بيان حكم النذر للأموات
فإن قلت: هذه النذور والنحائر، ما حكمها؟ قلت: يجب تعريف من أخرج النذر بأنه إضاعة للمال، وأنه لا ينفعه ما أخرجه، ولا يدفع عنه ضررا. وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: فيجب رده إليه. وأما القابض للنذر، فإنه حرام عليه قبضه؛ لقوله تعالى: إن النذر لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به مال البخيل»، ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل [البقرة: 188]، ولأنه تقرير للناذر على شركه وقبح اعتقاده، ولأنه رضي بذلك.
ولا يخفى حكم الراضي بالشرك، فهو مثل «حلوان الكاهن»، و «مهر البغي»، ولأنه تدليس على الناذر، وإيهام له أن الولي ينفعه ويضره. [ ص: 529 ] فأي تقرير لمنكر أعظم من قبض النذر على الميت؟ وأي تدليس أعظم؟ وأي رضا بالمعصية العظمى أبلغ من هذا؟ وأي تصيير للمنكر معروفا أعجب من هذا؟! وما كانت النذور للأصنام والأوثان إلا على هذا الأسلوب وهذه الأفعال، وهي التي بعث الله الرسل لإزالتها وإمحائها وإتلافها والنهي عنها.
والتحقيق أن لإبليس وجنوده من الجن والإنس، أعظم العناية في إضلال العباد. وقد مكنه الله من الدخول إلى الأبدان، والوسوسة في الصدور، والتقام القلب بخرطومه. فكذلك يدخل في أجواف الأصنام، ويلقي الكلام في أسماع الأفدام، ومثله يصنعه في عقائد أهل القبور. فإن الله قد أذن له أن يجلب على بني آدم بخيله ورجله، وأن يشاركهم في الأموال والأولاد.
وثبت في الأحاديث أن بالأمر الذي يحدثه الله -عز وجل- فتلقيه إلى الكهان، وهم الذين يخبرون بالمغيبات، ويزيدون فيما يلقيه الشيطان من عند أنفسهم، مائة كذبة، ويقصدون شياطين الإنس من سدنة القبور بذلك البهتان والزور، فيقولون للقبوريين: إنه الولي فعل وفعل، ويرغبونهم فيه، ويحذرونهم منه. وترى العامة ملوك الأقطار، وولاة الأمصار معززين لذلك، ويولون العمال لقبض النذور. وقد يتولاها من يحسنون الظن فيه من عالم أو قاض، أو مفت، أو شيخ [ ص: 530 ] صوفي، فيتم التدليس لإبليس، وتقر عينه بهذا التلبيس. الشياطين تسترق السمع
فإن قلت: هذا أمر عم البلاد، واجتمعت عليه سكان الأغوار والأنجاد، وطبق الأرض شرقا وغربا، ويمنا وشاما، وجنوبا، بحيث لا بلدة من بلاد الإسلام، ولا قرية من قراه، إلا وفيها قبور ومشاهد، وأحياء يعتقدونها ويعظمونها، وينذرون لها، ويهتفون بأسمائها، ويحلفون بها، ويطوفون بفناء القبر ويسرجونه، ويلقون عليه الأوراد والرياحين، ويلبسونه الثياب، ويصنعون كل أمر يقدرون عليه من العبادة لها وما في معناها، والتعظيم، والخضوع، والخشوع، والتذلل، والافتقار إليه، بل هذه مساجد المسلمين غالبها لا يخلو عن قبر أو قرب منه، أو مشهد يقصده المصلون في أوقات الصلاة، يصنعون ما ذكر، أو بعضا مما ذكر، ولا يسع عقل عاقل أن هذا منكر يبلغ إلى ما ذكرت من الشناعة والقباحة، ويسكت عنه علماء الإسلام الذين ثبتت لهم الوطاءة في جميع جهات من الدنيا.
قلت: إن أردت الإنصاف، وتركت متابعة الأسلاف، وعلمت أن الحق ما قام عليه الدليل، لا ما اتفق عليه العوام جيلا بعد جيل، وقبيلا بعد قبيل، فاعلم أن هذه الأمور التي ندندن حول إنكارها، ونسعى في هدم مناورها، صادرة من العامة، الذين إسلامهم تقليد الآباء بلا دليل، ومتابعة لهم من غير فرق بين دني ومثيل، ينشأ الواحد فيهم، فيجد أهل قريته وأصحاب بلدته، يلقنونه في الطفولية أن يهتف باسم من يعتقدونه، ويراهم عليه، ويعظمون، ويرحلون به إلى محل قبره، ويلطخونه بترابه، ويجعلونه طائفا على قبره، فينشأ وقد قر في قلبه عظمة ما يعظمونه، وقد صار أعظم الأشياء عنده من يعتقدونه. فنشأ على هذا الصغير، وشاخ عليه الكبير، لا يسمعون من أحد عليهم من نكير، نرى من يتسمى بالعلم، ويدعي الفضل، وينتصب للقضاء، والفتيا، [ ص: 531 ] والتدريس، والولاية والمعرفة، والإمارة والحكومة، معظما لما يعظمونه، مكرما لما يكرمونه، قابضا للنذور، وآكلا لما ينحر على القبور، فيظن أن هذا دين الإسلام، وأنه رأس الدين والسنة.
ولا يخفى على أحد يتأهل للنظر، ويعرف بارقة من علم الكتاب والسنة والأثر، أن سكوت العالم والعالم على وقوع منكر، ليس دليلا على جواز ذلك المنكر.