الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        معلومات الكتاب

        الجامع لأحكام الوقف والهبات والوصايا

        خالد المشيقح - أ.د/ خالد بن علي بن محمد المشيقح

        صفحة جزء
        المطلب الثاني تعريف الوصية اصطلاحا

        اختلف العلماء في تعريف الوصية اصطلاحا بناء على خلافهم في اعتبار شروطها وتعدادها، وغير ذلك من مسائل لها أثر في أحكامها.

        فمن تعاريف الحنفية : تعريف الكاساني : بأنها اسم لما أوجبه الموصي في ماله بعد موته.

        واعترض عليه: بأنه غير جامع; لأنه لا يتناول الوصية بالقرب الواجبة كالحج، والكفارة، والزكاة; لأنه لم يوجبها بنفسه، بل واجبة بإيجاب الشرع.

        ورد: بأن قوله: "ما أوجبه" عام يشمل القرب الواجبة.

        ومن تعاريفهم: تعريف صاحب الدر المختار، وصاحب الكنز: "تمليك [ ص: 50 ] مضاف لما بعد الموت بطريق التبرع، سواء كان ذلك في المنافع أو الأعيان".

        قوله: "تمليك" جنس يشمل كل أنواع التمليك: تمليك الأعيان والمنافع، والتمليك بعوض وبدونه، والتمليك الناجز، والمضاف لأجل، أو لما بعد الموت.

        قوله: "مضاف إلى ما بعد الموت..." أي: أن أثره متوقف على الموت، فلا ينقل ملك الموصى به إلى الموصى له إلا بعد موت الموصي.

        وخرج بقوله: "مضاف لما بعد الموت" العقود المفيدة للتمليك الناجز في الحياة، مثل الهبة والبيع، وما شابه ذلك.

        والعقود المفيدة للتمليك المضاف لغير الموت، كالإجارة المؤجلة، مثل أن يكري أرضه في سنة تسعين لمن يزرعها سنة واحد وتسعين.

        قوله: "بطريق التبرع" احترز به عن الإقرار بالدين الأجنبي، فإنه تمليك للدين بعد الموت، إلا أنه ليس بطريق التبرع.

        وقوله: "بطريق التبرع" خرج به التمليك بعوض، كالبيع، والإجارة، ونحو ذلك.

        قوله: "في المنافع والأعيان" قيد لبيان الواقع، فهو تنبيه على متعلق الوصية، ويندرج في العين: العين الموجودة منها بالفعل كالشجرة، والعين الموجودة بالقوة كالثمرة المتجددة، ويندرج في المنفعة: المنفعة المؤبدة، والمؤقتة، والمطلقة.

        واعترض على هذا التعريف: أنه غير جامع، ولا مانع.

        غير جامع; لأنه لا يشمل الوصايا التالية:

        [ ص: 51 ] 1 - الوصية لمن لا يتأتى منه الملك كالمساجد ونحو ذلك; لأن قوله: "تمليك" يقتضي مملكا له، وهذه الجمادات لا تملك; لانتفاء شرط الملك فيها.

        2 - الوصية بالإسقاطات المحضة التي لا تمليك فيها، مثل الوصية بإبراء الكافل من الكفالة.

        3 - الوصية بالواجبات من زكاة وكفارة، ونحوها; لأنها لا تبرع فيها، فتخرج بقوله: "بطريق التبرع".

        الوصية بالحقوق المتعلقة بالمال، وليست مالا ولا منفعة، ولا إسقاطا، كتأجيل الدين الحال، والوصية ببيع عقاره مثلا من فلان.

        وغير مانع; لشموله:

        1 - التدبير; لأن السيد يملك فيه عبده لنفسه بعد موته، فيصدق عليه أنه تمليك مضاف لما بعد الموت بطريق التبرع، فيدخل في تعريف الوصية وليس منها.

        2 - أنه جعل الوصية تمليكا، والتمليك يستلزم لزوم ما ملك للغير ساعة وقوعه، والوصية ليس كذلك ; لأنها لا لزوم فيها إلا بالموت.

        3 - اشتمال التعريف على حشو لا حاجة إليه، وهو قوله: "بطريق التبرع" ; لأن المقصود من زيادتها هو إخراج الإقرار بالدين كما قيل، في حين أن الإقرار بالدين خارج بقوله: تمليك; لأن المقر لا يملك بالمقر له شيئا، فالدين المقر به ثابت للدائن، مملوك له قبل إقرار المدين به.

        ومن تعاريف المالكية : بأنها ثلث مال عاقده يلزم بموته، أو نيابة عنه بعده.

        [ ص: 52 ] ومن تعاريفهم: بأنها تبرع بالمال بعد الموت.

        ومنها: ما عرف به ابن عرفة : "الوصية عقد يوجب حقا في ثلث عاقده يلزم بموته، أو نيابة عنه بعد موته".

        قوله: "عقد" صريح في أن الوصية عقد وليست وعدا.

        قوله: "يوجب حقا في ثلث عاقده" يخرج به:

        العقود التي توجب حقا في رأس المال، مثل البيع والهبة، وغير ذلك.

        2 - العقود التي لا توجب شيئا في مال عاقدها، مثل تبرع الزوجة بأكثر من ثلثها، فإنه عقد لا يوجب شيئا في ثلثها عند المالكية ; لأن الزوج له رد الجميع.

        وخرج بقوله: "يلزم بموته" هبة الزوجة وتبرعها بثلث مالها فأقل، وهبة الإنسان ثلث ماله لغيره في حياته، فلا يسمى ذلك وصية; لأنها تلزم بمجرد العقد، ولا تتوقف على موت العاقد، بخلاف الوصية فإنها تلزم بالموت.

        وقوله: "أو نيابة عنه" هذا معطوف على قوله: "حقا" وجاء بحرف "أو" العاطفة المفيدة للتنويع، ليفيد أن الوصية عند الفقهاء نوعان: وصية المال: وهي التي توجب حقا في ثلث العاقد بموته، ووصيته بالنظر: وهي التي توجب نيابة عن عاقدها بعد موته.

        واحترز بقوله: "نيابة بعد موته" عما يوجب نيابة عنه في حياته، فهي وكالة، وليست وصية.

        واعترض على هذا التعريف:

        أولا: أنه غير مانع، ولا جامع:

        [ ص: 53 ] أما كونه غير مانع; فلشموله للتدبير، فإنه عقد يوجب حقا في ثلث عاقده يلزم بموته، فيدخل في تعريف الوصية، وليس منها.

        وأما كونه غير جامع; فلأنه لا يشمل كثيرا من الوصايا، منها:

        1 - الوصية التي التزم فيها الموصي عدم الرجوع; فإنها تلزم عند ابن عرفة ومن وافقه بالعقد، ولا تتوقف على موت عاقدها، فتخرج بقوله: "يلزم بموته" ; لأن معناه لا تلزم إلا بموته للضابط: أن القيود في التعاريف تفيد الحصر.

        2 - الوصية بالدين; لأنها تلزم بمجرد الإيصاء به، ولا تتوقف على موت الموصي أيضا.

        3 - الوصية لمعين، فإنها لا تلزم إلا بقبوله، كما قال في التلقين: وتجب الوصية بموت الموصي وقبول الموصى له بعد"، سواء قيل: إن القبول ركن أو شرط، في حين ظاهر قوله: "ويلزم بموته" أنها تلزم بمجرد الموت، فتخرج هذه الوصية، وتبقى الوصية لغير معين، أو لمن لا يتأتى منه القبول، للزومها بمجرد الموت.

        ثانيا: اعتباره الوصية عقدا، مع أنها في نشأتها لا تتوقف على إرادتين، وإنما على إرادة الموصي وحده.

        وقد أجيب عن الاعتراضات بما يلي:

        أما الاعتراض المتمثل في دخول التدبير في التعريف، فالصواب عدم [ ص: 54 ] شمول التعريف له; لأنه يلزم بمجرد إنشائه وعقده، لا بموت عاقده، ولذلك لا رجوع فيه.

        وأما الاعتراض بخروج الوصية الملتزم فيها بعدم الرجوع، فالجواب عنه من وجهين:

        الأول: أن الأصل في الوصية عدم اللزوم إلا بالموت، ولزومها في تلك الحالة لأمر عارض لها، وهو التزام الموصي عدم الرجوع، فهو كعقد ثان طارئ على الوصية صيرها لازمة.

        الثاني: أن الوصية المذكورة مختلف في لزومها، والتعريف موضوع لما هو أعم من الوصية المتفق عليها، والمختلف فيها، أو بعبارة أخرى التعريف موضوع للوصية المجردة عن انضمام أمر آخر إليها.

        كما أنه يمكن القول: إنه لا مجال لهذا الاعتراض بعدما أصبح المعمول به عدم لزوم هذه الوصية، وصحة الرجوع فيها وإن التزم عدم الرجوع.

        وأما الاعتراض على اعتبار الوصية عقدا ; فغير مسلم، فإن العقد في الشريعة يطلق على ما أنشئ بإرادة واحدة، وعلى ما أنشئ بإرادتين، ومن الأول قوله تعالى: ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان ، ومن الثاني قوله تعالى: ولا تعزموا عقدة النكاح ، ويشمل النوعين قوله تعالى: أوفوا بالعقود ؛ ولهذا قسم الفقهاء العقد إلى قسمين.

        [ ص: 55 ] وبهذا يتبين أنه لا حاجة لما ذكره بعض المتأخرين من ان الفقهاء نظروا إلى مال الوصية فسموها عقدا على أن هذا لا يصح أيضا; لأن من الوصايا ما لا يحتاج إلى قبول أصلا، لا ابتداء ولا بعد الموت، كالوصايا للفقراء، ومن لا يتأتى منه القبول.

        وأجيب عن هذا الاعتراض: بخروج الوصية بالدين من التعريف، فهو اعتراض في غير محله; لأن الوصية بالدين هي إقرار، وليست وصية، وإطلاق لفظ الوصية عليها مجاز، فيجب إخراجها من تعريف الوصية، ولهذا إذا أقر المدين بالدين فإنه يلزمه بمجرد إقراره، ويخرج من رأس المال، ولا يتوقف على موت الموصي; لأنه إقرار فيعطي حكمه، لا حكم الوصية.

