغرمائه بالإقرار والتلجئة، بأن يبيع ماله من إنسان عظيم القدر لا يمكن الانتزاع من يده أو يقر له، وذلك صوريا حتى يسلم له ماله.

        [ ص: 200 ] ونوقش: خوف التلجئة موهوم; لأنه احتمال مرجوح فلا تهدر به أهلية الإنسان، ويرتكب البيع بلا تراض.

        ويمكن الجواب عن هذه المناقشة: بأن احتمال التلجئة واحد من احتمالات كثيرة لتصرف المدين في ماله بما يضر بالغرماء، فذكرها هنا إنما هو تمثيل للتصرفات المضرة بالغرماء إن أطلق له التصرف في ماله مع تعلق حق الغرماء به.

        أدلة الرأي الثاني: (صحة الهبة ) :

        1 - قول الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم .

        وجه الدلالة: أن بيع الحاكم مال المدين بغير رضاه تجارة عن غير تراض، فتكون باطلة، وإذا كان بيع المال على المدين نوع حجر كان الحجر باطلا أيضا، فتجوز هبته لعدم صحة الحجر عليه.

        ويمكن مناقشة الاستدلال بالآية: بأنها مخصوصة بالأدلة التي ساقها الجمهور لإثبات مشروعية الحجر على المدين المفلس.

        وإن كان أبو حنيفة لا يرى التخصيص بالحديث، بل يعتبره ناسخا، والناسخ ينبغي أن يكون في قوة المنسوخ.

        (82 ) 2 - ما رواه البخاري من طريق الزهري قال: حدثني ابن كعب بن مالك أن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أخبره أن أباه قتل يوم أحد شهيدا وعليه دين، فاشتد الغرماء في حقوقهم، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم "فسألهم أن يقبلوا ثمر حائطي [ ص: 201 ] ويحللوا أبي، فأبوا، فلم يعطهم النبي صلى الله عليه وسلم حائطي وقال: سنغدو عليك، فغدا علينا حين أصبح، فطاف في النخل، ودعا في ثمرها بالبركة، فجددتها فقضيتهم، وبقي لنا من ثمرها".

        وجه الدلالة: أنه ليس في الحديث ذكر للحجر ولا لبيع مال جابر، فدل على أنه ليس طريقا معينا للقضاء، وإلا لما عدل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

        ونوقش: أن الحديث ليس فيه دليل على عدم جواز الحجر، أو عدم جواز بيع المال جبرا على المدين; وذلك لأن الدين - في الحديث - إنما تعلق بشخص - وهو أبو جابر - والحجر لا يكون إلا على حي.

        (83 ) 3 - ما رواه النسائي من طريق محمد بن ميمون بن مسيكة - وأثنى عليه خيرا - عن عمرو بن الشريد، عن أبيه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال: "لي الواجد يحل عرضه وعقوبته".

        [ ص: 202 ] (84 ) 4 - وقال البخاري: "لي الواجد يحل عرضه وعقوبته"، قال سفيان: عرضه، يقول: مطلني، وعقوبته: الحبس.

        وجه الدلالة: دل الحديث على أن المدين إذا امتنع من أداء الدين مع الإمكان، فإنها تحل عقوبته، وعقوبته المتعينة والواجبة هي الحبس; لاتفاقهم على أنه لم يرد غيره.

        [ ص: 203 ] ونوقش الاستدلال بالحديث من وجهين:

        الوجه الأول: أن الجمهور يقولون به، ويرون أن الحبس وسيلة من وسائل التضييق على المدين ليقضي دينه، إلا أنهم يرون أن هذه الوسيلة غير متعينة بدلالة الحديث، حيث أرشد إليها بتقرير الحل (يحل عرضه، وعقوبته ) لا الإيجاب، ثم إن المصلحة قد تقتضي الحجر عليه، وبيع ماله إنصافا لغرمائه عملا بالأدلة المثبتة لهاتين الوسيلتين، فيتم العمل بالأدلة كلها.

        الوجه الثاني: أن الحديث وارد في المدين الغني المماطل، والجمهور لا يقولون بالحجر عليه، وكلامهم في المسألة وأدلتهم في الحجر على المدين المفلس، فيكون الحديث غير معارض لها.

        5 - أن في الحجر إهدارا لأهليته، إلحاقا له بالبهائم، وذلك ضرر عظيم، فلا يجوز لدفع ضرر خاص.

        وإنما يجوز النظر لغرمائه بطريق لا يكون فيه إلحاق الضرر به إلا بقدر ما ورد الشرع به، وهو الحبس، والحبس بالدين مشروع بالإجماع.

        ونوقش: أنه لا يسلم أنه يؤدي إلى المساس بآدميته وإنسانيته، ولا أن فيه هدرا لأهليته إلا بالقدر الذي يحقق المصلحة في نطاق الحق، وفي نطاق الأدلة التي جاءت بإثبات الحجر عليه.

        يدل على ذلك أن أهليته معتبرة في جميع التصرفات، إلا التصرفات المالية المضرة بالغرماء، وأيضا السجن نفسه الذي يقول به أبو حنيفة - يمس حرية السجين، وإنسانيته.

        [ ص: 204 ] 6 - أن بيع المال على المدين فيه نوع حجر، والبيع غير مستحق عليه ولا متعين لقضاء دينه; لأنه يتمكن من قضائه بالاستيهاب والاستقراض وسؤال الناس الصدقة.

        ونوقش من ثلاثة أوجه:

        أولها: أن هذا مقابل النص، والنصوص لا تعارض بالنظر.

        ثانيها: أن القدرة على قضاء الدين ببيع المال الموجود، أظهر وأقرب من القدرة عليه بالاستقراض وغيره، فيكون المصير إليه أسرع في إبراء الذمة، وأداء حق أهل الحق.

        ثالثها: أن حق الغرماء قد تعلق بمال المدين الموجود حال الإفلاس، فتعين أن يقضى منه، بدليل أنه لا يجب عليه أكثر مما عنده، يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: "خذوا ما وجدتم، فليس لكم إلا ذلك".

        الترجيح:

        والذي يترجح لي - والله أعلم - أن المدين المفلس يحجر عليه، ويمنع من التصرف في ماله بما يضر بحق الغرماء كالهبة; وذلك لقوة أدلتهم، وصراحتها، وبعدها عن التأويلات المحتملة العارية عن مستند.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية