[ ص: 297 ] حكم الترافع إلى القضاة المقلدين
فإن قلت: إذا كان التخاصم ببلدة، لا يوجد فيها مجتهد، هل يجوز للخصمين الترافع إلى من بها من القضاة المقلدين، والمفتين الجامدين على تقليد المجتهدين؟
قلت: إذا كان يمكن وصولهما إلى قاض مجتهد، لم يجز للمقلد أن يقضي ويفتي بينهما، بل يرشدهما إلى القاضي المجتهد، والمفتي المتبع، أو يرفع القضية إليه ليحكم فيها بما أنزل الله، أو بما أراه الله.
فإن كان الوصول إلى القاضي المجتهد والمفتي المتبع متعذرا، أو متعسرا، فلا بأس بأن يتولى ذلك القاضي والمفتي المقلدان فصل خصوماتهما، لكن يجب عليهما ألا يدعيا علم ما ليس من شأنهما.
فلا يقولان: صح أو لم يصح شرعا، بل ينبغي أن يقولا: قال إمامهما كذا، ويعرفان الخصمين أنهما لم يحكما بينهما إلا بما قاله الإمام الفلاني. وفي الحقيقة هو محكم، لا حاكم، وقد ثبت التحكيم في هذه الشريعة المطهرة كما جاء ذلك في القرآن الكريم في شأن الزوجين وأنه يوكل الأمر إلى حكم من أهل الزوج وحكم من أهل المرأة.
وكما في قوله تعالى: يحكم به ذوا عدل منكم [المائدة: 95] وكما وقع في زمن النبوة والصحابة غير قضية، ومن لم يجد ماء تيمم بالتراب، والعور خير من العمى.
ولا يغتر العاقل بما يزخرفه المقلدون للمذاهب، ويموهون به على العامة؛ من تعظيم شأن من يقلدونه، ونشر فضائله ومناقبه، والموازنة بينه وبين من يبلغ رتبة الاجتهاد في عصر هؤلاء المقلدين.
فإن هذا خروج عن محل النزاع، ومغالطة قبيحة.
[ ص: 298 ] وما أسرع نفاقها عند العامة؛ لأن أفهامهم قاصرة عن إدراك الحقائق، والحق عندهم يعرف بالرجال، وللأموات في صدورهم جلالة وفخامة. وطباع المقلدين قريبة من طبائعهم، فهم إلى قبول أقوالهم أقرب منهم إلى قبول أقوال العلماء المجتهدين؛ لأن المجتهدين قد باينوا العامة، وارتفعوا إلى رتبة تضيق أذهان العامة على تصورها.
فإذا قال المقلد مثلا: أنا أحكم بمذهب الشافعي، وهو أعلم من هذا المجتهد المعاصر لي، وأعرف بالحق منه، كانت العامة إلى تصديق هذه المقالة والإذعان لها أسرع من السيل المنحدر، وتنفعل أذهانهم بذلك أكمل انفعال.
فإذا قال المجتهد مجيبا على ذلك المقلد: إن محل النزاع هو الموازنة بيني وبينك، لا بيني وبين فإني أعرف العدل والحق، وما أنزل الله، وأجتهد رأيي إذا لم أجد في كتاب الله وسنة رسوله نصا، وأنت لا تعرف شيئا من ذلك، ولا تقدر على أن تجتهد رأيك؛ إذ لا رأي لك ولا اجتهاد؛ لأن اجتهاد الرأي هو إرجاع الحكم إلى الكتاب والسنة بالمقايسة، أو بعلاقة يسوغها الاجتهاد، وأنت لا تعرف كتابا ولا سنة، فضلا عن أن تعرف كيفية الإرجاع إليهما بوجوه مقبولة، كان هذا الجواب الذي أجابه المجتهد مع كونه حقا بحتا بعيدا عن أن يفهمه العامة، أو تذعن لصاحبه. الشافعي،
ولهذا ترى -في هذه الأزمان الغريبة الشأن- ما ينقله المقلد عن إمامه أوقع في النفوس مما ينقله المجتهد من كتاب الله وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإن جاء من ذلك بالكثير الطيب.
وقد رأينا وسمعنا ما لا يشك فيه أنه من علامات القيامة، على أن كثيرا من المقلدين قد ينقل في حكمه أو فتواه عن مقلد مثله قد صار تحت أطباق الثرى، وإمامه منه براء، فيجول ويصول، وينسب ذلك إلى مذهب الإمام، وينسب [ ص: 299 ] من يأتي بما يخالفه من كتاب الله أو سنة إلى الابتداع، ومخالفة المذهب، ومباينة أهل العلم، وهو لو ارتفعت رتبته عن هذا الحضيض قليلا لعلم أنه المخالف لإمامه، لا الموافق له.
ومن كان بهذه المنزلة فهو صاحب الجهل المركب، الذي لا يستحق أن يخاطب.
بل على كل صاحب علم أن يرفع نفسه عن مجادلته، ويصون شأنه عن مقالته، إلا أن يطلب منه أن يعلمه مما علمه الله. وبالله التوفيق. انتهى ما في «فتح البيان».
وقد وجدت صاحب هذا التفسير عمل بما قال فيه؛ من رفع النفس عن مجالدة المتفقهة الجهلة، وصان شأنه عن مقاولة الجدلية، ولله الحمد.
وبالجملة: فالآية الكريمة دلت دلالة واضحة -مع أختيها- على أن من لا يحكم بكتاب الله تعالى، وبسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- التي هي تلو القرآن الكريم، وصنوه، فهو محكوم عليه بالكفر والظلم والفسوق، ولا أعظم تحذيرا من ذلك، ولا أكبر وعيدا مما هنالك.
