قال بشر بن السري السقطي: نظرت في العلم، فإذا هو الحديث والرأي.
فوجدت في الحديث ذكر النبيين والمرسلين، وذكر الموت وما بعده، وذكر ربوبية الحق وألوهيته وجلالته وعظمته، وذكر الجنة والنار، وذكر الحلال والحرام، والحث على صلة الأرحام، وإفشاء السلام، وإطعام الطعام، وجماع الخير.
ونظرت في الرأي، فإذا فيه المكر والخديعة، والجهل والشحناء، واستقصاء الحق، والمماكسة في الدين، واستعمال الحيل، والبعث على قطع الأرحام، والتجري على الحرام.
وروي مثل هذا الكلام عن يونس بن أسلم أيضا.
ذكر بسنده عن ابن عبد البر محمد بن جعفر الإخباري، قال: أنشدنا -رضي الله عنهم-: عبد الله بن أحمد بن حنبل
دين النبي محمد أخبار نعم المطية للفتى الآثار لا ترغبن عن الحديث وأهله
فالرأي ليل والحديث نهار ولربما جهل الفتى أثر الهدى
والشمس بازغة لها أنوار
ولبعض أهل العلم:
العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس خلف فيه
ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين النصوص وبين رأي سفيه
كلا ولا نصب الخلاف جهالة بين الرسول وبين رأي فقيه
كلا ولا رد النصوص تعمدا حذرا من التجسيم والتشبيه
حاشا النصوص من الذي رميت به من فرقة التعطيل والتمويه
[ ص: 270 ] قال ابن عبد البر -رحمه الله-: وقلت أنا:
عقالة ذي نصح وذات فوائد إذا من ذوي الألباب كان استماعها
عليك بآثار النبي فإنه من أفضل أعمال الرشاد اتباعها
انتهى حاصل ما في «الإيقاظ».
ومثل هذه الأبيات أشعار كثيرة لجماعة من أهل العلم قديما وحديثا، ذكرها صاحب كتاب «الحطة في ذكر الصحاح الستة» فيه، وفي كتاب «الجنة بالأسوة الحسنة بالسنة».
وكلها تدل على أن المقصود الأصلي في الشرع، والمراد الحقيقي للشارع: أن تعمل الأمة بالكتاب والسنة، ولا تلتفت إلى غيرهما، سواء كان رأيا، أو ظنا، أو تقليدا لأحد من أهل المذاهب.
وعلى أن الرأي والتقليد ليسا من العلم والفقه في شيء.
وأن أصحاب الرأي وتقليدات الرجال، هم السفهاء الجهال في نفس الأمر، وإن ظنوا بهم أنهم علماء، أو ظن بهم ذلك بعض الحمقاء، فإن الاعتبار بالمسميات لا بالأسماء، وإن الأشياء لها حقائق، لا يعتد بها إلا بها.
فهؤلاء الفقهاء أصحاب العصبية والهوى، وأرباب الاجتهاد والآراء، ليسوا على أثارة من علم، ولا من الفقه السني في ورد ولا صدر، وإن ادعوا أنهم مالكون لأزمة الفقه المصطلح عليه اليوم في أولئك القوم، أو مؤلفون فيه متونا وشروحا لكتب الفروع المذهبية الحادثة بعد عصر الصحابة والتابعين؛ لأن الرأي ليس بمستحق للتدوين.
وإنما جمعت هذه الفتاوى الفقهية من كثرة الآراء واختلافها، مع ضم الأهواء، وطبقت تلك الدفاتر العالم من الأرض إلى السماء، ومع ذلك لا تجد أبدا أحدا أحاط بجميع ما فيها من الخرافات، أو جمعها عنده للعلم بكل ما فيها من الترهات.
[ ص: 271 ] وأما القرآن والحديث، فهذا كتاب الله بين يدي كل طفل وحالم، في دفتي مصحف فقط، وهذه السنة دواوينها هي الصحاح الستة، مع الموطأ مثلا؛ لأن مدار الأحكام على هذه غالبا. وهي أصح الكتب في هذا العلم الشريف، ونخبة النخبة من مؤلفات هذا الفن المنيف.
والغالب أن العارف بها وعالمها، لا يحتاج معها إلى كتاب آخر في إيثار العمل بالسنة الصحيحة المنتقاة، المتلقاة بالقبول في عصابة العلماء الأعلام الفحول.
حدود الديانات وسائر العلوم وبيان الفرق بين التقليد والاتباع
وأما حدود الديانات وسائر العلوم المتصرفة بحسب تصرف الحاجات، فقال ابن عبد البر: حد العلم عند المتكلمين في هذا المعنى هو ما استيقنته وتبينته، وكل من استيقن شيئا وتبينه، فقد علمه وعرفه.
وعلى هذا من لم يستيقن الشيء، وقال به تقليدا، فإنه في الحقيقة لم يعلم، بل جهل ما علم به غيره.
والتقليد عند جماعة العلماء غير الاتباع: هو أن تتبع القائل على ما بان لك من فضل قوله، وصحة روايته، بعد معرفة الدليل، وترك القال والقيل.
والتقليد: أن تقول بقوله وأنت لا تعرفه، ولا وجه للقول به، وتأبى ما سواه.
أو تبين لك خطؤه، فقلدته، ومشيت وراءه مخافة خلافه، وإنك قد بان لك فساد قوله؛ لكونه مخالفا لقول الله تعالى، أو قول رسوله الثابت بالسند الصحيح عنه، المرفوع إليه، المتصل به، وهذا محرم القول به في دين الله.
ويا لله العجب من أحلام هؤلاء السفهاء المسمين بالأعلام! لا يتركون تقليد [ ص: 272 ] الأموات مخافة خلافهم، مع أنهم من آحاد الأمة، وهم متعبدون، لا معبودون، ومتبعون لا متبعون، ويذرون اتباع السنة والكتاب، ولا يخافون خلاف نبيهم ورسولهم -صلى الله عليه وسلم- مع أنه سيد الأمة، ومطاع الأئمة.
والأمتي -وإن بلغ في العلم والعمل أي مبلغ- لا يقدر أن يبلغ أحدا من أصحابه في رتبته، فضلا عن سيد المرسلين.
فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا، وبأي حديث بعده يؤمنون؟ اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون، واهد المقلدين، فإنهم قوم جاهلون، ونعوذ بالله أن أكون من الجاهلين، وما أنا من المتكلفين.