فرع:
فإذا أمن الإنسان لمن يعوله كفايتهم، أو كان وحده ليس له من يعوله، فهل يشرع له وقف جميع ماله؟
اتفق الأئمة الأربعة في الجملة على جواز ذلك، ولكن بشرط أن يعلم من نفسه حسن التوكل واليقين، وأن يكون عنده القناعة والصبر على الفقر وعن المسألة، أو يكون ذا كسب.
وقال « ولا تنفذ هبة ولا صدقة لأحد إلا فيما أبقى له ولعياله غنى، فإن أعطى ما لا يبقى لنفسه وعياله بعده فسخ كله ». ابن حزم:
وقد جاء عن بعض السلف، كعطاء بن أبي رباح، وسعيد بن المسيب، أنهم رأوا الاقتصار على الثلث. [ ص: 389 ] وابن شهاب الزهري
وقال ابن عابدين: « ومن أراد وهو يعلم من نفسه حسن التوكل، والصبر عن المسألة فله ذلك، وإلا فلا يجوز ». الصدقة بماله كله
وقال « وجائز أن يتصدق الرجل في صحته بماله كله في سبيل البر والخير ». ابن عبد البر:
وقال « إن كان حسن اليقين قنوعا لا يقنطه الفقر، ولا يسأل عند العدم فالأولى أن يتصدق بجميع ماله ». الماوردي:
وقال « فإن كان الرجل وحده، أو كان لمن يمون كفايتهم، فأراد الصدقة بجميع ماله، وكان ذا مكسب، أو كان واثقا من نفسه، ويحسن التوكل والصبر على الفقر، ابن قدامة: فحسن ». والتعفف عن المسألة،
وقال «جوز جمهور العلماء وأئمة الأمصار الصدقة بجميع ماله ». القاضي عياض:
وجزم جمهور الشافعية، وهو الأصح في مذهبهم، وبعض الحنابلة باستحباب ذلك، وأفضليته عند تحقق الشرط المذكور.
وفي وجه عند الشافعية، والحنابلة: بالجواز.
واستدل القائلون بالجواز والمانعون بما يلي:
(113 ) 1 - ما رواه من طريق أبو داود ثنا الفضل بن دكين، هشام بن سعد، عن عن أبيه قال: سمعت زيد بن أسلم، رضي الله عنه يقول: عمر بن الخطاب إن سبقته يوما فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ ص: 390 ] « ما أبقيت لأهلك؟ » قلت: مثله، قال: وأتى أبا بكر رضي الله عنه بكل ما عنده، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ما أبقيت لأهلك؟ » قال: أبقيت لهم الله ورسوله، قلت: لا أسابقك إلى شيء أبدا. أبو بكر أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما أن نتصدق، فوافق ذلك ما عندي، فقلت: اليوم أسبق
[إسناده حسن]. [ ص: 391 ]
وقال - وهو من القائلين بالاستحباب - : « فرسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أقر الماوردي رضي الله عنه على ذلك واستحسنه; لما علم من قوة إيمانه، وصحة يقينه ». أبا بكر
(114 ) 2 - ما رواه عبد الله من طريق عن الليث بن سعد، عن أبي الزبير، يحيى بن جعدة، رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله أي الصدقة أفضل؟ قال: « جهد المقل وابدأ بمن تعول ». أبي هريرة [ ص: 392 ] عن
فالجهد بالضم: الوسع والطاقة، والمقل: الفقير وقليل المال، والمعنى: أفضل الصدقة قدر ما يحتمله حال القليل المال.
وقليل المال إذا تصدق بما يحتمله وسعه وطاقته بعد أن يبقي كفاية من يعوله يكون متصدقا بجميع ماله.
قال الفقهاء: فإن لم يتوفر فيمن يريد الصدقة بجميع ماله، الشرط المذكور، كره له ذلك.
(115 ) 3 - ما رواه من طريق أبو داود ابن عجلان، عياض بن عبد الله بن سعد سمع رضي الله عنه يقول: دخل رجل المسجد فأمر النبي صلى الله عليه وسلم الناس أن يطرحوا ثيابا فطرحوا، فأمر له منها بثوبين، ثم حث على الصدقة، فجاء فطرح أحد الثوبين فصاح به، وقال: « خذ ثوبك ». أبا سعيد الخدري [ ص: 393 ] عن
قال السندي: « أي: ما بقي خلفها غنى لصاحبه قلبيا كما كان للصديق، أو قالبيا فيصير الغنى للصدقة كالظهر للإنسان وراء الإنسان، فإضافة الظهر إلى الغنى بيانية، لبيان أن الصدقة إذا كانت بحيث يبقى لصاحبها الغنى بعدها إما لقوة قلبه، أو لوجود شيء بعدها إلى ما أعطى ويضطر إليه، فلا ينبغي لصاحبها التصدق به. عن ظهر غنى »
4 - حديث عبد الله بن كعب قال: سمعت رضي الله عنه يقول: كعب بن مالك بخيبر. يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم قال: « أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك » قلت: فإني أمسك سهمي الذي
(116 ) 5 - ما رواه من طريق أبو داود محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن محمود بن لبيد، قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل بمثل بيضة من ذهب، فقال: يا رسول الله [ ص: 394 ] أصبت هذه من معدن فخذها فهي صدقة ما أملك غيرها، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أتاه من قبل ركنه الأيمن، فقال مثل ذلك، فأعرض عنه ، ثم أتاه من قبل ركنه الأيسر، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أتاه من خلفه ، فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم فحذفه بها، فلو أصابته لأوجعته أو لعقرته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يأتي أحدكم بما يملك فيقول هذه صدقة، ثم يقعد يستكف الناس، خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى ». جابر بن عبد الله الأنصاري عن
6 - ولأن الإنسان إذا خرج جميع ماله لا يأمن فتنة الفقر، وشدة نزاع النفس إلى ما خرج منه فيندم، فيذهب ماله ويبطل أجره، ويصير كلا على الناس.
لكن عند توفر شرط الجواز، ما هو الأرجح: القول بالاستحباب أم القول بالجواز؟ [ ص: 395 ]
يقوي القول بالاستحباب، قول الله تعالى: ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة لا خلاف في أن المقصود بهذه الآية هم الأنصار.
فقد أثنى الله تبارك وتعالى على الأنصار بأنهم يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، أي: يقدمون المحاويج على حاجة أنفسهم، ويبدؤون بالناس قبلهم في حال احتياجهم إلى ذلك، قاله ابن كثير.
ويؤيد القول بالجواز دون الاستحباب:
قول الله تعالى: ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا ، فمعنى قوله تعالى: ولا تبسطها كل البسط أي: لا تبسطها بالعطاء كل البسط فتعطي جميع ما عندك، فتقعد محسورا، أي: منقطعا بك لا شيء عندك تنفقه يقول:...دابة حسيرة إذا كانت كالة.
ففي الآية نهي عن الإسراف في إنفاق المال في وجوه الخير.
ومن حده بالثلث استدل:
(117 ) بما رواه البخاري من طريق ومسلم عن أبيه عامر بن سعد، رضي الله عنه، وفيه: قوله صلى الله عليه وسلم: « سعد بن أبي وقاص ». الثلث، والثلث كثير