[ ص: 27 ] قلة اجتماع الأمانة والقوة في الناس
اجتماع القوة والأمانة في الناس قليل ، ولهذا كان رضي الله عنه يقول : اللهم أشكو إليك جلد الفاجر ، وعجز الثقة ، عمر بن الخطاب . فالواجب في كل ولاية ، الأصلح بحسبها
فإذا تعين لتلك الولاية : وأقلهما ضررا فيها ، فيقدم في إمارة الحرب الرجل القوي الشجاع ، وإن كان فيه فجور فيها ، على الرجل الضعيف العاجز ، وإن كان أمينا ، كما سئل الإمام رجلان أحدهما أعظم أمانة ، والآخر أعظم قوة ، قدم أنفعهما : عن أحمد فقال : أما الفاجر القوي ، فقوته للمسلمين ، وفجوره على نفسه ، وأما الصالح الضعيف فصلاحه ، لنفسه ، وضعفه على المسلمين ، فيغزي مع القوي الفاجر . الرجلين يكونان أميرين في الغزو ، وأحدهما قوي فاجر والآخر صالح ضعيف ، مع أيهما يغزو ؟
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم { } : إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر
وروي { } . فإذا لم يكن فاجرا ، كان أولى بإمارة الحرب مما هو أصلح منه في الدين ، إذا لم يسد مسده . [ ص: 28 ] بأقوام لا خلاق لهم
ولهذا { كان النبي صلى الله عليه وسلم ، يستعمل على الحرب ، منذ أسلم ، وقال : إن خالد بن الوليد لسيف سله الله على المشركين خالدا } مع أنه أحيانا كان قد يعمل ما ينكره النبي صلى الله عليه وسلم ، حتى إنه - مرة - رفع يديه إلى السماء وقال : { خالد } . اللهم إني أبرأ إليك مما فعل
لما أرسله إلى خزيمة فقتلهم ، وأخذ أموالهم بنوع شبهة ، ولم يكن يجوز ذلك ، وأنكره عليه بعض من معه من الصحابة ، حتى وداهم النبي صلى الله عليه وسلم وضمن [ ص: 29 ] أموالهم ، ومع هذا فما زال يقدمه في إمارة الحرب ; لأنه كان أصلح في هذا الباب من غيره ، وفعل ما فعل بنوع تأويل .
وكان 1584 أبو ذر رضي الله عنه ، أصلح منه في الأمانة والصدق ، ومع هذا فقال له النبي صلى الله عليه وسلم { 1584 أبا ذر إني أراك ضعيفا ، وإني أحب لك ما أحب لنفسي : لا تأمرن على اثنين ، ولا تولين مال يتيم } . رواه يا . مسلم
نهى 1584 أبا ذر عن الإمارة والولاية ; لأنه رآه ضعيفا .
مع أنه قد روي : { أبي ذر } ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء ، أصدق لهجة من
{ وأمر النبي صلى الله عليه وسلم مرة في غزوة ذات السلاسل استعطافا لأقاربه الذين بعثه إليهم ، على من هم أفضل منه [ ص: 30 ] وأمر عمرو بن العاص ، لأجل ثأر أبيه أسامة بن زيد } .
ولذلك كان يستعمل الرجل لمصلحة ، مع أنه قد كان يكون مع الأمير من هو أفضل منه ، في العلم والإيمان .
وهكذا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنه ما زال يستعمل أبو بكر في حرب أهل الردة ، وفي فتوح خالدا العراق والشام ، وبدت منه هفوات كان له فيها تأويل ، وقد ذكر له عنه أنه كان له فيها هوى ، فلم يعزله من أجلها ، بل عتبه عليها لرجحان المصلحة على المفسدة ، في بقائه ، وأن غيره لم يكن يقوم مقامه ; لأن المتولي الكبير ، إذا كان خلقه يميل إلى اللين ، فينبغي أن يكون خلق نائبه يميل إلى الشدة ، وإذا كان خلقه يميل إلى الشدة ، فينبغي أن يكون خلق نائبه يميل إلى اللين ، ليعتدل الأمر
ولهذا كان رضي الله عنه ، يؤثر استنابة أبو بكر الصديق ، وكان خالد رضي الله عنه ، يؤثر عزل عمر بن الخطاب ، واستنابة خالد رضي الله عنه ; لأن أبي عبيدة بن الجراح كان شديدا ، خالدا ، كعمر بن الخطاب وأبا عبيدة كان لينا ، وكان الأصلح لكل منهما أن يولي من ولاه ، ليكون أمره معتدلا ، ويكون بذلك من خلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الذي هو معتدل ، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم : { كأبي بكر } . أنا نبي الرحمة أنا نبي الملحمة
وقال : { أنا الضحوك القتال } .
