الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        معلومات الكتاب

        الجامع لأحكام الوقف والهبات والوصايا

        خالد المشيقح - أ.د/ خالد بن علي بن محمد المشيقح

        صفحة جزء
        المبحث الثاني: أدلة مشروعية الوصية

        الوصية مشروعة بالكتاب، والسنة، والإجماع، والنظر الصحيح.

        فمن الكتاب: قوله تعالى: كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين

        قال القرطبي بعد ذكر هذه الآية: "هذه آية الوصية، وليس في القرآن ذكر للوصية إلا في هذه الآية، وفي النساء: من بعد وصية ، وفي المائدة: حين الوصية ، والتي في البقرة أتمها وأكملها، ونزلت قبل نزول الفرائض والمواريث".

        وجه الدلالة: من قوله تعالى: كتب عليكم... الآية، من وجهين: الأول: أن معنى كتب: فرض وألزم، ولا بد أن يكون ما فرضه الله سبحانه وتعالى مشروعا.

        الثاني: أن الآية دلت على حرمة التغيير والتبديل في الوصية، بدليل ترتيب الإثم على ذلك، فدل ذلك على مشروعيتها; لأنها لو لم تشرع لما حرم تبديلها.

        ووجه الدلالة من قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض [ ص: 60 ] من وجهين:

        الأول: أنه تعالى حث المؤمنين على الإشهاد على الوصية، فدل ذلك على مشروعيتها; إذ الحث على شيء له متعلق يدل على مشروعية متعلقه، كما يدل على مشروعيته.

        الثاني: أنه سبحانه نزل الإشهاد من الوصية منزلة الحكم على موضوعه، ولما كان الإشهاد مندوبا إليه كان مشروعا، فعلم بذلك أن موضوعه كذلك، وإلا فليس بمعقول جعل ما ليس بمشروع موضوعا لما هو مشروع.

        ويدل لذلك أيضا قوله تعالى في سياق آيتي المواريث من سورة النساء: من بعد وصية يوصى بها أو دين .

        ووجه الاستدلال بهذه الآية: أنه سبحانه وتعالى قرن الوصية بالدين الواجب الأداء، فدل ذلك على جوازها بالمعنى الأعم، وقدمت الوصية على الدين; للاهتمام بشأنها، ولأن النفس قد لا تسمح بها; لكونها تبرعا، أو لأنها كانت على وجه البر والصلة، والدين يقع بعد الميت بنوع تفريط، فبدأ بالوصية لكونها أفضل، أو لأنها حظ الفقير غالبا، والدين حظ الغريم، ويطلبه بالقوة، أو لأجل ذلك كله، وإلا فإن الدين مقدم عليها شرعا بعد مؤنة التجهيز بلا نزاع.

        ومن السنة:

        (1) فقد روى البخاري ومسلم من طريق نافع ، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه، يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده" .

        [ ص: 61 ] أي: ما الحزم أو المعروف من الأخلاق إلا هذا، فقد يفجؤه الموت.

        (2) وروى البخاري ومسلم من طريق عامر بن سعد بن أبي وقاص ، عن أبيه عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني عام حجة الوداع من وجع اشتد بي، فقلت: إني قد بلغ بي من الوجع وأنا ذو مال، ولا يرثني إلا ابنة، أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: "لا"، فقلت: بالشطر؟ فقال: "لا"، ثم قال: "الثلث والثلث كبير أو كثير" .

        (3) ما رواه ابن ماجه من طريق طلحة بن عمرو ، عن عطاء ، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تصدق عليكم عند وفاتكم بثلث أموالكم؛ زيادة لكم في أعمالكم" .

        [ ص: 62 ] وأما الإجماع: فقد نقل الإجماع ابن المنذر ، وابن حزم ، وغيرهما.

        قال ابن المنذر : "وأجمعوا على أن الوصية لوالدين لا يرثان المرء، والأقرباء الذين لا يرثون جائزة، وأجمعوا على أنه لا وصية لوارث إلا أن يجيز ذلك، وأجمعوا على أن الوصايا مقصورة بها على ثلث مال العبد".

        قال في تبيين الحقائق: "إن عليه إجماع الأمة".

        وقال ابن قدامة : "وأجمع العلماء في جميع الأمصار والأعصار على جواز الوصية".

        وأما النظر الصحيح: فقد أجازها الشارع لحاجة الناس إليها; لأن الإنسان مغرور بأمله، مقصر في عمله، فإذا عرض له عارض، وخاف الهلاك، يحتاج إلى تلافي ما فاته من التقصير بماله على وجه لو تحقق ما كان يخافه يحصل مقصوده المآلي، ولو اتسع الوقت وأحوجه إلى الانتفاع به صرفه إلى حاجته الحالي، فشرعها الشارع؛ تمكينا منه جل وعلا من العمل الصالح وقضاء لحاجته عند احتياجه إلى تحصيل المصالح، ومثله الإجارة لا تجوز قياسا لما فيها من إضافة تمليك المنافع إلى ما يستقبل من الزمان، [ ص: 63 ] وأجازها الشارع للضرورة، وقد يبقى الملك بعد الموت باعتبار الحاجة كما بقي في قدر التجهيز والدين.

        وقال الشعبي : "من أوصى بوصية، فلم يجر، ولم يحف، كان له من الأجر مثل ما لو أعطاها وهو صحيح".

        التالي السابق


        الخدمات العلمية