[ ص: 14 ] المبحث الثاني: الدية
اختلف العلماء - رحمهم الله - في ذلك على قولين: إذا قتل الموصي وأخذت الدية فهل تدخل الدية في الوصية ؟
القول الأول: أن الدية تدخل في الوصية.
وهو قول الحنفية، والصحيح من مذهب المالكية، والصحيح من مذهب الشافعية، والصحيح من مذهب الحنابلة، وبه قال الحسن.
لكن عند المالكية : تدخل الوصية في دية الخطأ دون العمد; لأن دية العمد لم يعلم بها الموصي.
القول الثاني: أن الدية لا تدخل في الوصية.
وهو قول عند المالكية ، وقول عند الشافعية ، ورواية عند وهو قول عند الإمام أحمد، الظاهرية .
[ ص: 15 ] الأدلة:
أدلة الرأي الأول:
(196 ) 1 - ما رواه حدثنا أحمد: حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، ، عن الزهري سعيد بن المسيب، -رضي الله عنه- قال: ما أرى الدية إلا للعصبة; لأنهم يعقلون عنه، فهل سمع أحد منكم من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ذلك شيئا؟ فقال عمر بن الخطاب الضحاك بن سفيان الكلابي - وكان استعمله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على الأعراب - كتب إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أن أورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها » ، فأخذ بذلك -رضي الله عنه- عمر بن الخطاب . أن
[ ص: 16 ] وجه الدلالة: أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أمر بتوريث المرأة من دية زوجها، فدل على أن الدية تثبت للمقتول أولا، ولذا أضافها إليه، فقال: دية زوجها، ثم تنتقل إلى ورثته، ولو كانت الدية تثبت للورثة ابتداء لما أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالتوريث، بل يقول: أعطها حقها من الدية وما شابه ذلك.
قال البغوي -رحمه الله - : « فيه دليل على أن الدية تجب للمقتول، ثم تنقل منه إلى ورثته كسائر أملاكه، وهذا قول أكثر أهل العلم » .
(197 ) 2 - ما رواه عن عبد الرزاق، عبد الله بن محرر قال: أخبرني قال: إن رجلا خرج مسافرا فأوصى لرجل بثلث ماله، فقتل الرجل في سفره ذلك ، فرفع أمره إلى الحكم بن عتيبة فأعطاه ثلث المال وثلث الدية » . علي بن أبي طالب،
3 - أن الدية تجب للميت؛ لأنها بدل نفسه، ونفسه له، فكذلك بدله.
4 - أن دية أطرافه في حالة حياته له، فكذلك دية نفسه بعد موته.
5 - أن المقتول أسقط الدية عن القاتل بعد جرحه إياه كان صحيحا، وليس له إسقاط حق الورثة، فدل أنها تحدث على ملكه.
6 - أن فأشبهت سائر أمواله، وحيث ثبت ذلك فإنها تنفذ منها وصاياه. الدية مال موروث عن المقتول بالإجماع،
[ ص: 17 ] أدلة الرأي الثاني:
1 - أن الدية سببها الموت، فلا يجوز وجوبها قبله; لأن الحكم لا يتقدم سببه.ونوقش هذا الاستدلال: بأن سبب الوجوب ينزل منزلة مسببه وهو الوجوب، ولا شك أن السبب وجد في حياته، وهو الجناية عليه.
2 - أن الدية إنما تستحق بعد الموت، وبالموت تزول أملاك الميت الثابتة له، فكيف يتجدد له ملك؟.
ونوقش هذا الاستدلال من وجهين:
الأول: بأنه إنما يزول من أملاكه ما استغني عنه، فأما ما تعلقت به حاجته فلا.
يحقق ذلك أن تجهيزه منها بلا نزاع.
الثاني: أنه يجوز أن يتجدد له ملك بعد الموت، كمن نصب شبكة فسقط فيها صيد بعد موته، فإنه يملكه بحيث تقضى ديونه منه ، ويجهز، فكذلك ديته. 3 - أن الدية مال للأهل حدث لهم بعد موت مورثهم، ولم يرثوه قط عنه ; إذ لم يجب له شيء منه في حياته، فمن الباطل أن ينفذ منه وصيته.
[ ص: 18 ] ويناقش هذا الدليل من وجهين:
الوجه الأول: أنه لا يصح أن يقال: إنهم لم يرثوا الدية عن مورثهم; بدليل أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر بتوريث امرأة أشيم من دية زوجها، فالدية موروثة عنه.
الوجه الثاني: أن الدية بدل نفسه فهو أحق أن تقضى منها حوائجه من ورثته; بدليل أنه يجهز منه بلا خلاف.
الترجيح:
يظهر لي - والله أعلم - رجحان القول الأول; لقوة أدلته، ولضعف أدلة القول الثاني بما ورد عليها من المناقشة.