حكم التطير والعدوى وما ورد فيهما
وعن عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: عبد الله بن مسعود أي: بسبب التوكل. رواه «الطيرة شرك، قاله ثلاثا، وما منا إلا، ولكن الله يذهبه بالتوكل»؛ أبو داود، وصححه، وقال: سمعت والترمذي محمد بن إسماعيل، يعني: البخاري، يقول: كان يقول في هذا الحديث: وما منا... إلخ: هذا عندي قول سليمان بن حرب ابن مسعود.
وهذا صريح في تحريم الطيرة، وأنها من الشرك؛ لما فيها من تعلق القلب على غير الله. [ ص: 138 ] ومن قال: إنها تكره، فالكراهة في اصطلاح السلف بمعنى الحرام.
قال في «شرح السنن»: إنما جعل الطيرة من الشرك؛ لأنهم كانوا يعتقدون أن الطيرة تجلب لهم نفعا، أو تدفع عنهم ضرا إذا عملوا بموجبها، فكأنهم أشركوا مع الله تعالى.
وقال أبو القاسم الأصفهاني، والمنذري: في الحديث إضمار، والتقدير: وما منا إلا وقد وقع في قلبه شيء من ذلك. انتهى.
وقال الخلخالي: حذف المستثنى؛ لما يتضمنه من الحالة المكروهة، وهذا من آداب الكلام. والمعنى: لكن لما توكلنا على الله في جلب نفع، أو دفع ضر، أذهبه الله عنا بتوكلنا عليه وحده.
قال ابن القيم: الصواب أن الطيرة نوع من الشرك. قلت: إطلاق الشرك عليها من النبي -صلى الله عليه وسلم- يغني عن قول غيره بشركه، ويرد على من لا يقول بذلك.
قال بعض العلماء: كانت الطيرة رائجة في العرب، وكانوا يتطيرون، ويعتقدونها، فصرح رسول الله بأنها شرك؛ ليترك الناس تلك العادة القبيحة الشركية. انتهى. فالحديث دليل على كونها شركا.
وفي «فتح المجيد» الطيرة بكسر الطاء وفتح الياء: اسم مصدر من تطير طيرة؛ كما يقال: تخير خيرة، ولم يجئ في المصادر على هذه الزنة غيرهما. وأصله: التطير بالسوانح والبوارح من الطير والظباء وغيرهما. وكان ذلك يصدهم عن مقاصدهم، فنفاه الشرع وأبطله، وأخبر أنه لا تأثير له في جلب نفع، أو دفع ضر.
قال المدائني: سألت رؤبة بن العجاج: ما السانح؟ قال: ما ولاك ميامنه. [ ص: 139 ] قلت: فما البارح؟ قال: ما ولاك مياسره، والذي يجيء من أمامك، فهو الناطح والنطيح، والذي يجيء من خلفك، هو القاعد والقعيد.
ولما كانت الطيرة من الشرك المنافي لكمال التوحيد الواجب؛ لكونها من إلقاء الشيطان، وتخويفه ووسوسته، يتعلق القلب بها خوفا وطمعا، ومنافاة للتوكل على الله، الذي لا ينفع ولا يضر غيره، واعتقاد النفع والضر في طائر ونحوه مما لا علم عنده ولا قصد، وإن كان من الشرك الأصغر، فهو من أقبح الشرك. وهو كاعتقاد المنجمين في النجوم التي سخرها الله تعالى، اعتقدوا أن لها تأثيرا في الكون وهي مسخرة لا تنفع ولا تضر.
وكان آل فرعون إذا جاءتهم الحسنة، وأصابهم الخصب، والسعة، والعافية قالوا لنا هذه [الأعراف: 131] أي نحن الجديرون والحقيقيون به، ونحن أهلها. وإن تصبهم سيئة؛ أي: بلاء وقحط يطيروا بموسى ومن معه [الأعراف:131] فيقولون: هذا بسبب موسى وأصحابه أصابنا بشؤمهم. فقال تعالى: إنما طائرهم عند الله [الأعراف: 131] أي ما قضى عليهم وقدر.
وفي رواية عنه: شؤمهم عند الله، ومن قبله جاءهم هذا الشؤم بكفرهم وتكذيبهم بآياته ورسله.
وقال تعالى: طائركم معكم [يس: 19] أي: حظكم، وما نابكم من شر، معكم؛ بسبب كفركم، ومخالفتكم الناصحين، ليس هو من أجلنا، ولا بسببنا، بل ببغيكم وعدوانكم. فطائر الباغي الظالم معه، فما وقع به من الشرور، فهو سببه الجالب له، وذلك بقضاء الله وقدره، وحكمته وعدله. كما قال سبحانه: أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون [القلم: 35 - 36] ويحتمل أن يكون المعنى: طائركم راجع إليكم، فالطير الذي حصل لكم إنما يعود عليكم.
