المسألة الثالثة: الشرط الثالث: أن تكون الهبة معلومة
(هبة المجهول)
إذا وهب شخص لآخر شيئا مجهولا، كما لو وهبه ما في جيبه، أو ما في بيته، ونحو ذلك، فاختلف العلماء في حكم هذه الهبة على قولين:
القول الأول: صحة هبة المجهول.
وهو مذهب المالكية، واختاره شيخ الإسلام.
لكن عند المالكية إن ظنه قليلا فبان كثيرا لم يلزمه إن حلف على ظنه.
قال "وأما صفة العوض - أي: في الخلع - فإن ابن رشد: الشافعي يشترطان فيه أن يكون معلوم الصفة ومعلوم الوجوب، وأبا حنيفة يجيز فيه المجهول الوجود والقدر والمعدوم، مثل الآبق والشارد والثمرة التي لم يبد صلاحها، والعبد غير الموصوف، وحكي عن ومالك جواز الغرر ومنع المعدوم، وسبب الخلاف: تردد العوض ههنا بين العوض في البيوع، أو الأشياء الموهوبة والموصى بها، فمن شبهها بالبيوع اشترط ما يشترط في البيوع وفي أعواض البيوع، ومن شبهه بالهبات لم يشترط ذلك". أبي حنيفة
وقال القرافي: "وقد فصل بين قاعدة ما يجتنب فيه الغرر والجهالة [ ص: 268 ] وقاعدة ما لا يجتنب فيه الغرر والجهالة، وانقسمت التصرفات عنده ثلاثة أقسام: طرفان وواسطة، فالطرفان: أحدهما: معاوضة صرفة، فيجتنب فيها ذلك إلا ما دعت الضرورة إليه عادة، وثانيهما: ما هو إحسان صرف لا يقصد به تنمية المال كالصدقة والهبة، فإن هذه التصرفات إن فاتت على من أحسن إليه بها لا ضرر عليه; لأنه لم يبذل شيئا بخلاف القسم الأول إذا فات بالغرر والجهالة ضاع المال المبذول في مقابلته، فاقتضت حكمة الشرع منع الجهالة فيه، أما الإحسان الصرف فلا ضرر فيه، فاقتضت حكمة الشرع وحثه على الإحسان التوسعة فيه بكل طريق بالمعلوم والمجهول، فإن ذلك أيسر لكثرة وقوعه قطعا، وفي المنع من ذلك وسيلة إلى تقليله، فإذا وهب له بعيره الشارد جاز أن يجده، فيحصل له ما ينتفع به ولا ضرر عليه إن لم يجده; لأنه لم يبذل شيئا". مالك
القول الثاني: عدم صحة هبة المجهول.
وهذا مذهب الحنفية، والشافعية، والحنابلة، والظاهرية.
لكن عند الحنابلة ما تعذر علمه تصح هبته، كمال اختلط بغيره وجهل قدره.
القول الثالث: أن الجهل إذا كان من الواهب منع الصحة، وإذا كان من الموهوب لم يمنعها.
وهو احتمال عند الحنابلة.
[ ص: 269 ] دليل القول الأول: (صحة هبة المجهول ) :
(119 ) 1 - قال البخاري: هوازن حين سألوه المغانم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "نصيبي لكم". لقول النبي صلى الله عليه وسلم لوفد
(120 ) وروى من طريق البخاري أن عروة المسور بن مخرمة ومروان أخبراه هوازن قام في الناس، فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: "أما بعد: فإن إخوانكم جاؤوا تائبين، وإني رأيت أن أرد عليهم سبيهم، فمن أحب منكم أن يطيب ذلك فليفعل، ومن أحب أن يكون على حظه حتى نعطيه إياه من أول ما يفيء الله علينا، فقال الناس: طيبنا لك". أن النبي صلى الله عليه وسلم حين جاءه وفد
وجه الاستدلال: أن نصيب الرسول صلى الله عليه وسلم خفي لا يعلم النبي صلى الله عليه وسلم قدره حين وهبه.
2 - أن هذا النوع من الهبة تبرع، فصح في المجهول كالنذر والوصية.
3 - أن التبرعات ليست كالمعاوضات فلا تضر الجهالة; لأن الموهوب له متبرع له تبرعا محضا; فالغنم له حاصل على كل وجه سواء علم مقدار الهبة أم لم يعلمها.
دليل القول الثاني: (عدم صحة هبة المجهول ) :
1 - قياس الهبة على البيع فما صح بيعه صحت هبته، وما لا يصح بيعه لا تصح هبته.
[ ص: 270 ] ونوقش: بأنه قياس مع الفارق; إذ الهبة تبرع، والبيع معاوضة، ويطلب في عقود المعاوضات ما لا يطلب في عقود التبرعات من التحرير والضبط والعلم إذ يقصد بها الربح والتجارة، بخلاف عقود التبرعات فيقصد بها الإرفاق والإحسان.
2 - أن الله تعالى حرم على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم أموال الناس إلا بطيب أنفسهم، ولا تطيب ببذل الشيء، إلا إذا علم صفاته وقدره وما يساوي.
ونوقش: بعدم التسليم بأن النفس لا تطيب بما لا يعلم قدره وصفاته; بل هبة المجهول مع طيب النفس واقع.
حجة القول الثالث: أن الجهل في حق الواهب غرر له فمنع الصحة، أما الموهوب له فلا غرر في حقه فلم يعتبر في حقه العلم بما يوهب له كالموصى له.
ونوقش بعدم التسليم: بوجود الغرر في حق الواهب; إذ الهبة من عقود التبرعات كما سبق.
الترجيح:
يظهر - والله أعلم - أن القول بصحة هبة المجهول أرجح من القول بعدم الصحة; إذ الهبة من عقود التبرعات التي لا يشترط لها ما يشترط لغيرها من العقود.
ويؤيد ذلك: أن بعض من لا يصحح هبة المجهول قال بصحة البراءة من المجهول، كمن قال: أسقطت عنك ديني، أو أبرأتك منه، وهو لا يعلم قدره; فإنه يصح، قالوا: لأنه إسقاط، والإسقاط لا يشترط فيه العلم.
[ ص: 271 ]