وأمته [ ص: 31 ] وسط قال تعالى فيهم : { أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا } وقال تعالى : { أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين } .
ولهذا لما تولى أبو بكر رضي الله عنهما صارا كاملين في الولاية ، واعتدل منهما ما كان ينسبان فيه إلى أحد الطرفين في حياة النبي صلى الله عليه وسلم من لين أحدهما وشدة الآخر ، حتى قال فيهما النبي صلى الله عليه وسلم : { وعمر أبي بكر وعمر } . اقتدوا بالذين من بعدي
وظهر من من شجاعة القلب ، في قتال أهل الردة وغيرهم ، ما برز به علي أبي بكر وسائر الصحابة ، رضي الله عنهم أجمعين . [ ص: 32 ] وعمر
وإن كانت الحاجة في الولاية إلى الأمانة أشد ، قدم الأمين مثل حفظ الأموال ونحوها ، فأما استخراجها وحفظها ، فلا بد فيه من قوة وأمانة ، فيولى عليها شاد قوي يستخرجها بقوته ، وكاتب أمين يحفظها بخبرته وأمانته .
وكذلك في إمارة الحرب ، إذا أمر الأمير بمشورة أولي العلم والدين جمع بين المصلحتين وهكذا في سائر ، جمع بين عدد ، فلا بد من ترجيح الأصلح ، أو تعدد المولى ، إذا لم تقع الكفاية بواحد تام . الولايات إذا لم تتم المصلحة برجل واحد
الأكفأ ، فإن كان أحدهما أعلم ، والآخر أورع ، قدم - فيما قد يظهر حكمه ، ويخاف فيه الهوى الأورع ، وفيما يدق حكمه ، ويخاف فيه الاشتباه : الأعلم . ويقدم في ولاية القضاء ، الأعلم الأورع
ففي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : { إن الله يحب البصر النافذ ، عند ورود الشبهات ، ويحب العقل عند حلول الشهوات } [ ص: 33 ]
ويقدمان على الأكفأ ، إن كان القاضي مؤيدا تأييدا تاما ، من جهة والي الحرب ، أو العامة ويقدم الأكفأ . إن كان القضاء يحتاج إلى قوة ، وإعانة القاضي ، أكثر من حاجة إلى مزيد العلم والعلم ، فإن القاضي المطلق ، يحتاج أن يكون عالما عادلا قادرا
بل وكذلك كل وال للمسلمين ، فأي صفة من هذه الصفات نقصت ، ظهر الخلل بسببه ، والكفاءة : إما بقهر ورهبة وإما بإحسان ورغبة ، وفي الحقيقة فلا بد منهما .
وسئل بعض العلماء : إذا فقال : إن كانت الحاجة إلى الدين أكثر لغلبة الفساد ، قدم الدين وإن كانت الحاجة إلى الدين أكثر لخفاء الحكومات قدم العالم . لم يوجد من يولى القضاء ، إلا عالم فاسق أو جاهل دين فأيهما يقدم ؟
وأكثر العلماء يقدمون ذا الدين فإن الأئمة متفقون على أنه لا بد في المتولي من أن يكون عدلا أهلا للشهادة واختلفوا في اشتراط العلم هل يجب أن يكون مجتهدا ، أو يجوز أن يكون مقلدا ، أو الواجب تولية الأمثل فالأمثل كيفما تيسر ؟ على ثلاثة أقوال وبسط الكلام على ذلك في غير هذا الموضع
ومع أنه يجوز ، فيجب مع ذلك السعي في إصلاح الأحوال ، حتى يكمل في الناس ما لا بد لهم منه ، من أمور الولايات والإمارات ونحوها ، كما يجب على [ ص: 34 ] المعسر السعي في وفاء دينه ، وإن كان في الحال لا يطلب منه إلا ما يقدر عليه ، وكما يجب الاستعداد للجهاد ، بإعداد القوة ورباط الخيل في وقت سقوطه للعجز ، فإن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب بخلاف الاستطاعة في الحج ونحوها فإنه لا يجب تحصيلها ; لأن الوجوب هناك لا يتم إلا بها . تولية غير الأهل للضرورة ، إذا كان أصلح الموجود