الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                        باب في تضمين الأكرياء ما هلك من سببهم

                                                                                                                                                                                        وقال مالك في من اكترى على حمل دهن أو متاع فعثرت الدابة فانكسرت القوارير أو انقطعت الحبال ففسد المتاع، قال مالك: لا شيء على المكري إن لم يغر من عثار أو ضعف حبل.

                                                                                                                                                                                        ولا يخلو هلاك المكترى عليه من أن يكون من غير سبب المكري. أو من سببه عمدا أو خطأ من الوجه المأذون له فيه أو من غيره، أو لأنه غر بفعل أو قول، فإن لم يكن من سببه لم يضمن، وإن كان من سببه عمدا ضمن، وكذلك إذا كان خطأ من غير الوجه المأذون فيه، وإن كان من الوجه المأذون فيه، كان فيه قولان: هل يضمن أم لا؟ وإن كان من غرور بفعل ضمن. وإن كان غرورا بقول كان فيه قولان: هل يضمن أم لا؟ وهذا عقد هذا الأصل. [ ص: 5198 ]

                                                                                                                                                                                        فإن لم يغر من عثار لم يضمن؛ للحديث: "جرح العجماء جبار". وكذلك ما أتى من ضعف الحبال، أو خفي ذلك على الجمال كالعفن بحدث، فإن علم وربط بها وسيرها ضمن; لأنه وإن كان ربها حاضرا معاينا فهو غرور بفعل.

                                                                                                                                                                                        وإن سلم الحبال للمكتري فربط بها، وكان المكتري هو الذي شدها - كان غرورا بقول، وإن سيرها الكري بعد ربط المكتري كان تعديا، وإن ربطها الكري وسيرها المكتري، كان الأصل فيه تعديا بفعل، والهلاك فيه غرور بقول.

                                                                                                                                                                                        وأرى أن يضمن في جميع هذه الوجوه، وإن كان بعضها أقوى وأبين من بعض، ولصاحب الأحمال أن يغرمه ذلك بالموضع الذي حمل منه، أو [ ص: 5199 ] بالموضع الذي هلك فيه، فيأخذه بأول تعديه أو بآخره.

                                                                                                                                                                                        وقال ابن القاسم فيمن حمل دهنا من مصر إلى فلسطين فانكسر بالعريش، وكان قد غر من الدواب وقيمته بالعريش ضعف قيمته بالفسطاط: فله أن يضمنه قيمته بالعريش. وقال غيره: قيمته بالفسطاط إن أراد.

                                                                                                                                                                                        والجوابان يرجعان إلى أنه بالخيار. فقوله: (إن أراد) تخيير منه، وقول ابن القاسم بالعريش; لأنه قال: قيمته هناك ضعف قيمته بالفسطاط. والشأن أن الإنسان يختار الأكثر ليس أنه يمنع من قيمته بالفسطاط، ثم لا يخلو أن يكونا دخلا على البلاغ أو على الإجارة، فإن كان على البلاغ كان له أن يغرمه بالفسطاط; لأن جميع المسافة الماضية فيه والمستقبل كشيء واحد، لا يستحق شيئا إلا بالوصول إلى فلسطين، فكأنه لم يسلم شيئا مما كوري عليه، وله أن يغرمه قيمته بالعريش. بخلاف من غصب شيئا ونقله; لأن الغاصب نقله لنفسه، وهذا نقله لصاحبه، وهو يسقط التعدي إلى آخر وقت هلك فيه.

                                                                                                                                                                                        وإن كان على الإجارة كان له أن يغرمه بالعريش; لأنه يقول: أنا أرضى أن يكون كل يوم مضى كالتسليم الصحيح فيدفع عنه الأجرة، ويأخذه بآخر [ ص: 5200 ] التعدي، وله أن يقول: لا يستحق عن تلك الأيام أجرة; لأنه ليس بتسليم صحيح; لأن كل يوم مضى يدك باقية بالتعدي ليتمادى به إلى منهل آخر، فله أن يغرمه قيمته بالفسطاط، فإن كانت قيمته بالموضعين سواء غرمه قيمته بالفسطاط ليسقط عنه الكراء.

                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية