قال الأزهري: وأكثر ما يكون الزعم فيما يشك فيه، ولا يتحقق. وقال بعضهم: هو كناية عن الكذب. وقال المرزوقي: أكثر ما يستعمل فيما كان باطلا، أو فيه ارتياب. وقال ابن القوطية: زعم زعما: قال خبرا لا يدري، أحق هو، أم باطل؟ قال ولهذا قيل: «زعم» مطية الكذب. الخطابي:
وهذا لشركائنا أي: للأصنام. فما كان لشركائهم أي: ما جعلوه لها من الحرث والأنعام فلا يصل إلى الله أي: إلى المصارف التي شرع الله الصرف فيها؛ كالصدقة، وصلة الرحم، وقراء الضيف. وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم أي: يجعلونه لآلهتهم، وينفقونه في مصالحها ساء ما يحكمون أي: حكمهم في إيثارهم آلهتهم على الله سبحانه، ورجحان جانب الأصنام على جانب الله تعالى في الرعاية والحفاظة، وهذا سفه منهم.
وقيل: معنى الآية: أنهم كانوا إذا ذبحوا ما جعلوه لله، ذكروا عليه اسم [ ص: 106 ] أصنامهم، وإذا ذبحوا ما لأصنامهم، لم يذكروا عليه اسم الله. فهذا معنى الوصول إلى الله، والوصول إلى شركائهم. قال بعض العلماء: يعني: أن الله هو الذي خلق الحرث والأنعام. فكما يخرجون منها جزءا لله تعالى، كذلك ينذرون منها جزءا لغيره سبحانه أيضا. والاحتياط الذي يأتون به فيما نذروه لغير الله تعالى، لا يحتاطون مثله فيما يجعلونه لله. وهذا هو الشرك المحض، وفيه زيادة أدب وتعظيم للآلهة الباطلة بالنسبة إلى الإله الحق الخالق للجميع.
وقال تعالى: وقالوا هذه أنعام وحرث حجر [الأنعام: 138] هذا بيان نوع من جهالاتهم وضلالاتهم، وهذه إشارة إلى ما جعلوه لآلهتهم. والتأنيث باعتبار الخبر، وهو قوله: «أنعام» فهو و «حرث» خبر عن اسم الإشارة، و «الحجر» بكسر أوله وسكون ثانيه، وقرئ: بضم الحاء والجيم، وبفتح الحاء وإسكان الجيم، وقرئ: «حرج» بتقديم الراء على الجيم؛ من الحرج، وهو الضيق. والحجر على اختلاف القراءات فيه هو مصدر بمعنى: محجور؛ كذبح، وطحن بمعنى: مذبوح ومطحون، يستوي فيه الواحد والكثير، والمذكر، والمؤنث، وأصله: المنع. فمعنى الآية: هذه أنعام وحرث ممنوعة. يعنون: أنها لأصنامهم.
قال يعني بالأنعام: البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحامي. مجاهد:
قال الحجر: ما حرموا من الوصيلة. وقال ابن عباس: قتادة، حجر؛ أي: حرام. والسدي:
[ ص: 107 ] لا يطعمها إلا من نشاء وهم خدام الأصنام، والرجال، دون النساء بزعمهم لا حجة لهم فيه. فجعلوا نصيب الآلهة أقساما ثلاثة: الأول ما ذكره بقوله: حجر. والثاني: ما ذكره بقوله: وأنعام حرمت ظهورها أي: البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحام، حموا ظهورها عن الركوب. والقسم الثالث: وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها عند الذبح، وهي ما ذبحوا لآلهتهم. فإنهم كانوا يذبحونها باسم أصنامهم، لا باسم الله.
قلت: وزاد مشركو الهند على هذا، فذبحوا ما جعلوه لأوثانهم من قبور الصلحاء وأنصابهم على اسم الله، ونووا به إياها، فكانوا فوقهم في السفه والجهل، والبعد من الحق، والقرب من سوء الأدب.
وقيل: المراد: أنهم لا يحجون عليها، ولا يركبونها لفعل الخير. والأول أولى.
افتراء عليه أي: اختلاقا وكذبا على الله سبحانه. والتقدير: لأجل الافتراء على الباري تعالى. وقيل: التقدير: افتروا ذلك افتراء، وقيل: قالوا ذلك حال افترائهم. وهي تشبه الحال المؤكدة.
سيجزيهم بما كانوا يفترون أي: بافترائهم، أو بالذي يفترونه، وفيه وعيد، وتهديد لهم.
قال بعض أهل العلم في معنى هذه الآية: يعني: أنهم يجعلون خيالا منهم بعض الأشياء حجرا، ويقولون: لا يطعمه فلان وفلان، ويطعمه فلان وفلان، ويمتنعون من ركوب تلك الأنعام والحمل عليها؛ لكونها منذورة للأصنام، فيتحفظون منها أدبا لآلهتهم الباطلة، [ ص: 108 ] وفي خيالهم أن الله تعالى يرضى عنهم بذلك، ويقضي لهم حاجاتهم بسببه. فهذا كله افتراء واختلاق يعاقبون عليه.
ومثل هؤلاء مشركو الهند من المسلمين، فإنهم أيضا قالوا: هذه البقرة، أو الغنم، أو الدجاجة، أو الطعام، حجر لا يأكلها فلان، ويأكلها فلان من الرجال، أو النساء. ومنهم من يذبح تلك على اسم الكبراء كما نواها لهم. ومنهم من يذبحها على اسم الله، وفي نيته غير الله تعالى. وهذا الأخير أيضا حرام؛ لأنه يصدق عليه أنه فمن صنع مثل هذا الصنيع، وأتى به، فقد ثبت له الشرك، وصار من المشركين. مما أهل به لغير الله.
وقالوا ما في بطون هذه الأنعام [الأنعام: 139] يعنون: أجنة البحائر والسوائب. وقيل: هو اللبن. واللفظ أوسع من ذلك.
خالصة لذكورنا أي: حلال لهم ومحرم على جنس أزواجنا من النساء، فيدخل في ذلك البنات والأخوات ونحوهن.
وإن يكن الذي في بطون الأنعام ميتة فهم فيه أي: في الذي في البطون شركاء يأكل منه الذكور والإناث.
سيجزيهم الله وصفهم أي: بوصفهم الكذب على الله. وقيل: يجزيهم جزاء وصفهم إنه حكيم عليم فلأجل حكمته وعلمه لا يترك جزاءهم الذي هو من مقتضيات الحكمة.
وقد وصف الله تعالى في كتابه أنواعا من ضلالتهم وشركهم بالله، وهذا منها، وهي أصول للإشراك، نبه بها على ما سواها من ذلك الباب الواسع، الذي يعسر عده واستقراؤه في هذا المختصر.
[ ص: 109 ] ومن رزقه الله علما نافعا، وفهما صحيحا، وقلبا سليما، يدرك الشرك وخفاياه، وخبايا الكفر في زواياه، ومن لم يجعل الله له نورا، ولم يشرح صدره للإسلام، فكل شرك عنده هو الإسلام، وكل توحيد هو الخروج عن دائرة الإيمان. ألا ترى أهل البدعة كيف ينالون من أهل السنة، ويسمونهم بأسماء قبيحة؛ زعما منهم أنهم على الحق، وأن المخالف لهم على الباطل؟ وكذلك المقلدون يطعنون أهل الاتباع بألسنتهم، ويرونهم على الضلال، وإياهم على الصواب. والأمر كما قيل:
رمتني بدائها وانسلت
.وقال تعالى: ما جعل الله [المائدة: 103] هذا كلام مبتدأ يتضمن الرد على أهل الجاهلية فيما ابتدعوه. و «جعل» هنا بمعنى: سمى، كما قال تعالى: إنا جعلناه قرآنا عربيا [الزخرف:3] قاله ابن عطية، والمعنى: ما أنزل الله، ولا حكم به.
وقال الزمخشري، وأبو البقاء: إنها تكون بمعنى شرع، ووضع؛ أي: ما شرع الله، ولا أمر، وقيل: ما صير الله.