        ومن تعاريف الشافعية : "تبرع بحق مضاف إلى ما بعد الموت ولو تقديرا، ليس بتدبير، ولا تعليق عتق على صفة".

        قوله: "تبرع" لفظ التبرع أخص من لفظ التمليك; لأنه شامل للتمليك بعوض، وبغير عوض، فخرج منه:

        التمليك بطريق المعاوضة، من بيع وإجارة، وغير ذلك من المعاوضات.

        وبقي داخلا في التعريف جميع التبرعات من هبة، أو صدقة، أو وقف.

        قوله: "مضاف لما بعد الموت" خرج به: التبرع الناجز في الحياة، من هبة وصدقة، وغيرهما.

        وقوله: "ولو تقديرا" لأجل الشمول نحو: أوصيت له بكذا، فإن بعد الموت مقدرا معه، وقول بعضهم: ليشمل التبرع في مرض الموت فإنه معتبر [ ص: 56 ] من الثلث فيه نظر، وغير مستقيم; لأنه ليس وصية، وإن كان له حكمها فيما ذكر.

        قوله: "ليس بتدبير ولا تعليق..." خرج به التدبير، والعتق المعلق على صفة.

        والتدبير: هو تعليق عتق العبد على موت سيده، وتعليق العتق على صفة هو تعليق عتق العبد على صفة غير موت سيده، كأن يقول له: إن حفظت القرآن فأنت حر بعد موتي.

        ويدخل في هذا التعريف الوصية بالأعيان والمنافع، وبالإبراء من الدين، وتأجيل الدين الحال، وإبراء الكفيل من الكفالة، وغير ذلك من الحقوق القابلة للنقل، للإطلاق في لفظ الحق في التعريف فيشمل جميع الحقوق.

        واعترض على هذا التعريف:

        أنه من باب ما يعرف عندهم بالحد التركيبي، وهو من العيوب التي يجب تجنبها في التعاريف، وذلك أن تعريف الوصية تتوقف معرفته على معرفة تعريف التدبير والعتق على صفة، فهو تعريف متوقف على تعريفين آخرين، وهو عيب في التعاريف; لأن توقف معرفة التعريف المطلوب على معرفة تعريف آخر، ينقل القارئ من موضوع إلى موضوع، ويبعده عن مقصوده أو يشغله عنه، ويشتت مجهوده وفكره.

        ومن تعاريف الحنابلة : بأنها الأمر بالتصرف بعد الموت، أو التبرع بالمال بعده.

        [ ص: 57 ] قوله: "التصرف بعد الموت" كأن يوصي إلى إنسان بتزويج بناته، أو غسله، أو الصلاة عليه إماما، أو القيام على صغار أولاده، أو تفرقة ثلثه ونحوه.

        وخرج بقوله: "بعد الموت" الوكالة.

        وقوله: "التبرع بالمال بعده" أي: بعد موت الموصي; ليخرج الهبة ونحوها من عقود التبرع التي تكون قبل الموت.

        واعترض على هذا التعريف بما يلي: أولا: ما فيه من التكرار بقوله: "بعده"، أي: بعد الموت.

        ثانيا: قوله: "التبرع بالمال" خرج به الحقوق المتعلقة بالمال كالوصية بتأجيل الدين، وإبراء الكفيل من الكفالة.

        فاستعمال لفظ المال ضيق من مجال الوصية، فلم يعد شاملا إلا للوصايا بالمال من أعيان ومنافع وديون، ولا يشمل الوصية بغير المال مثل تأجيل الدين الحال، وإبراء الكفيل من الكفالة إلا بتكلف.

        وأجيب عن هذا: بأن هذا داخل في قولهم: "الأمر بالتصرف".

        ومن تعاريفهم ما ذكره أبو الخطاب : بأنها تبرع بما يقف نفوذه على خروجه من الثلث.

        التعريف المختار الذي يظهر أنه أقرب التعاريف لمعنى الوصية، وأسلمها من الاعتراضات هو "تعريف الحنابلة "، ولشموله معنى الإيصاء.

        الصلة بين المعنى اللغوي، والمعنى الاصطلاحي : قلنا في المعنى اللغوي: إن أصل مادة "الوصية" ينبئ عن الوصول [ ص: 58 ] والاتصال، وعلى هذا فالصلة بين المعنيين ظاهرة وواضحة; لأن الموصي بوصيته وصل ما يكون بعد وفاته بما كان منه أيام حياته من البر وفعل الخير.

        تنبيه: فرق كثير من الفقهاء بين الوصية والإيصاء ؛ فالوصية كما سبق تعريفها، والإيصاء: إثبات تصرف مضاف لما بعد الموت ولو تقديرا، وإن لم يكن فيه تبرع، كالإيصاء بالقيام على أمر أطفاله، ورد ودائعه، وقضاء ديونه، فإنه لا تبرع في شيء من ذلك بخلاف الوصية، فإنه لا بد فيها من التبرع.

        [ ص: 59 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية