وقال تعالى : فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك أي : يجعلوك حكما بينهم في جميع أمورهم ، لا يحكمون أحدا غيرك فيما شجر بينهم ; أي : اختلف واختلط ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت الحرج : الضيق ، وقيل : الشك ، وقيل : الإثم . والأول أظهر ويسلموا تسليما [النساء : 65] .
والظاهر أن هذا شامل لكل فرد في كل حكم ، كما يؤيد ذلك قوله : وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله [النساء : 64] فلا يختص بالمقصودين بقوله : يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت [النساء : 60] .
وهذا في حياته صلى الله عليه وسلم ، وأما بعد مماته ، فتحكيم الكتاب والسنة : تحكيم الحاكم بما فيها من الأئمة والقضاة ، إذا كان لا يحكم بالرأي المجرد ، مع وجود الدليل في القرآن والحديث ، أو في أحدهما ، وكان يعقل ما يرد عليه من حجج الكتاب والسنة; بأن يكون عالما باللغة العربية وما يتعلق بها ، من نحو وتصريف ، ومعان ، وبيان ، عارفا بما يحتاج إليه من علم الأصول ، بصيرا بالسنة المطهرة ، مميزا بين الصحيح وما يلحق به ، والضعيف وما يلحق به ، منصفا ، غير متعصب لمذهب من المذاهب ، ولا لنحلة من النحل ، ورعا لا يحيف ولا يميل في حكمه .
فمن كان هكذا ، فهو قائم مقام النبوة ، مترجم عنها ، حاكم بأحكامها . وفي هذا الوعيد الشديد ما تقشعر له الجلود ، وترجف له الأفئدة .
فإنه أولا : ، بحرف النفي بأنهم لا يؤمنون . أقسم سبحانه بنفسه مؤكدا لهذا القسم
[ ص: 19 ] فنفى عنهم الإيمان الذي هو رأس مال صالحي عباد الله ، حتى حصل لهم غاية هي تحكيم رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ثم لم يكتف بذلك حتى قال : ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ، فضم إلى التحكيم أمرا آخر هو عدم وجود حرج في صدورهم ، فلا يكون مجرد التحكيم والإذعان باللسان كافيا ، حتى يكون من صميم القلب ، عن رضاء خاطر ، واطمئنان خلد ، وانثلاج قلب ، وطيبة نفس .
ثم لم يكتف بهذا كله ، بل ضم إليه قوله : ويسلموا ، أي : يذعنوا وينقادوا ظاهرا وباطنا .
ثم لم يكتف بذلك ، بل ضم إليه المصدر المؤكد ، فقال : تسليما ، فلا يثبت الإيمان لعبد حتى يقع منه التحكيم ، ثم لا يجد الحرج في صدره بما قضى عليه ، ويسلم لحكمه وشرعه تسليما لا يخالطه رد ، ولا تشوبه مخالفة .
وهذا يسير لمن وفقه الله بإخلاص الدين ، وإنه لكبير على المنافقين .
وقد ذهب هذا التحكيم من بين الأمة منذ زمن طويل عريض; لقرب أشراط الساعة منها .
فلا ترى أحدا يحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء من الأمور المختلفة فيما بينه وبين غيره .
بل قصوى جهدهم في دفع بعضهم دليل بعض في المسائل الاختلافية ، والأحكام الفروعية والأصولية : الاستدلال بأقوال الأحبار والرهبان ، والأئمة ، وأتباعهم الذين يقلدون هؤلاء إياهم ، والاحتجاج بالآراء والأهواء المدونة في كتب الفروع والفقهيات ، وجر الروايات منها .
وهي لا دليل عليها من كتاب ولا سنة ، بل هي مجرد اجتهادات من أهلها وخيالات ، واستخراجات ، وقياسات لا تستند إلى نص من الله ولا من رسوله ، ولم ينزل الله بها من سلطان .
[ ص: 20 ] قال الإمام فخر الدين الرازي المتكلم الواحد في «تفسيره الكبير» : ظاهر الآية يدل على أنه لا يجوز تخصيص النص بالقياس; لأنه يدل على أنه يجب متابعة قوله وحكمه على الإطلاق . وأنه لا يجوز العدول عنه إلى غيره .
ومثل هذه المبالغة المذكورة في هذه الآية ، قلما يوجد في شيء من التكاليف ، وذلك يوجب تقديم عموم القرآن والخبر على حكم القياس .
وقوله : ثم لا يجدوا إلى آخره ، مشعر بذلك; لأنه متى خطر بباله قياس ، يفضي إلى نقيض مدلول النص ، فهناك يحصل الحرج في النفس .
فبين تعالى أنه لا يكمل إيمانه إلا بعد ألا يلتفت إلى الحرج ، ويسلم النص (2) ، تسليما كليا .
قال في «فتح البيان» : وهذا الكلام قوي حسن ، لمن أنصف . انتهى .
ثم ذكر حديث الأنصاري في شراج الحرة : قصة ، وأنها سبب نزول الآية ، وحديث: رد رجل خصومته إلى «الزبير» بعد قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها ، وقتل عمر إياه ، وكان منافقا . عمر
وهذا يدل على أن من النفاقات ، مناف للإيمان ، سالب له ، نعوذ بالله منه . التخلف والتحرج عن حكم الرسول صلى الله عليه وسلم ، نفاق
فدع كل قول دون قول محمد فما آمن في دينه كمخاطر
والآيات الشريفة في هذا الباب كثيرة جدا .