الخضر وأنه حي ممتد الحياة إلى آخر الدنيا بطلان القول بحياة
والصواب الذي عليه المحققون أنه ميت، وأنه لم يدرك الإسلام، ولو كان موجودا في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- لوجب عليه أن يؤمن به، ويجاهد معه، كما أوجب الله ذلك عليه وعلى غيره، ولكان يكون فيمكة والمدينة، ولكان يكون حضوره مع الصحابة للجهاد معهم وإعانتهم على الدين أولى به من حضوره عند [ ص: 35 ] قوم كفار ليرقع لهم سفينتهم، ولم يكن مختفيا عن خير أمة أخرجت للناس، وهو قد كان بين المشركين، ولم يحتجب عنهم.
ثم ليس للمسلمين به وأمثاله حاجة، لا في دينهم، ولا في دنياهم; فإن دينهم أخذوه عن الرسول النبي الأمي -صلى الله عليه وسلم- الذي علمهم الكتاب والحكمة، وقال لهم نبيهم: موسى حيا، ثم اتبعتموه وتركتموني، لضللتم". "لو كان
وعيسى ابن مريم -عليه السلام- إذا نزل من السماء، إنما يحكم فيهم بكتاب ربهم، وسنة نبيهم.
فأي حاجة لهم مع هذا إلى الخضر وغيره؟
والنبي -صلى الله عليه وسلم- قد أخبرهم بنزول عيسى من السماء، وحضوره مع المسلمين، وقال: "كيف تهلك أمة أنا أولها، وعيسى في آخرها؟".
فإذا كان النبيان الكريمان، اللذان هما مع إبراهيم وموسى ونوح أفضل الرسل، ومحمد سيد ولد آدم، ولم يحتجبوا عن هذه الأمة لأعوانهم، ولا خواصهم، فكيف يحتجب عنهم من ليس مثلهم؟!!
وإذا كان الخضر حيا دائما، فكيف لم يذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك قط، ولا أخبر به أمته ولا خلفاؤه الراشدون؟!
وقول القائل: إنه نقيب الأولياء، فيقال له: من ولاه النقابة؟ وأفضل الأولياء أصحاب محمد، وليس فيهم الخضر.
وغاية ما يحكى في هذا الباب من الحكايات، بعضها كذب، وبعضها مبني على ظن رجال، مثل: شخص رأى رجلا ظن أنه الخضر، وقال: إنه الخضر، كما أن الرافضة ترى شخصا تظن أنه الإمام المنتظر المعصوم، أو تدعي ذلك.
وروى الإمام أنه قال -وقد ذكر له أحمد بن حنبل: الخضر-: من أحالك على غائب فما أنصفك، وما ألقى هذا على ألسنة الناس إلا الشيطان!
وقد بسطنا الكلام على هذا في غير هذا الموضع.
[ ص: 36 ] وأما إن قصد القائل بقوله: القطب الغوث، الفرد الجامع: أنه رجل يكون أفضل أهل زمانه، فهذا ممكن.
لكن من الممكن أن يكون في الزمان متساويان في الفضل، وثلاثة، وأربعة، وقد تكون جماعة، بعضهم أفضل من بعض من وجه، وتلك الوجوه إما متقاربة وإما متساوية.
ثم إذا كان في الزمان رجل هو أفضل أهل الزمان، فتسميته بالقطب الغوث الجامع بدعة ما أنزل الله بها من سلطان، ولا تكلم بهذا أحد من سلف الأمة وأئمتها.
وما زال السلف يظنون في بعض الناس أنه أفضل، أو من أفضل أهل زمانه، ولا يطلقون عليه هذه الأسماء التي ما أنزل الله بها من سلطان، لا سيما من المنتحلين بهذا الاسم، من يدعي أن هؤلاء الأقطاب هو -رضي الله عنهم- ثم تسلسل الأمر إلى ما دونه، إلى بعض مشايخ المتأخرين، وهذا لا على مذهب الحسن بن علي بن أبي طالب أهل السنة، ولا على مذهب الرافضة.
فأين أبو بكر، وعمر، وعثمان، والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار؟ وعلي،
عند وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- كان قد قارب بين التمييز والاحتلام. والحسن
وقد حكي عن بعض الأكابر من الشيوخ المنتحلين لهذا: أن القطب الفرد الجامع ينطبق علمه على علم الله تعالى، وقدرته على قدرة الله تعالى، فيعلم ما يعلم الله، ويقدر ما يقدر عليه الله.
وزعم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان كذلك، وأن هذا انتقل عنه إلى الحسن، وتسلسل إلى شيخه.
فبينت أن هذا كفر صريح، وجهل قبيح، وأن دعوى هذا في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كفر، دع ما سواه، وقد قال تعالى: قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك [الأنعام: 50] وقال تعالى: [ ص: 37 ] قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء [الأعراف: 188] الآية، وقال تعالى: يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا الآية، وقال تعالى: يقولون هل لنا من الأمر من شيء قل إن الأمر كله لله [آل عمران: 154] وقال تعالى: ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم فينقلبوا خائبين ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون [آل عمران: 127 128] وقال تعالى: إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين [القصص: 56].
والله -سبحانه وتعالى- أمرنا أن نطيع رسوله، فقال: من يطع الرسول فقد أطاع الله وأمرنا أن نتبعه فقال تعالى: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله .
وأمرنا أن نعزره، ونوقره، وننصره، وجعل له من الحقوق ما بينه في كتابه، وسنة رسوله، حتى أوجب علينا أن يكون أحب الناس إلينا من أنفسنا وأهلينا فقال تعالى: النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم [الأحزاب: 6] وقال تعالى: قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره [التوبة: 24].
وقال صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده! لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده، والناس أجمعين".
-رضي الله عنه-: يا رسول الله! لأنت أحب إلي من كل شيء إلا نفسي، فقال: "لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك" قال: فلأنت أحب إلي من نفسي، قال: "الآن يا عمر، عمر". وقال له
وقال: "ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: 1- من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، 2- ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، 3- ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار".
وقد بين في كتابه حقوقه التي لا تصلح إلا له، وحقوق رسله، وحقوق [ ص: 38 ] المؤمنين بعضهم على بعض، كما بسطنا الكلام على ذلك في غير هذا الموضع، وذلك مثل قوله تعالى: ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون فالطاعة لله والرسول، والخشية والتقوى لله وحده.
وقال تعالى: ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون [التوبة: 59] فالإيتاء لله والرسول، والرغبة لله وحده.
وقال تعالى: وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ؛ لأن الحلال ما أحله الله ورسوله، والحرام ما حرمه الله ورسوله.
وأما التحسب فهو لله وحده، كما قال: وقالوا حسبنا الله ولم يقل: حسبنا الله ورسوله.
وقال تعالى: يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين [الأنفال: 64] أي: يكفيك الله، ويكفي من اتبعك من المؤمنين، وهذا هو الصواب المقطوع به في هذه الآية؛ ولهذا كانت كلمة إبراهيم ومحمد -عليهما الصلاة والسلام- حسبنا الله ونعم الوكيل .
والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم، وصلى الله على خير خلقه سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.