فصل في رد الإشراك بالاستشفاع بالله
على أحد من مخلوقاته
- رضي الله عنه، قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم- أعرابي، فقال: «جهدت الأنفس، وجاع العيال، ونهكت الأموال - أي: نقصت وهلكت الأنعام فاستسق الله لنا، فإنا نستشفع بك على الله، ونستشفع بالله عليك». جبير بن مطعم عن
يقال: استشفعت بفلان على فلان، فتشفع لي إليه، وشفعه: أجاب شفاعته.
ولما قيل: إن الشفاعة انضمام إلى آخر ناصرا له، وسائلا عنه، إلى ذي سلطان عظيم، منع رسول الله صلى الله عليه وسلم- أن يستشفع بالله تعالى على أحد، وقال:
ثم قال: «ويحك، إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه». «سبحان الله !»، فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه.
فإنه تعالى رب كل شيء ومليكه، والخير كله بيده، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، ولا راد لما قضى، وما كان الله ليعجزه شيء في السماوات والأرض.
[ ص: 166 ] والخلق وما في أيديهم كله ملكه، يتصرف فيه كيف يشاء.
وهو الذي يشفع الشافع إليه، وليس هو بشافع إلى أحد، ولهذا أنكر على الأعرابي قوله، وسبح الله كثيرا، وعظمه ؛ لأن هذا القول لا يليق بالخالق سبحانه وبحمده رواه «شأن الله أعظم من ذلك، ويحك! أتدري ما الله؟ إن عرشه على سماواته لهكذا وقال بأصابعه مثل القبة، وإنه ليئط به أطيط الرحل بالراكب» أبو داود.
قال بعض أهل العلم في معنى هذا الحديث: إنه وقع القحط في ملك العرب، فجاء أعرابي، وذكر الشدة، وطلب الدعاء، وقال: نريد الشفاعة منك عند الله، وشفاعة الله عندك، فدهش رسول الله صلى الله عليه وسلم- من قوله هذا، وخاف خوفا شديدا، وصار يسبح الله، وتغيرت وجوه الناس من تسبيحه صلى الله عليه وسلم، وثنائه على الله؛ عظمة له سبحانه.
ثم أفهم الأعرابي أن إذهاب أحد إلى أحد للشفاعة، إنما يكون لكون الشفيع ذا اختيار، ودخيلا عنده، وكون المشفوع إليه يقبل شفاعته لرضاء خاطره وتطييب قلبه.
فإذا قال: إنا نستشفع بالله عليك، ونستشفع بك على الله، فكأنه اعتقد أن الرسول مختار قادر، والله سبحانه شفيع له إليه. وهذا خلط محض، وفيه كسر لشأن الله الرفيع ؛ لأن شأنه سبحانه أرفع من الجميع.
والأنبياء والرسل كلهم عاجزون لديه، عبيد له.
وعرشه قد أحاط جميع السماوات والأرض، كالقبة الحاصرة لما تحته وفيه.
وهو مع هذه العظمة لا يتحمل عظمته تعالى، بل يئط من كمال عظمته ،وتمام جلالته، أطيط الرحل براكبه.
لا طاقة لأحد من مخلوقاته أن يفصح عن عظمته وبيان كبريائه، أو يجول وهمه وخياله في ميدان جلالته ورفعته .
[ ص: 167 ] وإذا كان الحال كذلك والحالة هذه فمن ذاك الذي يكون دخيلا عنده ،ويدخل في أمور سلطنته العليا؟ بل هو الملك، ملك الملوك، من دون جنود وعساكر، ووزير ومشير له وظهير، ويفعل في آن واحد آلاف ألوف من الأمور.
فما له وللشفاعة عند أحد؟ ومن يقدر بين يديه أن يجلس مختارا ويصيردخيلا في شيء من أمره وخلقه؟.
هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم- سيد الرسل وخاتمهم، وأشرفهم خلقا، وأكرمهم وجاهة، لما سمع من أعرابي قولا يخالف عظمته، صار خائفا دهشا، وأخذ في التسبيح، وفي بيان جلالته من العرش إلى الفرش.
فقس على هذا الناس الذين ينطقون بما يشعر كأنهم أقرباء لذلك الملك، ملك الملوك، أو لهم معرفة ومودة كمودة أحدهم لأحد، ويعتدون في الأقوال، ويتجاوزون حدود المقال.
فيقول بعضهم ومعاذ الله منه: إني اشتريت ربي بفلس، ومنهم من يقول: إني أكبر منه سبحانه بسنتين.
ومنهم من يقول: إن تجلى ربي في غير صورة شيخي، لا أنظر إليه.
ومنهم من نظم شعرا معناه: أنه جريح الفؤاد من محبة الرسول، فأنا رقيب الله تعالى في هذه المحبة.
وقال بعضهم: كن مع الله مجنونا، ومع محمد صلى الله عليه وسلم - صاحيا.
ومنهم من يفضل الحقيقة المحمدية على حقيقة الألوهية. إلى غير ذلك مما هو كفر بواح، وضلال صرف، وشرك بحت، أعاذنا الله منه.
وقد ثبت من هذا الحديث: أن عبد القادر! شيئا لله، لا ينبغي أن يقال ذلك ؛ لأن فيه الإتيان بالله شفيعا عند الشيخ. الختم المشهور بين الناس الذي يقولون فيه : [ ص: 168 ] يا شيخ
والشيخ وإن كان كبير الأولياء، ولكن الله سبحانه أكبر من كل كبير، وأعلى من أن يستشفع به لدى أمير، أو فقير.
نعم، لو قال: يا ألله! أعطني شيئا كذا، وكذا، للشيخ عبد القادر، لكان جائزا عند بعض الفقهاء.
فالذي يجب على كل مسلم، ويحق له، وينبغي ألا يتلفظ بحرف، فضلا عن كلمة فيها رائحة الشرك، أو نتن إساءة الأدب مع خالق الكل - جل جلاله، وعم نواله -، فإن شأنه سبحانه أعظم الشؤون، وإنه أغنى الأغنياء، وأملك الملوك، قد يأخذ على ذرة، ويغفر لذرة.
ومن تفوه في الظاهر بألفاظ فيها ترك الأدب وإساءته، ثم قال: إن المراد منها غير الظاهر، فهذا خطأ منه فاحش، وغلط واضح؛ لأن لاستعمال المعماءات والألغاز مواضع أخر كثيرة غير هذا الموضع، ليس هذا بضروري في جنابه الأقدس الأعلى.
ألا ترى أن أحدا من الناس لا يستهزئ بأبيه، ولا بسلطان زمانه، ولا يهزأ معه؟ .
وإنا يصنع هذا مع الأحباب والأصحاب، لا مع الأب والسلطان، انتهى.
والحديث أيضا دليل على وأنه فوق السماوات لا تحتها ولا في الأرض. علوه سبحانه على الخلق، واستوائه على عرشه العظيم،
وفيه للمعطلة، والجهمية، والمعتزلة، ومن أخذ عنهم ؛ تفسير الاستواء بالعلو، كما فسره الصحابة والتابعون والأئمة، خلافا كالأشاعرة ونحوهم ممن ألحد في أسماء الله تعالى وصفاته، وصرفها عن المعنى الذي وضعت له، ودلت [ ص: 169 ] عليه من إثبات صفات الله تعالى التي دلت على كماله -جل وعلا-، كما عليه السلف الصالح والأئمة، ومن تبعهم ممن تمسك بالسنة، فإنهم أثبتوا ما أثبته الله لنفسه، وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم- من صفات كماله على ما يليق بجلاله وعظمته وجماله وكبريائه إثباتا بلا تمثيل، وتنزيها بلا تعطيل.
وهذه المسألة مما وقعت فيه القلاقل والزلازل الكثيرة قديما وحديثا، وجمعت فيها كتب وصحف كثيرة، أحسنها كتاب «الجواز والصلات في بيان الأسامي والصفات» ؛ فإنه جامع الأشتات في هذا الباب، مفصح بما هو الحق الحقيقي بالقبول والصواب.
قاله الشوكاني - رحمه الله - في «الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد».