ويزيد ذلك إيضاحا ما نقله في «الجنة بالأسوة الحسنة بالسنة» عن حجة الإسلام في «إحياء علوم الدين»: أن الغزالي وتبديلها ونقلها بالأغراض الفاسدة إلى معان غير ما أرادها السلف الصالح والقرن الأول، وهي خمسة ألفاظ: الفقه، والعلم، والتوحيد، والتذكير، والحكمة. فهذه أسامي محمودة، والمتصف بها أرباب المناصب في الدين. ولكنها نقلت الآن إلى معان مذمومة، فصارت القلوب تنفر عن مذمة من يتصف بمعانيها؛ لشيوع إطلاق هذه الأسامي عليهم. منشأ التباس العلوم المذمومة بالعلوم الشرعية تحريف الأسامي المحمودة،
قال: الأول: الفقه، تصرفوا فيه بالتخصيص لا بالنقل والتحويل؛ إذ خصصوه بمعرفة الفروع الغريبة في الفتاوى، والوقوف على دقائق عللها، واستكثار الكلام فيها، وحفظ المقالات المتعلقة بها. فمن كان أشد تعمقا فيها، أو أكثر اشتغالا بها، يقال: هو الأفقه.
وكان اسم الفقه في العصر الأول مطلقا على علم الآخرة، ومعرفة دقائق آفات النفوس، ومفسدات الأعمال، وقوة الإحاطة بحقارة الدنيا، وشدة التطلع إلى نعم الآخرة، واستيلاء الخوف على القلب. ويدلك عليه قوله -عز وجل-: ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم [التوبة: 122]، وعلى ما يحصل به الإنذار والتخويف.
هذا هو الفقه، دون تفريعات الطلاق، والعتاق، واللعان، والسلم، والإجارة، فذلك لا يحصل به إنذار ولا تخويف، بل التجرد له على الدوام يقسي القلب، وينزع الخشية، كما نشاهد الآن من المتجردين له.
وقال تعالى: لهم قلوب لا يفقهون بها [الأعراف: 179]، وأراد معاني الإيمان دون الفتاوى. [ ص: 516 ] ولعمري! إن الفقه والفهم في اللغة، اسمان بمعنى واحد، وإنما يتكلم في عادة الاستعمال به قديما وحديثا، إلى قوله: ولست أقول: إن اسم الفقه لم يكن متناولا للفتوى، ولكن كان بطريق العموم أو الاستتباع، فثار -من هذا التخصيص- تلبيس بعض الناس على التجرد له، والتوصل به إلى طلب الولاية والقضاء والجاه والمال. انتهى كلامه.
ثم ذكر سائر الألفاظ، وبين حال تبديلها وتحريفها، وهي في أصل الكتاب مبسوطة، فراجعه.
قلت: أهل القرآن في الصدر الأول كان يقال لهم: «القراء»، وعلماء السنة يقال لهم: «الفقهاء». وكذلك لفظ «التوحيد» كان يطلق على الإيمان بما في القرآن من أصول الدين، ثم جعل عبارة عن معرفة صنائع الكلام، ومعرفة طريق المجادلة والمكابرة والإحاطة بمناقضات الخصوم، والقدرة على التشدق فيها؛ بتكثير الأسئلة، وإثارة الشبهات، وتقويم الباطلات المخالفة للسنة والكتاب.
وهكذا لفظ «الذكر» كان يطلق على دراسة الكتاب والحديث، وبيان معانيهما للناس الطالبين والسامعين، ثم صار عبارة عن القصص والأشعار، وحكايات الأموات والشطح والطامات، وتلفيق البدعات.
وكذلك لفظ «الحكمة» كان يراد بها حديث النبي-صلى الله عليه وسلم- الذي هو تلو القرآن في كونها دليلا مستقلا، وحكما مقضيا، ونصا قاطعا، ومتبعا جليا، وحجة نيرة، ومعرفة فناء الدنيا وبقاء الآخرة، وما يرشد إلى ذلك من الآيات والأحاديث. ثم جعل بمعنى: معرفة علوم الأوائل، وفنون الكفار من بلاد يونان وغيرها، وقيل للمشتغل بها هو حكيم، أو فيلسوف، أو فلسفي، أو منطقي.
فانظر إلى ماذا نقل، وقس بقية الألفاظ على ذلك، واحترز عن غرة تلبيسات العلماء السوء؛ فإن شرهم على الدين أعظم من شر الشياطين. [ ص: 517 ] وإليك الخيرة في أن تنظر لنفسك فتقتدي بالسلف، أو تتدلى بحبل الغرور، فتتشبه بالخلف. فكل ما ارتضاه سلف هذه الأمة وأئمتها من العلوم: علوم القرآن والحديث، قد اندرس وطمس، وما أكب عليه الناس منذ زمن طويل وجعلوه علامة للفضيلة وأمارة للكمال، ووجها لحصول الجاه والمال، وشهرة بين العوام والجهال، ومصيدة لهم لأكل باطل الأموال، فأكثره -بل كله- بدعة ومحدث، وجهل وضلال. وقد أخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بوجود هذه الحال في هذه الأمة، وقال: وفي خبر آخر: بدأ الإسلام غريبا، وسيعود كما بدأ، فطوبى للغرباء»، قيل: ومن الغرباء؟ قال: «الذين يصلحون ما أفسده الناس من سنتي». هم المتمسكون بما أنتم عليه اليوم».
وقد صارت تلك العلوم غريبة، وأهلها غرباء؛ بحيث يمقت ذاكرها، والعالم بها، والمنتمي إليها، والمعول عليها في القضايا والرزايا، ويرد عليه كل جاهل لئيم، بكل قول فاسد، وعقل ناقص، وفهم كاسد في خرافاته المؤلفة، ويزعم أنه غلب، وأن خصمه غلب. وهذا من أشراط الساعة، وآثار القيامة التي قد اقترب زمانها: وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون .
ستعلم ليلى أي دين تداينت وأي غريم في التقاضي غريمها
بوقت صبح شود، مجور روز معلومت كه باكه باختهء درشب ديجور