[ ص: 140 ] وهذا من باب القصاص في الكلام، ونظيره قوله - عليه السلام -: ذكره «إذا سلم عليكم أهل الكتاب، فقولوا: وعليكم». الحافظ ابن القيم رحمه الله تعالى.
وبالجملة: التطير من عمل أهل الجاهلية المشركين، وقد ذمهم الله تعالى به، ونهاهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عنه، وأخبر أنه شرك، انتهى.
وعن سعد بن مالك: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: قال «لا هامة ولا عدوى ولا طيرة»، «ابن القيم» -رضي الله عنه-: يحتمل أن يكون نفيا، أو نهيا؛ أي: لا تطيروا، ولكن قوله -صلى الله عليه وسلم- في حديث آخر: يدل على أن المراد النفي، وإبطال هذه الأمور التي كانت الجاهلية تتعاطاها. والنفي في هذا أبلغ من النهي؛ لأن النفي يدل على بطلان ذلك وعدم تأثيره، والنهي إنما يدل على المنع منه. «لا عدوى ولا صفر ولا هامة»
وفي «صحيح عن مسلم» معاوية بن الحكم: أنه قال لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: فأخبر أن تأذيه وتشاؤمه إنما هو في نفسه وعقيدته، لا في المتطير به. فوهمه وخوفه وإشراكه هو الذي يطيره ويصد، لا ما رآه وسمعه. فأوضح لأمته الأمر، وبين لهم فساد الطيرة؛ ليعلموا أن الله سبحانه لم يجعل لهم عليها علامة، ولا فيها دلالة، ولا نصبها سببا لما يخافونه ويحذرونه، ولتطمئن قلوبهم، وتسكن نفوسهم إلى وحدانيته تعالى التي أرسل بها رسله، وأنزل لها كتبه، وخلق لأجلها السماوات والأرض، وعمر الدارين: الجنة، والنار بسبب التوحيد. ومنا أناس يتطيرون، قال: «فذلك شيء يجده أحدكم في نفسه، فلا يصدنكم».
فقطع صلى الله عليه وسلم علق الشرك من قلوبهم؛ لئلا يبقى فيها علقة منها، ولا يتلبسوا بعمل من أعمال أهل النار البتة. [ ص: 141 ] فمن استمسك بعروة التوحيد الوثقى، واعتصم بحبله المتين، وتوكل على الله رب العالمين، قطع هاجس الطيرة من قبل استقرارها، وبادر خواطرها من قبل استمكانها.
قال عكرمة: كنا جلوسا عند فمر طائر يصيح، فقال رجل من القوم: خير خير. فقال ابن عباس، لا خير ولا شر. فبادره بالإنكار عليه؛ لئلا يعتقد تأثيره في الخير والشر. وخرج ابن عباس: مع صاحب له في سفر، فصاح غراب، فقال الرجل: خير، فقال طاوس وأي خير عند هذا؟ لا تصحبني. انتهى حاصله. طاوس:
رواه «وإن تكن الطيرة في شيء، ففي الدار، والفرس، والمرأة» أبو داود.
وقال في «فتح المجيد»: قد ظن بعض الناس أن هذا الحديث، وما في معناه يدل على جواز الطيرة؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: ونحو هذا. وليس الأمر هكذا، فقد قال «والشؤم في ثلاث: المرأة، والدابة، والدار»، ابن القيم - رحمه الله -: إخباره -صلى الله عليه وسلم- بالشؤم في هذه الثلاثة ليس فيها إثبات الطيرة التي نفاها الله، وإنما غايته أنه سبحانه قد يخلق منها أعيانا مشؤومة على من قاربها وسكنها، وأعيانا مباركة لا يلحق من قربها منها شؤم ولا شر. هذا كما يعطي سبحانه الوالدين ولدا مباركا، يريان الخير على وجهه، ويعطي غيرهما ولدا مشؤوما، يريان الشر على وجهه، وكذلك ما يعطاه العبد من دابة وغيرها، فكذلك الدار، والمرأة، والفرس.
والله سبحانه خالق الخير والشر، والسعود والنحوس، فيخلق بعض هذه الأعيان سعودا مباركة، ويقضي بسعادة من قاربها، وحصول اليمن والبركة له، ويخلق بعضها نحوسا يتنحس بها من قاربها. وكل ذلك بقضائه وقدره؛ كما خلق سائر الأسباب، وربطها بمسبباتها المتضادة والمختلفة، كما خلق المسك وغيره من الأرواح الطيبة، ولذذ بها من [ ص: 142 ] قاربها من الناس، خلق ضدها، وجعلها سببا لألم من قاربها من الناس. والفرق بين هذين النوعين مدرك بالحس، فكذلك في الديار والنساء والخيل، فهذا لون، والطيرة الشركية لون. انتهى.