فليتفكر المؤمن المسلم في شأنه، والشحيح بإيمانه في أن القضاة والمفتين هل يقضون ويفتون له أو عليه بما أنزل الله من الآيات والأحاديث، وبما أراهم الله تعالى من أدلة الكتاب ونصوص السنة، أم يفتون ويقضون له أو عليه بما لم ينزل الله به سلطانا، من كتب الآراء وفتاوى الأهواء تقليدا للرجال، وتأييدا للمذهب والمقال، جهلا منهم بواضح البرهان من القرآن، وظاهر الدليل من سنة سيد ولد عدنان، أو عنادا منهم للأصول المؤصلة المنزلة، واقتصارا منهم على الفروع المستحدثة المفتعلة؟.
وهل ذلك إلا مشاققة الله والرسول، وعدم تلقي ما فيهما بالقبول؟ ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا [النساء: 115].
قال بعض أهل العلم: أكد هذا التأكيد، وكرر هذا التكرير في موضع واحد [ ص: 300 ] من الكتاب العزيز؛ لعظم مفسدة الحاكم بغير ما أنزله الله، وعموم مضرته للحكام، وشمول بليته للأمة من الخاص والعام. انتهى.
اللهم ارحم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ووفقهم للعمل بما تحبه وترضاه.
وقال تعالى: قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون [الأعراف: 33] فيه دلالة على تحريم الأمور المذكورة، ونهي عن الشرك به سبحانه بالحكم بما لم ينزل، وعدم الحكم بما أنزل، وعن التقول على الله جهلا .
ومفهومه: وجوب الاجتناب عن الأشياء المشار إليها، وإخلاص التوحيد، والأمر بموجب الكتاب والسنة، وأن إضافة حكم من الأحكام إلى الله تعالى المتولد من الرأي المجرد تقول عليه سبحانه.
وقد أنكر تعالى على من حاج في دينه بما ليس له به علم، فقال: ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون [آل عمران: 66].
وإنك إذا نظرت فيما حاج به أهل الرأي وأهل الضلالة، وأهل البدع، وأجابوا به على أهل السنة والجماعة، وجدت محاجتهم على غير علم وفهم.
وجل ما يأتون به عند المحاجة والمناظرة هي أقوال سخيفة، وتقارير ليس عليها أثارة من علم، يستحيي منها أهل العلم في كل عصر وقطر، وهم يظنون أنهم يحسنون صنعا، ويفحمون خصما.
وهو -في الحقيقة- لا يستحق الخطاب ولا الجواب؛ فإن الجواب على الجهلة المقلدة، والفرقة الجاهلة، هو السكوت عنهم، وعدم مخاطبتهم بالكلام والسلام، والأقلام والإقدام.
[ ص: 301 ] وإن ردوا على أصحاب الحق ألف مرة، وألفوا فيه مئة تأليف، فما كل أحد من الناس يستحق المكالمة والمناظرة.
وقال تعالى: ادفع بالتي هي أحسن [فصلت: 34] وفي الحديث: أو كما قال. «من ترك المراء وهو محق، بني له بيت في ربض الجنة»
وقال سبحانه: ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع قليل ولهم عذاب أليم [النحل: 116 ، 117] نهى في هذه الآية عن أن يقول أحد من أهل العلم: هذا حلال، وهذا حرام، لما حرمه، ولما لم يحرمه الله ولا رسوله -صلى الله عليه وسلم- تنصيصا، والأصل في النهي التحريم.
وهذه الفتاوى العراض الطوال، قد اشتملت على ذلك. وسببه عدم عرض المجتهدات، والأقيسة الباطلات على كتاب الله وسنة رسوله، ولو عرضوها عليهما، لبان لهم أن فيها ما يخالف ظاهر القرآن، وصريح السنة، وفيها ما لا يحتاج إليه إنسان، وفيها أغلوطات كثيرة، وآراء لا يأتي عليها الحصر، وتفريعات لا تقع في الخارج.
وما يقع فيه من الحوادث الجديدة والكوائن الحاضرة، أو المستقبلة، فليس فيها حكمها.
وإذا عرضها المستفتي على المفتي، أو المستقضي على القاضي طلبا للحكم، يفتي أهل الفتوى، ويقضي أصحاب القضاء بما يظهر لهم من الأقيسة على المسائل الفرعية الآتية من جهة أكابرهم، ولا يفحصون فيها كتابا ولا سنة أبدا.
فانظر في هذا البناء الفاسد على الفاسد، واعتبر بحال هؤلاء.
ولو ردوها إلى الله وإلى الرسول، وطلبوا حكمها من الأدلة الخاصة، والنصوص العامة، لوجدوا عندهما ما يشفي العليل، ويروي الغليل.
فإنه لا يفوت شيء من الأشياء عن كتاب الله سبحانه وحديث رسوله صلى الله عليه وسلم، [ ص: 302 ] وهما كافلان لحكم جميع الحوادث الحالية والاستقبالية، وإنما على أهل العلم النظر فيهما، والتمسك بهما.
وقد نص سبحانه في هذه الآية على أن هذا الوصف من لسانهم، افتراء الكذب على الله، وأن الكاذب غير مفلح، ومتاع الدنيا التي لأجلها ارتكبوا هذا الوصف، وجاؤوا بحكم الحلال والحرام، والجواز وعدم الجواز على شيء قليل، فان عن قريب، ثم هم يعذبون على هذا الافتراء عذابا وجيعا.
وفي هذا الوعيد ما لا يقادر قدره.
والآية دليل على رد التقليد، وعلى أنه يوجب العقاب على المقلدة؛ لأن هذا الوصف لا يوجد إلا فيه وفيهم، وأن المتبعين لا تصف ألسنتهم هذا الكذب؛ لأنهم إنما يقولون بما قاله الله، أو قاله رسوله، فلا وصف لهم أصلا.