محبة الله تستلزم محبة طاعته
ومحبة الله تعالى تستلزم محبة طاعته؛ فإنه يحب من عبده أن يطيعه، والمحب يحب ما يحبه محبوبه ولا بد.
ومن لوازم المحبة: محبة أهل طاعته؛ كمحبة أنبيائه، ورسله، والصالحين من عباده.
فمحبة ما يحبه الله، ومن يحبه الله، وعمل يحبه الله، من كمال الإيمان؛ كما في حديث ابن عباس الآتي قريبا إن شاء الله تعالى.
وفي هذا الحديث جمع ضمير الله وضمير رسوله صلى الله عليه وسلم وفيه قولان:
أحدهما: أنه ثنى الضمير هنا إيماء إلى أن المعتبر هو المجموع المركب من المحبتين، لا كل واحدة، فإنها وحدها لا تعتبر، كيف، ومن قال: لا إله إلا الله، ولم يقل: محمد رسول الله لا يصح إيمانه؟! لأن الإيمان عبارة عن مجموع الشهادتين، وإلا فيكون الخلق كله موحدا.
فإن منكري الإله قليلون جدا؛ كما أن منكري الرسل كثيرون جدا.
ولا طريق إلى محبة الله، وإلى الاعتراف به إلا بهداية الرسول صلى الله عليه وسلم.
فوجب أن يجمع بينهما في القول والعمل، ويأتي بمحبتهما جميعا، بصميم الجنان، وناطق البيان، حتى يصح له كمال الإسلام وتمام الإيمان.
والثاني: أن حديث الخطيب الذي نهى فيه عن الجمع، كان أولا في زمن لم يكن الإيمان راسخا في قلوب أكثرهم، فنهى عن ذلك حسما لمادة الاشتراك والإشراك.
وقيل: نهى على طريقة الأدب، وأجاز هذا على طريق الجواز.
[ ص: 352 ] وقيل: هذا ورد على الأصل، وحديث الخطيب يؤول، فيكون هذا أرجح، والأول أولى.
وفي قوله: «كما يكره أن يقذف في النار» إشارة إلى أن الأمرين عنده يتساويان.
وفيه رد على الغلاة الذين يتوهمون أن صدور الذنب من العبد نقص في حقه مطلقا، وإن تاب منه.
والصواب: أنه إن لم يتب كان نقصا، وإن تاب فلا، وفي الحديث: ولهذا كان المهاجرون والأنصار -رضي الله عنهم- أفضل هذه الأمة وأشرفها، مع كونهم في الأصل كفارا مشركين عاصين، فهداهم الله إلى الإسلام، ووضع عنهم إصر الآثام، والإسلام يجب ما قبله، وكذلك الهجرة؛ كما صح الحديث بذلك. «التائب من الذنب كمن لا ذنب له»؛
وعن -رضي الله عنهما- قال: «من أحب في الله، وأبغض في الله، ووالى في الله، وعادى في الله، فإنما تنال ولاية الله بذلك، ولن يجد عبد طعم الإيمان، وإن كثرت صلاته وصومه حتى يكون كذلك، وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا، وذلك لا يجدي على أهله شيئا» رواه ابن عباس موقوفا. ابن جرير
وأخرج ابن أبي شيبة، الجملة الأولى منه فقط، ويؤيده الحديث المرفوع الآتي قريبا. وابن أبي حاتم
والمعنى: من أحب أهل الإيمان بالله وطاعته من أجل ذلك، وأبغض من كفر بالله وأشرك به، وفسق عن طاعته لأجل ما فعلوه مما أسخط الله، وإن كانوا أقرب الناس إليه؛ كما قال تعالى : لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله [المجادلة: 22] الآية.
ومن لوازم محبة العبد لله أن من أحب الله أحب فيه، ووالى أولياءه، وعادى أهل معصيته، وأبغضهم، وجاهد أعداءه، ونصر أنصاره.
[ ص: 353 ] وكلما قويت محبة العبد لله في قلبه قويت هذه الأعمال المرتبة عليها [و]: يكمل توحيد العبد، ويكون ضعفها على قدر ضعف محبة العبد لربه، فمقل، ومستكثر، ومحروم، ولا تنال ولاية الله إلا بتوليه لعبده.
ولأحمد، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: والطبراني، «لا يجد العبد صريح الإيمان حتى يحب في الله، ويبغض في الله، فإذا أحب لله وأبغض لله فقد استحق الولاية لله».
وفي حديث آخر: أخرجه «أوثق عرا الإيمان، الحب في الله، والبغض في الله عز وجل» الطبراني.
ومعنى الحديث: لا يحصل لعبد ذوق، ولذة، وسرور وإن كثرت عبادته حتى يحب في الله، ويبغض فيه سبحانه، ويعادي فيه ويوالي فيه.
وفي حديث أبي أمامة مرفوعا: رواه «من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله فقد استكمل الإيمان» ورواه أبو داود، عن الترمذي معاذ بن أنس مع تقديم وتأخير، وفيه: «فقد استكمل إيمانه».
وعن قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أبي ذر، رواه «أفضل الأعمال الحب في الله، والبغض في الله» أبو داود.
وعن -رضي الله عنه-: معاذ بن جبل والحديث رواه أحمد. سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن أفضل الإيمان، قال: «أن تحب لله، وتبغض لله، وتعمل لسانك في ذكر الله»
قال في «فتح المجيد»: قوله: وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا ... إلخ، معناه: لا ينفعهم، بل يضرهم، كما قال تعالى: الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين [الزخرف: 67] فإذا كانت البلوى قد عمت بهذا، في زمن -رضي الله عنهما- في خير القرون، فما زاد الأمر بعد ذلك إلا شدة، حتى وقعت الموالاة على الشرك والبدع، والفسوق والعصيان. ابن عباس
[ ص: 354 ] وقد وقع ما أخبر به صلى الله عليه وسلم- بقوله: «بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا».
وقد كان الصحابة -رضي الله عنهم- من المهاجرين والأنصار، في عهد نبيهم -صلى الله عليه وسلم- وعهد أبي بكر يؤثر بعضهم بعضا على نفسه؛ محبة في الله، وتقربا إليه؛ كما قال تعالى: وعمر، ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة [الحشر: 9].
وعن -رضي الله عنهما- قال: «لقد رأيتنا على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وما منا أحد يرى أنه أحق بديناره ودرهمه من أخيه المسلم» رواه ابن عمر ابن ماجه.
وقال ابن عباس في قوله تعالى: وتقطعت بهم الأسباب [البقرة: 166]: هي المودة، رواه عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم؛ وصححه. والحاكم
والمراد: المودة التي كانت في الدنيا، فتبرأ بعضهم من بعض يوم القيامة؛ كما قال تعالى: وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم [العنكبوت: 25].
قال ابن القيم -رحمه الله- في قوله سبحانه: إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا إلخ [البقرة: 167]: هؤلاء المتبعون كانوا على الهدى، وأتباعهم ادعوا أنهم على طريقهم ومنهاجهم، وهم مخالفون لهم، سالكون غير طريقهم، ويزعمون أن محبتهم لهم، تنفعهم مع مخالفتهم، فيتبرؤون منهم يوم القيامة، فإنهم اتخذوا أولياء من دون الله.
وهذا حال كل من اتخذ من دون الله وليجة وأولياء، يوالي لهم، ويعادي لهم، ويرضى لهم، ويغضب لهم.
فإن أعماله كلها باطلة، يراها يوم القيامة حسرة عليه مع كثرتها وشدة تعبه فيها ونصبه؛ إذ لم يجرد موالاته ومعاداته، وحبه وبغضه، وانتصاره وإيثاره لله ورسوله.
[ ص: 355 ] فأبطل الله -عز وجل- ذلك العمل كله، وقطع تلك الأسباب، فينقطع يوم القيامة كل سبب، ووصلة، ووسيلة، ومودة كانت لغير الله، ولا يبقى إلا السبب الواصل بين العبد وربه، وهو حظه من الهجرة إليه وإلى رسوله، وتجريده عبادته وحده ولوازمها من الحب والبغض، والعطاء والمنع، والموالاة والمعاداة، والتقريب والإبعاد، وتجريد متابعة رسوله -صلى الله عليه وسلم- تجريدا محضا بريئا من شوائب الالتفات إلى غيره، فضلا عن الشرك بينه وبين غيره، فضلا عن تقديم قول غيره عليه.
فهذا السبب هو الذي ينقطع بصاحبه، هذه هي النسبة التي بين العبد وبين ربه، وهي نسبة العبودية المحضة، وهي أخته التي يجول ما يجول وإليها مرجعه، ولا تتحقق إلا بتجريده متابعة الرسل؛ إذ هذه العبودية إنما جاءت على ألسنتهم، وما عرفت إلا بهم، ولا سبيل إليها إلا بمتابعتهم.
وقد قال تعالى: وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا [الفرقان: 23] فهذه هي الأعمال التي كانت في الدنيا على غير سنة رسله وطريقتهم، ولغير وجهه، يجعلها الله هباء منثورا لا ينتفع منها صاحبها بشيء أصلا.
وهذا من أعظم الحسرات على العبد يوم القيامة، أن يرى سعيه ضائعا، وقد سعد أهل السعي النافع بسعيهم. انتهى حاصله.
وحاصل الكلام في هذا المقام: أن محبة الله جالبة للتوحيد والإخلاص، ومحبة ما سواه داعية إلى الشرك واتخاذ الأنداد.
ومن أحب غيره، فقد قرب من الإشراك على قدر المحبة والوداد، إن كثيرا فكثيرا، وإن قليلا فقليلا.
وليس في الوجود شيء يساوى في الفضيلة والمنفعة بمحبة الله؛ ولهذا رتب صلى الله عليه وسلم عليها ما لم يرتبه على غيرها.