تحقيق معنى حديث عثمان بن حنيف
وللناس في معنى هذا الحديث قولان:
أحدهما: أن التوسل هو الذي ذكره لما قال: كنا إذاأجدبنا، نتوسل بنبيك إليك فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا. وهو في «صحيح عمر بن الخطاب، وغيره. البخاري»
[ ص: 173 ] فقد ذكر -رضي الله عنه-: أنهم كانوا يتوسلون بالنبي صلى الله عليه وسلم- في حياته في الاستسقاء، ثم توسل بعمه عمر بعد موته. العباس
وتوسلهم هو استسقاؤهم؛ بحيث يدعو ويدعون معه، فيكون هو وسيلتهم إلى الله تعالى.
والنبي صلى الله عليه وسلم- كان في مثل هذا شافعا وداعيا لهم.
والقول الثاني: أن يكون في حياته صلى الله عليه وسلم- وبعد موته، وفي حضرته، ومغيبه. التوسل به صلى الله عليه وسلم-
ولا يخفاك أنه قد ثبت التوسل به صلى الله عليه وسلم- في حياته، وثبت التوسل بغيره بعد موته بإجماع الصحابة إجماعا سكوتيا؛ لعدم إنكار أحد منهم على -رضي الله عنه- في توسله عمر -رضي الله عنه-. بالعباس
قال: وعندي: لا وجه لتخصيص جواز التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم- كما زعمه الشيخ عز الدين بن عبد السلام، لأمرين:
الأول: ما عرفناك به من إجماع الصحابة - رضي الله عنهم -.
والثاني: أن هو في التحقيق توسل بأعمالهم الصالحة، ومزاياهم الفاضلة، إذ لا يكون الفاضل فاضلا إلا بأعماله. التوسل إلى الله بأهل الفضل والعلم،
فإذا قال القائل: اللهم إني أتوسل إليك بالعالم الفلاني، فهو باعتبار ما قام به من العلم.
وقد ثبت في «الصحيحين»، وغيرهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم-حكى عن الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة: أن كل واحد منهم توسل إلى الله بأعظم عمل عمله، فارتفعت الصخرة.
[ ص: 174 ] فلو كان غير جائز، أو كان شركا كما يزعمه المتشددون في هذا الباب ؛ التوسل بالأعمال الفاضلة كابن عبد السلام، ومن قال بقوله من أتباعه، لم تحصل الإجابة من الله لهم، ولا سكت النبي صلى الله عليه وسلم- عن إنكار ما فعلوه بعد حكايته عنهم.
وبهذا تعلم أن ما يورده المانعون من من نحو قوله تعالى: التوسل إلى الله تعالى بالأنبياء والصالحين ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى [الزمر: 3] ونحو قوله تعالى: فلا تدعوا مع الله أحدا ، ونحو قوله تعالى: له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء [الرعد: 14] ليس بوارد، بل هو من الاستدلال على محل النزاع بما هو أجنبي عنه.
فإن قولهم: ما نعبدهم إلخ مصرح بأنهم عبدوهم لذلك، والمتوسل بالعالم مثلا لم يعبده، بل علم أن له مزية عند الله بحمله العلم، فتوسل به لذلك.
وكذلك قوله: فلا تدعوا إلخ فإنه نهي عن أن يدعى مع الله غيره ؛ كأن يقول: بالله، وبفلان.
والمتوسل بالعالم - مثلا - لم يدع إلا الله، وإنما وقع منه التوسل إليه بعمل [ ص: 175 ] صالح عمله بعض عباده ؛ كما توسل الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة بصالح أعمالهم.
وكذلك قوله: والذين تدعون من دونه [فاطر: 13] الآية ؛ فإن هؤلاء دعوا من لا يستجيب لهم، ولم يدعوا ربهم الذي يستجيب لهم.
والمتوسل بالعالم - مثلا - لم يدع إلا الله، ولم يدع غيره دونه، ولا دعا غيره معه.
وإذا عرفت هذا، لم يخف عليك دفع ما يورده المانعون للتوسل من الأدلة الخارجة عن محل النزاع خروجا زائدا على ما ذكرناه ؛ كاستدلالهم بقوله: يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله [الانفطار: 19] .
فإن هذه الآية الشريفة ليس فيها إلا أنه تعالى هو المتفرد بالأمر في يوم الدين، وأنه ليس لغيره من الأمر شيء.
والمتوسل بنبي من الأنبياء، أو عالم من العلماء، هو لا يعتقد أن لمن توسل به مشاركة بالله -جل جلاله - في أمر يوم الدين.
ومن اعتقد هذا لعبد من العباد، سواء كان نبيا، أو غير نبي، فهو في ضلال مبين.
وهكذا الاستدلال على منع التوسل بقوله: ليس لك من الأمر شيء [آل عمران: 128]، وبقوله: قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا ، فإن هاتين الآيتين مصرحتان [ ص: 176 ] بأنه ليس لرسول الله صلى الله عليه وسلم- من أمر الله شيء، وأنه لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، فكيف يملك لغيره؟.
وليس فيهما منع التوسل به، أو بغيره من الأنبياء، أو الأولياء، أو العلماء.
وقد وأرشد الخلق أن يسألوه ذلك، ويطلبوه منه، وقال له: جعل الله لرسوله صلى الله عليه وسلم- المقام المحمود مقام الشفاعة العظمى، «سل تعط، واشفع تشفع».
وقيد ذلك في كتابه العزيز بأن الشفاعة لا تكون إلا بإذنه، ولا تكون إلا لمن ارتضى.
وهكذا الاستدلال على منع التوسل بقوله صلى الله عليه وسلم- لما نزل قوله تعالى: وأنذر عشيرتك الأقربين [الشعراء: 214]: «يا فلان بن فلان! لا أملك لك من الله شيئا، يا فلانة بنت فلان! لا أملك لك من الله شيئا».
فإن هذا ليس فيه إلا التصريح بأنه صلى الله عليه وسلم- لا يستطيع نفع من أراد الله ضره، ولا ضر من أراد الله نفعه، وأنه لا يملك لأحد من قرابته فضلا عن غيرهم شيئا من الله.
وهذا معلوم لكل مسلم، وليس فيه أنه لا يتوسل به إلى الله، فإن ذلك هوطلب الأمر ممن له الأمر والنهي.
وإنما أراد الطالب أن يقدم بين يدي طلبته ما يكون سببا للإجابة ممن هوالمنفرد بالعطاء والمنع، وهو مالك يوم الدين.
قال: والحاصل: أن طلب الحوائج من الأحياء جائز إذا كانوا يقدرون [ ص: 177 ] عليها، ومن ذلك الدعاء ؛ فإنه يجوز استمداده من كل مسلم، بل يحسن ذلك ؛ وكذلك الشفاعة من أهلها الذين ورد الشرع بأنهم يشفعون.
ولكن ينبغي أن يعلم أن دعاء من يدعو له لا ينفع إلا بإذن الله وإرادته ومشيئته، وكذلك شفاعة من شفع لا يكون إلا بإذن الله، كما ورد بذلك القرآن الكريم، فهذا تقييد للمطلق لا ينبغي العدول عنه بحال. انتهى كلام الشوكاني رحمه الله.
والذي تحصل من كلامه هذا: أن فيما ورد به الشرع، وفعله سلف هذه الأمة وأئمتها جائز لا شرك فيه .. التوسل بالصلحاء من الأنبياء والأولياء والعلماء
ولا منافاة بين هذا وبين ما تقدم من الكلام على الشفاعة في هذا الكتاب ،ومنع الاستشفاع بالله عند أحد من مخلوقاته.
فكل مسألة من هذه المسائل واقعة موقعها، وإنما ينشأ الخلاف بخلط بعض منها ببعضها.
وقد ورد في بعض أدعية النبوة: «اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك».
وأحوط الأقوال، وأصح الأفعال في هذا الباب: القصر على المورد، [ ص: 178 ] [ ص: 179 ] [ ص: 180 ] [ ص: 181 ] [ ص: 182 ] [ ص: 183 ] إن صح؛ لأن أكثر الخلق لا يعلمون ما يدخل في هذا من الشرك.
كيف والشرك أخفي من دبيب النمل، كما ورد بذلك الحديث.
[ ص: 184 ]