الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
والمعاملة التي كلف العبد العاقل البالغ العمل بها ثلاثة : اعتقاد وفعل وترك فإذا بلغ الرجل العاقل بالاحتلام أو السن ضحوة نهار مثلا فأول واجب عليه تعلم كلمتي الشهادة ، وفهم معناهما وهو قول : لا إله إلا الله محمد رسول الله وليس يجب عليه أن يحصل كشف ذلك لنفسه بالنظر والبحث وتحرير الأدلة بل يكفيه أن يصدق به ويعتقده جزما من غير اختلاج ريب واضطراب نفس وذلك قد يحصل بمجرد التقليد والسماع من غير بحث ولا برهان إذ اكتفى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجلاف العرب بالتصديق والإقرار من غير تعلم دليل .

فإذا فعل ذلك فقد أدى واجب الوقت ، وكان العلم الذي هو فرض عين عليه في الوقت تعلم الكلمتين وفهمهما وليس يلزمه أمر وراء هذا في الوقت ، بدليل أنه لو مات عقيب ذلك مات مطيعا لله عز وجل غير عاص له وإنما يجب غير ذلك بعوارض تعرض وليس ذلك ضروريا في حق كل شخص ، بل يتصور الانفكاك وتلك العوارض إما أن تكون في الفعل وإما في الترك وإما في الاعتقاد .

أما الفعل فبأن يعيش من ضحوة نهاره إلى وقت الظهر فيتجدد عليه بدخول وقت الظهر تعلم الطهارة والصلاة فإن كان صحيحا وكان بحيث لو صبر إلى وقت زوال الشمس لم يتمكن من تمام التعلم والعمل في الوقت بل يخرج الوقت لو اشتغل بالتعلم فلا يبعد أن يقال : الظاهر بقاؤه فيجب عليه تقديم التعلم على الوقت .

ويحتمل أن يقال : وجوب العلم الذي هو شرط العمل بعد وجوب العمل فلا يجب قبل الزوال وهكذا في بقية الصلوات فإن عاش إلى رمضان تجدد بسببه وجوب تعلم الصوم وهو أن وقته من الصبح إلى غروب الشمس ، وأن الواجب فيه النية والإمساك عن الأكل والشرب والوقاع وأن ذلك يتمادى إلى رؤية الهلال أو شاهدين فإن تجدد له مال أو كان له مال عند بلوغه لزمه تعلم ما يجب عليه من الزكاة ولكن لا يلزمه في الحال إنما يلزمه عند تمام الحول من وقت الإسلام فإن لم يملك إلا الإبل لم يلزمه إلا تعلم زكاة الإبل وكذلك في سائر الأصناف فإذا دخل في أشهر الحج فلا يلزمه المبادرة إلى علم الحج مع أن فعله على التراخي فلا يكون تعلمه على الفور ، ولكن ينبغي لعلماء الإسلام أن ينبهوه على أن الحج فرض على التراخي على كل من ملك الزاد والراحلة إذا كان هو مالكا حتى ربما يرى الحزم لنفسه في المبادرة فعند ذلك إذا عزم عليه لزمه تعلم كيفية الحج ، ولم يلزمه إلا تعلم أركانه وواجباته دون نوافله ، فإن فعل ذلك نفل فعلمه أيضا نفل ، فلا يكون تعلمه فرض عين ، وفي تحريم السكوت عن التنبيه على وجوب أصل الحج في الحال نظر يليق بالفقه وهكذا التدريج في علم سائر الأفعال التي هي فرض عين .

وأما التروك فيجب تعلم علم ذلك بحسب ما يتجدد من الحال ، وذلك يختلف بحال الشخص إذ لا يجب على الأبكم تعلم ما يحرم من الكلام ، ولا على الأعمى تعلم ما يحرم من النظر ، ولا على البدوي تعلم ما يحرم الجلوس فيه من المساكن ، فذلك أيضا واجب بحسب ما يقتضيه الحال ، فما يعلم أنه ينفك عنه لا يجب تعلمه ، وما هو ملابس له يجب تنبيهه عليه كما لو كان عند الإسلام لابسا للحرير أو جالسا في الغصب أو ناظرا إلى غير ذي محرم فيجب تعريفه بذلك وما ليس ملابسا له ولكنه بصدد التعرض له على القرب كالأكل والشرب فيجب تعليمه حتى إذا كان في بلد يتعاطى فيه شرب الخمر ، وأكل لحم الخنزير ، فيجب تعليمه ذلك وتنبيهه عليه ، وما وجب تعليمه وجب عليه تعلمه .

وأما الاعتقادات وأعمال القلوب فيجب علمها بحسب الخواطر فإن خطر له شك في المعاني التي تدل عليها كلمتا الشهادة فيجب عليه تعلم ما يتوصل به إلى إزالة الشك فإن لم يخطر له ذلك ومات قبل أن يعتقد أن كلام الله سبحانه قديم وأنه مرئي وأنه ليس محلا للحوادث إلى غير ذلك مما يذكر في المعتقدات فقد مات على الإسلام إجماعا ولكن هذه الخواطر الموجبة للاعتقادات بعضها يخطر بالطبع وبعضها يخطر بالسماع من أهل البلد ، فإن كان في بلد شاع فيه الكلام وتناطق الناس بالبدع فينبغي أن يصان في أول بلوغه عنها بتلقين الحق فإنه لو ألقى إليه الباطل لوجبت إزالته عن قلبه وربما عسر ذلك كما أنه لو كان هذا المسلم تاجرا وقد شاع في البلد معاملة الربا وجب عليه تعلم الحذر من الربا وهذا هو الحق في العلم الذي هو فرض عين ومعناه : العلم بكيفية العمل الواجب

التالي السابق


(والمعاملة التي كلف العبد العاقل بها ثلاثة:

اعتقاد) هو عقد القلب على الشيء، وإثباته في نفسه، وسيأتي ذكره في الباب السادس .

(وفعل) قال الراغب: الفعل التأثير من جهة مؤثر، وهو عام لما كان بإيجاده أو بغيره، ولما كان بعلم أو بغيره، وبقصد أو بغيره، ولما من الإنسان والحيوان، والعمل والصنع أخص منه .

(وترك) : هو رفض الشيء قصدا واختيارا، أو قهرا واضطرارا، وهذا التقسيم فيه تصريح أن الترك غير الفعل، كما صرح به غير واحد .

وقال ابن السبكي في الطبقات: لقد وقفت على ثلاثة أدلة تدل على أن الكف فعل، لم أر أحدا عثر عليها:

أحدها: قوله تعالى: وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا وتقريره أن الاتخاذ افتعال من الأخذ، وهو التناول، والمهجور المتروك، فصار المعنى: تناولوه متروكا وفعلوا تركه، وهذا واضح على جعل اتخذ في الآية متعديا إلى مفعولين .

والثاني: حديث أبي جحيفة "أي الأعمال أحب إلى الله عز وجل؟ قال: فسكتوا، فلم يجبه أحد، قال: حفظ اللسان".

والثالث: قول قائل من الأنصار والنبي -صلى الله عليه وسلم- يعمل بنفسه في بناء مسجده: لقد قعدنا والنبي يعمل: لذاك هو العمل المضلل. اهـ .

(فإذا بلغ الرجل) فيه المجاز بالأول، وفي معناه المرأة [ ص: 136 ] وسيأتي الاختلاف فيه (العاقل) لأن المجنون لا تتوجه عليه الأحكام حتى يبرأ؛ لما روى ابن ماجه من حديث عائشة مرفوعا: "رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصغير حتى يكبر، وعن المجنون حتى يعقل أو يفيق".

(بالاحتلام أو السن ضحوة نهار مثلا) قال التقي السبكي في إبراز الحكم: أجمع العلماء على أن الاحتلام يحصل به البلوغ في حق الرجل، ومن الدليل على ذلك قول الله تعالى: وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا والمراد بالاحتلام خروج المني، سواء كان في اليقظة أم في النوم بحلم أو غير حلم، ولما كان في الغالب لا يحصل إلا في النوم بحلم أطلق عليه الحلم والاحتلام .

ويكون الخروج بغير حلم مدلولا عليه باللفظ إن اختلف اللفظ على الأقسام الثلاثة؛ لوجود المعنى في جميعها، أو لا يكون مدلولا عليه، ولكن الحكم ثابت فيه إجماعا لمشاركة في المعنى لما دل اللفظ عليه، ولو وجد الاحتلام من غير خروج مني فلا حكم له .

ثم قالوا: إن وقت إمكان خروج المني باستكمال تسع سنين، ولا عبرة بما ينفصل قبل ذلك، وقبل مضي الإمكان بستة أشهر من السنة العاشرة، وقبل تمام العاشرة .

ثم قال: واختلف أصحابنا في بلوغ النساء بالاحتلام، والصحيح أنه بلوغ في حقهن كالرجال، وفيه وجه أنه لا يوجب البلوغ فيهن لأنه نادر فيهن ساقط العبرة .

وأما البلوغ بالسن فعن أبي حنيفة أن بلوغ الغلام بثمان عشرة سنة، وفي الجارية عنه روايتان، إحداهما كذلك، والثانية لسبع عشرة .

وقال الشافعي: إن البلوغ فيهما بخمس عشرة، واختلف أصحابه في ضبطها، فالمذهب المشهور أن المعتبر تمام السنة الخامسة عشرة، وفي وجه مشهور من طريق المراوزة أنه بالطعن فيها، وفي وجه غريب أنه بمضي ستة أشهر منها، واستندوا فيه إلى حديثين، أحدهما عن ابن عمر قال: "عرضت على النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني، وعرضت يوم الخندق، وأنا ابن خمس عشرة فأجازني" متفق عليه، قال نافع: فحدثت بهذا الحديث عمر بن عبد العزيز في خلافته فقال: إن هذا الحد بين الصغير والكبير .

وقيل: إن عمر بن عبد العزيز أمر بذلك بعد، وكان يجعل من دون خمس عشرة في الذرية، وكتب إلى عماله أن افرضوا لابن خمس عشرة، وما كان سوى ذلك فألحقوه بالعيال .

والمخالفون اعتذروا عن هذا الحديث بأن الإجازة في القتال منوطة بإطاقته والقدرة عليه، وإن إجازة النبي -صلى الله عليه وسلم- لابن عمر في الخمس عشرة لأنه رآه مطيقا للقتال، ولم يكن مطيقا له قبلها، لا لأنه أراد الحكم على البلوغ وعدمه، ولعمري إن هذا العذر يلوح، ولكن يرده أن جماعة مع ابن عمر اتفق لهم ذلك وأسنانهم متساوية، وكان فيمن رد من يتشوق للقتال، ويظهر من نفسه الجلادة والقوة .

وذكر ابن عمر السن في المقامين دليل على أنه فهم أن ذلك منوط بالسن، ويعضد ذلك تفهم عمر بن عبد العزيز ومن وافقه، والأمر فيه محتمل، وأمر عمر بن عبد العزيز بجعل من دون خمس عشرة في الذرية ظاهر لما قدمناه، وكذلك سحب حكم عدم البلوغ على ما قبل تمامها، فلا بلوغ قبل استكمال خمس عشرة سنة بغير الاحتلام، وإنما النظر في البلوغ بتمامها، والإجازة في القتال لا تدل على البلوغ؛ لأن الصبي القادر على القتال يجوز له الحضور، وإن لم يجب عليه .

وقد ذكر الرافعي في هذا الحديث زيادة، وهي قول ابن عمر في المدة الأولى: "ولم يرني بلغت" وفي الخندق: "ورآني قد بلغت" وهذه إن صحت كافية في الاستدلال مع إمكان أن يجعلها الخصم على بلوغ القتال، ولكن الظاهر خلافه .

وبعض هذه الزيادة رواه البيهقي، وهو قول ابن عمر في يوم أحد: "ولم يرني بلغت" ورواه ابن جرير عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر. وفي رواية جماعة عن عبد الله: "فاستصغرني" .

وأما الحديث الثاني: فرواه الدارقطني على ما نقله إمام الحرمين أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا استكمل المولود خمس عشرة سنة كتب ما له وما عليه، وأقيمت عليه الحدود" وهذا الحديث نص في المقصود؛ فإن الذي دلت عليه السير أن ابن عمر يوم الخندق كان في ست عشرة سنة، لكن لم يحسب تلك الزيادة، فقال: وأنا ابن خمس عشرة؛ لأنه كان أكملها وزاد عليها، فإجازة النبي -صلى الله عليه وسلم- له يحتمل أن تكون لقدرته على القتال مع صباه، ويحتمل أن تكون لاستكماله خمس عشرة، ويحتمل أن تكون لبلوغه قبل ذلك أو بعده .

وأما هذا الحديث فنص في اعتبار كمال [ ص: 137 ] خمس عشرة سنة، وصريح في أنه يكتب ما له وما عليه، وتقام عليه الحدود، وهذا معنى التكليف، فإن صح هذا الحديث فلا ريبة في هذا الحكم، وإلا فنقول في اعتبار أبي حنيفة أيضا لسبع عشرة أو ثمان عشرة: لا دليل عليه، وبقاء الصبا أبدا لا صائر إليه، وربما لا يحتلم شخص، وقد دل القرآن على بلوغ النكاح، وهو السن الذي تتوق فيه نفسه إلى الجماع، ويقدر عليه، وهو مختلف باختلاف الأشخاص، والغالب وجوده في ابن خمس عشرة، وما قاربها، وقد شهد له حديث ابن عمر، والحديث الآخر، فهو أولى بالاعتبار، وإقامته مظنة، فلذلك نختار موافقة الشافعي في الحكم بالبلوغ باستكمال خمس عشرة ظاهرا لا قطعا، أما إذا استكمل سبع عشرة أو ثمان عشرة فيحكم بالبلوغ باتفاق منا، ومن الحنفية، ومخالفة مالك بعيدة؛ لأنه لا غاية بعدها .

ثم قال: واختلف العلماء في إنبات العانة هل يقتضي الحكم بالبلوغ؟ فمن العلماء من أنكر ذلك وهو أبو حنيفة -رحمه الله تعالى- ومنهم من قال به في حق المسلمين والكفار، وهو أحد وجهين لأصحابنا، بناء على أنه بلوغ حقيقة كسائر أسباب البلوغ، أو أنه علامة يحتاج إليها عند الإشكال فيها، وهو مذهب مالك، ومنهم من قال: في حق الكفار خاصة وهو الصحيح عند أصحابنا، بناء على أنه ليس ببلوغ، ولكنه دليل على البلوغ وأمارة؛ لأنه يستعجل بالمعالجة، ولأن تواريخ المواليد في المسلمين يسهل الكشف عنها بخلاف الكفار، فإنه لا اعتماد على قولهم، فجعل علامة في حق الكفار خاصة .

ثم قال: وإذا اعتبرنا البلوغ بخمس عشرة سنة فهو تحديد؛ لأن كل عدد نص الشارع عليه فهو تحديد، وإنما يختلف فيما ليس مقدرا من جهة الشارع، هكذا نص التقي السبكي، نقلته برمته؛ لما فيه من الفوائد .

قلت: وما ذكره عن أبي حنيفة في بلوغ الغلام ثمان عشرة سنة هو الرواية المشهورة عنه، وقد ذكر صاحب الدرر وغيره عنه رواية أخرى: تسع عشرة سنة، وقال بعضهم: المراد من ذلك أن يطعن في التاسع عشر، فلا اختلاف بين الروايتين .

وحاصل ما ذكره أصحابنا في متونهم، وأجمعوا عليه أن بلوغ الغلام بإحدى ثلاث: الاحتلام والإحبال والإنزال؛ لأنها أمارات البلوغ، وإلا فحتى يتم ثمان عشرة سنة، وبلوغ الجارية بالحيض والاحتلام والحبل، وإلا فحتى يتم لها ثمان عشرة سنة، ويروى عن أبي حنيفة أيضا بلوغهما بخمس عشرة سنة، وهو قول الصاحبين وعليه الفتوى .

قالوا: وأدنى المدة في حق الغلام اثنتا عشرة سنة، وفي حقها تسع سنين، فإن راهقا الحلم وأقرا بالبلوغ صدقا بالإجماع .

(فأول واجب عليه تعلم كلمتي الشهادة، وفهم معناهما) ولو إجمالا (وهو قوله: لا إله إلا الله محمد رسول الله) صار لفظ الشهادة علما عليه لقول القائل: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، والشهادة تطلق على معان كثيرة كما تقدم، ولكن المناسب هنا هو الإخبار بمعرفة الشيء عن شهادة وعيان لا تخمين وحسبان .

ومعنى الشهادة في أشهد أن لا إله إلا الله: تصديق بالجنان، وإقرار باللسان، وهو مجاز لغوي، وحقيقة شرعية، شبه الإقرار والتصديق في البيان والكشف، فأطلق على ذلك الشهادة كما أطلق الأسد على الرجل الشجاع، فتكون استعارة .

ثم "أشهد" هنا إن كان إخبارا عما مضى ففائدته أن يكون التصديق والإقرار نصب عين الجنان، وورد اللسان بحيث يشغل المؤمن بهما ظاهره وباطنه، وإن كان إنشاء ففائدته النجاة واستحقاق الإحسان، والإعلام بالإيمان، حققه الكافيجي.

وقال ابن السبكي في الطبقات: واعلم أن جميع ما سقناه في قول لا إله إلا الله، المراد به في أكثر الأحاديث صيغة الشهادتين، وقد صارا كالشيء الواحد؛ لأن الاعتبار بأحدهما متوقف على الآخر، ومن ثم قال القاضي أبو الطيب الطبري وجماعة في تلقين الميت: يلقن الشهادتين لا إله إلا الله محمد رسول الله، وقد جاء مصرحا في بعض ألفاظ الحديث .

ففي الصحيحين من حديث ابن عمر: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا" الحديث، وفي رواية أخرى عندهما لأبي هريرة كذلك، وفي رواية أخرى للبخاري، والثلاثة من حديث أنس، رفعه: "حتى يقولوا" وفيه: "فإذا شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله" الحديث .

وكذلك حديث: "بني الإسلام على خمس" فجعل الشهادتين شيئا واحدا، وهو الأمر الذي بني عليه الإسلام، وإلا فلو كانا شيئين لكان الإسلام مبنيا على ست لا خمس .

(وليس يجب عليه أن يحصل كشف ذلك لنفسه [ ص: 138 ] بالنظر) قد يراد به التأمل والفحص، وقد يراد به المعرفة الحاصلة بعد الفحص، وهو أعم من القياس؛ لأن كل قياس نظر ولا عكس، وعند الأصوليين هو الفكر المؤدي إلى علم أو ظن (والبحث) هو إثبات النسبة الإيجابية أو السلبية بين شيئين بطريق الاستدلال (وتحرير الأدلة) والتحقيق فيها (بل يكفيه أن يصدق به ويعتقده جزما) أي حتما، يقال: حكم جزم: لا ينقض ولا يرد (من غير اختلاج ريب) أي: شك (واضطراب نفس) والاختلاج هو الاضطراب (وذلك قد يحصل بمجرد التقليد والسماع من غير بحث وبرهان) أي: يتبع غيره فيما يقوله معتقدا فيه من غير نظر وتأمل وبحث في الدليل، كأنه يجعل قول غيره قلادة في عنقه، والبرهان ما يفصل الحق من الباطل ويميز الصحيح من الفاسد بالبيان الذي فيه (إذ اكتفى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أجلاف العرب) وجفاتهم الذين لم يتزيوا بزي الحضر في رفقهم ولين أخلاقهم (بالتصديق والإقرار) فقد (من غير تعليم دليل) .

قال العراقي: هو مشهور في كتب السير، وفي الصحيح، فمن ذلك حديث أنس المتفق عليه في قصة ضمام بن ثعلبة، وفيه: "فجاء رجل من أهل البادية فقال: يا محمد أتانا رسولك فزعم أنك تزعم أن الله أرسلك، قال: صدق" الحديث، وفي آخره: فقال الرجل: "آمنت بما جئت به، وأنا رسول من ورائي من قومي، وأنا ضمام بن ثعلبة أخو بني سعد بن بكر".

وفي الصحيحين أيضا من حديث أبي أيوب "أن أعرابيا عرض لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو في سفر، فأخذ بخطام ناقته أو بزمامها، ثم قال: يا رسول الله، أو: يا محمد، أخبرني بما يقربني من الجنة، وما يباعدني من النار" وفيه: "فقال: تعبد الله ولا تشرك به شيئا" الحديث، زاد مسلم: "فقال: إن تمسك بما أمر به دخل الجنة".

وفي الصحيحين أيضا من حديث أبي هريرة أن أعرابيا جاء إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "يا رسول الله، دلني على عمل إذا عملته دخلت الجنة؟ قال: تعبد الله ولا تشرك به شيئا" الحديث، وفيه: "فقال: من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا" والأحاديث في هذا كثيرة مشهورة. اهـ .

وقال صاحب القوت: فإذا بطلت هذه الوجوه، يعني التي ذكرها في حديث: "اطلبوا العلم" إلخ صح أن المراد به علم ما بني الإسلام عليه، فافترض على المسلمين علمه فريضة، بدليل قوله -صلى الله عليه وسلم- للأعرابي حين سأله: "ما افترض الله علي؟" وفي لفظ آخر: "أخبرنا بالذي أرسلك الله إلينا، فأخبره بالشهادتين والصلوات الخمس والزكاة وصوم رمضان وحج البيت، فقال: هل علي غيرها؟ فقال: لا إلا أن تتطوع، فقال: والله لا أزيد عليه شيئا ولا أنقص منه شيئا، فقال: أفلح، ودخل الجنة إن صدق".

فكان علم هذه الخمس الفريضة من حيث هي كمال معلوم وفريضة؛ إذ لا عمل إلا بعلم. اهـ .

قلت: وحديث ضمام في أول كتاب البخاري رواه عن عبد الله بن يوسف التنيسي، ورواه أبو داود والنسائي وابن ماجه جميعا عن عيسى بن حماد بن زغبة، كلاهما عن الليث بن سعد، عن سعيد المقبري، عن شريك بن عبد الله بن نمير، عن أنس.

وأخرجه الترمذي عن محمد بن إسماعيل الترمذي، عن علي بن عبد الحميد، والنسائي عن محمد بن محمد، عن ابن عامر العقدي، وعبد بن حميد، عن أبي النضر هاشم بن القاسم، وأبو عوانة في صحيحه من رواية موسى بن إسماعيل، خمستهم عن سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن أنس، وفي رواياتهم اختلاف في اللفظ .

وأكمل الروايات لهذا الحديث حديث ابن عباس وهو بطوله في الخلعيات، من رواية محمد بن إسحاق، وحدثني محمد بن الوليد، عن كريب عنه، وفي آخره يقول عبد الله بن عباس: فما سمعنا بوافد قوم كان أفضل من ضمام بن ثعلبة، وقد وقع في هذه الطرق كلها ذكر الحج ما عدا رواية البخاري.

وقدوم ضمام كان في سنة تسع، وبه جزم ابن إسحاق وأبو عبيد، ووقع في معجم الطبراني من حديث سعيد بن جبير، عن ابن عباس التصريح بأن قدوم ضمام كان بمكة. والله أعلم .

(فإذا فعل ذلك فقد أدى واجب الوقت، وكان العلم الذي هو فرض عين في الوقت تعلم الكلمتين وفهمهما) أي: فهم معانيهما إجمالا (وليس يلزمه أمر وراء هذا في ذلك الوقت، بدليل أنه لو مات) أي: لو قدر موته (عقب [ ص: 139 ] ذلك مات مطيعا لله تعالى غير عاص) .

وكذلك من أيقن بالإيمان وحال بينه وبين النطق به الموت فهو ناج، استنبطه المصنف من قوله - صلى الله عليه وسلم-: "أخرجوا من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان" قال: وأما من قدر على النطق ولم يفعل حتى مات مع إيقانه بالإيمان بقلبه فيحتمل أن يكون انتفاعه منه بمنزلة امتناعه عن الصلاة، فلا يخلد في النار، ويحتمل خلافه، ورجح غيره .

الثاني: فيحتمل تأويله، كذا نقله القسطلاني.

(وإنما يجب غير ذلك بعارض يعرض) والعارض للشيء ما يكون محمولا عليه خارجا، وهو أعم من العرض؛ إذ يقال للجوهر عارض كالصورة تعرض للهيولى، ولا يقال له: عرض (وليس ذلك ضروريا في حق كل شخص، بل يتصور الانفكاك عنها) أي: الانفصال (وتلك العوارض) التي تعرض على المكلف (إما أن تكون في الفعل أو في الترك وإما في الاعتقاد) قدم الفعل والترك اهتماما بشأنهما؛ لأن غالب الشرائع مداره عليهما .

(أما الفعل فبأن يعيش من ضحوة النهار) مثلا بعد أن يصير أهلا لوجوب الصلاة عليه ببلوغ وإسلام (إلى وقت الظهر) الغاية هنا داخلة تحت المغيا بقرينة قوله: (فيتجدد عليه بدخول وقت الظهر تعلم الطهارة) من الأحداث والأخباث (والصلاة) أي: صلاة الظهر، وتقديم الطهارة لكونها من مقدمات الصلاة (وإن كان صحيحا وكان بحيث لو صبر إلى زوال الشمس لم يتمكن من تمام التعلم والعمل) ولا من بعضهما (في الوقت بل يخرج الوقت لو اشتغل بالتعلم فلا يبعد أن نقول: الظاهر بقاؤه) وهو الراجح (فيجب عليه تقديم التعلم على الوقت) وإنما عبر بقوله: لا يبعد؛ لأنه لم ير فيه تصريحا، وإنما هو من تحقيقاته، ويكون المراد بالتعلم الذي وجب تقديمه قدر ما يستطيعه ويسعه فهمه، وإن جعل التعلم شرطا للصلاة فلا محالة يقدم عليها تقدم العلة على المعلول .

(ويحتمل أن يقال: وجوب العلم الذي هو شرط العمل بعد وجوب العمل فلا يجب) أي: لا يستدعي وجوبه (قبل الزوال) ويقال: هلا يكون المراد من قوله: بعد وجوب العمل، أي: بعد معرفة وجوبه قبل دخول وقته، فيكون مستدعيا تقدمه بالذات، ولو لم يكن بالزمان فالعلم ليس مقارنا له في الوجوب بالزمان، فتدبر .

(وهكذا) الحال (في بقية الصلوات) المفروضة (فإن عاش إلى رمضان) الشهر المعروف (تجدد بسببه) أي بسبب دخوله فيه (وجوب تعلم الصوم وهو أن يعلم أن وقته من) طلوع (الصبح إلى غروب) قرص (الشمس، وأن الواجب النية) وهي إجماعية، ولكن اختلفوا في تعيينها، فقال مالك والشافعي وأحمد في أظهر روايتيه: لا بد من التعيين، فإن لم يعين لم يجز، ولو نوى صوما مطلقا أو صوم التطوع لم يجز، وقال أبو حنيفة: لا يجب التعيين، وإن نوى مطلقا أو نفلا أجزأه، وهي الرواية الأخرى عن أحمد.

ثم اختلفوا في وقت النية على ما يأتي بيانه في الكتاب الثالث إن شاء الله تعالى .

(والإمساك) أي: الامتناع (عن الأكل) والشرب (والوقاع) أي: الجماع وما في معناه (وأن ذلك يتمادى) أي تنتهي مدته (إلى وقت رؤية الهلال) أي: هلال شوال .

(فإن تجدد له مال) بكسب أو هبة أو إرث، والمراد بالمال النقدان (عند بلوغه) أو قبل أن يبلغ بقليل (لزمه تعلم ما يجب عليه من الزكاة) أي: من مسائلها (لكن لا تلزمه) الزكاة (في الحال إنما تلزمه عند تمام الحول من الإسلام) بتحديد الشارع، والمعتبر فيه الشهور القمرية كما في البلوغ لا الشمسية (فإن لم يملك إلا الإبل لم يلزمه تعلم زكاة الغنم) وكذا في عكسه (وهكذا في سائر الأصناف) من الأموال .

(فإذا دخل أشهر الحج) وهي عند جمهور العلماء شوال وذو القعدة وعشر ذي الحجة، سمي بعضه شهرا مجازا تسمية البعض باسم الكل، والعرب تفعل ذلك كثيرا في الأيام، يقولون: زرتك العام وزرتك الشهر، والمراد وقت من ذلك، قل أو كثر، وهو من أفانين الكلام .

وعن مالك: ذو الحجة؛ عملا بظاهر اللفظ؛ لأن أقله ثلاثة. وعن ابن عمر والشعبي: أربعة، هذه الثلاثة والمحرم .

(فلا يلزمه المبادرة إلى علم الحج مع أن فعله على التراخي) أي: امتداد الزمان (فلا يكون علمه على الفور، ولكن ينبغي لعلماء الإسلام أن ينبهوه [ ص: 140 ] على أن الحج فرض) على كل مسلم (على التراخي) هذا هو مذهب الشافعي وأحمد في رواية، وقول لمحمد بن الحسن، قالوا: لأنه وظيفة العمر، وظاهر المتون على الفور عند أبي حنيفة، وهو مذهب مالك، وقول لأبي يوسف، واستدلوا بقوله -صلى الله عليه وسلم-: "من أراد الحج فليتعجل فإنه قد يمرض المريض وتضل الراحلة، وتعرض الحاجة" رواه أحمد والبيهقي وابن ماجه.

قال العيني في شرح الكنز: فإن قلت: حج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سنة عشر وكان فرضه في سنة ست، فهذا يدل على التراخي، قلت: الحج وجب بقوله تعالى: ولله على الناس حج البيت وهي نزلت سنة تسع، والذي نزل في سنة ست قوله تعالى: وأتموا الحج والعمرة لله وهو أمر بإتمام ما شرع فيه، وليس فيه دلالة على الإيجاب من غير شروع .

وأما تأخيره -عليه السلام- إلى السنة العاشرة فيحتمل أن يكون لعذر، إما لأنها نزلت بعد فوات الوقت، أو لخوف من المشركين على أهل المدينة أو على نفسه. وأما ما قاله بعضهم أنه عليه السلام كان قد علم أنه يدرك الحج قبل موته، فليس بشيء. اهـ .

وقال مسكين البخاري في شرحه عليه ما نصه: فرض مرة على الفور عند أبي يوسف ومحمد، وهو إحدى الروايتين عنه أنه على التراخي، وهو قول الشافعي، إلا أنه يسعه التأخير بشرط أن لا يفوته بالموت، فإذا أخر حتى مات أثم في التأخير .

وفي النهر لابن نجيم: الحاصل أن الفورية واجبة احتياطا، حتى لو أتى به متراخيا كان أداء اتفاقا، وثمرة الخلاف إنما تظهر في الفسق بالتأخير والإثم ورد الشهادة، وقال أبو يوسف: نعم، ونفاه محمد، وأجمعوا على أنه لو حج في آخر عمره لم يأثم، ولو مات ولم يحج أثم. اهـ .

وقال صاحب الجوهرة: عند أبي يوسف على الفور؛ لأنه يختص بوقت خاص، والموت في سنة واحدة غير نادر، وعند محمد: على التراخي؛ لأنه وظيفة العمر، والخلاف فيما إذا كان غالب ظنه السلامة، أما إذا كان غالب ظنه الموت، إما لسبب المرض أو الهرم، فإنه يتضيق عليه الوجوب إجماعا، فعند أبي يوسف: لا يباح له التأخير عند الإمكان، فإن أخره كان آثما، وحجته الحديث: "من ملك زادا وراحلة تبلغه إلى بيت الله الحرام فلم يحج فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا" ثم احتج لمحمد بما ذكره العيني في نزول الآية .

وقال صاحب الدرر: وقت الحج في اصطلاح الأصوليين يسمى مشكلا؛ لأن فيه جهة المعيارية والظرفية، فمن قال بالفور لا يقول بأن من أخره يكون فعله قضاء، ومن قال بالتراخي لا يقول بأن من أخره على العام الأول لا يأثم أصلا، كما إذا أخر الصلاة عن الوقت الأول، بل جهة المعيارية راجحة عند من يقول بالفور، حتى إن من أخره يفسق وترد شهادته، لكن إذا حج بالآخرة كان أداء لا قضاء، وجهة الظرفية راجحة عند من يقول بخلافه، حتى إذا أداه بعد العام الأول، لا يأثم بالتأخير، ولكن لو مات ولم يحج أثم عنده. اهـ .

ورأيت لشمس الأئمة الحلواني في رسالته "الرد على من رد على أبي حنيفة في مسائل" فمنها أنه قال: قال أبو حنيفة بوجوب الحج على الفور مع أنه لم يرتبط به حاجة مسلم، فنقول: لا نص عن أبي حنيفة في الحج على أنه على الفور أو على التراخي، وإنما أصحابه اختلفوا فيه، فقال أبو سهل بن الزجاجي: على قول أبي يوسف يجب على الفور، وعلى قول محمد على التراخي، وروى محمد بن شجاع عن أبي حنيفة أنه: من ملك ما يحج به فأراد أن يتزوج يحج به، قيل: هذا يدل على وجوبه على الفور عنده مع أن في كونه دليلا عليه احتمالا .

فإن كان كذلك فمراده منه ما هو مراد أبي يوسف من وجوبه على الفور؛ فإن أبا يوسف نص على أن المراد به في حق الأداء احتياطا؛ لئلا يؤدي إلى الفوت؛ لأن موت المرء في السنة الواحدة لا يندر، بخلاف وقت الصلاة، يدل عليه أنه قال: التي يستفاد منها وجوب الحج مطلقا على الوقت فقضيتها الوجوب على التراخي، إلا أنا أظهرنا التقييد بالسنة الأولى في حق الأداء احتياطا، يدل على أن وجوبه على التراخي عندهم بالإجماع، على أنه لو أخر الحج عشر سنين ثم أدى يقع أداء لا قضاء فلو كان الوجوب على الفور لفات بالتأخير عن وقته في السنة الأولى، فوقع أداؤه بعد ذلك قضاء، فلما لم يقع الأداء دل على أن وجوبه على التراخي عندهم، فلم يصح إضافة الوجوب على التراخي إلى أبي حنيفة؛ لأنه نص عنده، ولا إلى أصحابنا لما بينا. اهـ .

(على كل من ملك الزاد والراحلة إذا كان هو مالكا) وذلك مما فضل [ ص: 141 ] عن مسكنه، وعما لا بد له منه، وعلى نفقة مدة ذهابه وإيابه ونفقة عياله، كما سيأتي ذلك (حتى ربما يرى الحزم لنفسه في المبادرة) إليه (فعند ذلك إذا عزم عليه لزمه تعلم كيفية الحج، ولم يلزمه إلا تعلم أركانه وواجباته) مما يصح به حجه ويفسد بدونه (دون نوافله، فإن فعل ذلك نفل فعلمه أيضا نفل، فلا يكون فرض عين، وفي تحريم السكوت عن) وفي بعض النسخ: على (التنبيه على وجوب أصل الحج في الحال نظر يليق بالفقه) وحكمه مبسوط في كتبه .

(وكذا التدريج في علم سائر الأفعال التي هي فرض عين) قياسا على ما ذكر (وأما الترك فيجب على ذلك بحسب ما يتجدد من الحال، وذلك يختلف بحال الشخص) أي: باختلاف حاله (إذ لا يجب على الأبكم) هو الذي لا يقدر على النطق (تعلم ما يحرم) عليه (من الكلام، ولا على الأعمى) هو فاقد البصر (تعلم ما يحرم) عليه (من النظر، ولا على البدوي) ساكن القفار (تعلم ما يحل الجلوس فيه من المساكن، فذلك أيضا واجب) تعلمه (بحسب ما يقتضيه الحال، فما يعلم أنه ينفك عنه) وينفصل منه (لا يجب تعلمه، وما هو ملابس له) غير منفك عنه (يجب) على العلماء (تنبيهه) وتعليمه وإرشاده ليرتدع عما لا يجوز .

(كما لو كان عند) دخوله في (الإسلام لابسا للحرير) مثلا (أو جالسا على الغصب) سواء كانت بقعة مغصوبة، أو ما فرش تحته كذلك، وفي معناه ما إذا كان راكبا على دابة مغصوبة أو متصرفا فيما ليس له فيه حق شرعي (أو ناظرا إلى غير محرم) هو من لا يحل له نكاحها أبدا برحم أو رضاع أو مصاهرة (فيجب تعريفه ذلك) وإرشاده بأن ذلك حرام في الشرع .

(وما ليس ملابسا له) حالا (ولكنه بصدد التعرض له على القرب) منه بحيث أنه كاد أن يقع فيه بأن يكون حائما حول حماه (كالأكل) ونحوه (حتى إذا كان في بلد يتعاطى) أي يتناول (فيه شرب الخمر، وأكل لحم الخنزير، فيجب تعليمه ذلك) بأن تناول ذلك وتعاطيه حرام لا يجوز للمسلم (وتنبيهه عليه، وما وجب تعليمه وجب تعلمه) هذا في التروك .

(وأما الاعتقادات وأعمال القلوب) هو من عطف الخاص على العام، أو عطف تفسير، فإن ما عقده القلب عمل له (فيجب علمها بحسب الخواطر) جمع خاطر اسم لما يتحرك في القلب من رأي أو معنى، ثم سمي محله باسم ذلك، وهو من الصفات الغالبة، يقال: خطر ببالي وعلى بالي أمر، وأصل التركيب يدل على الحركة والاضطراب، قاله المطرزي.

(فإن خطر له شك) وتردد (في) فهم (المعاني التي تدل عليها كلمتا الشهادة) كلها أو بعضها (فيجب عليه تعلم ما يتوصل به إلى إزالة) ذلك (الشك) والتردد، ويكتفي على ذلك القدر ولا يتجاوز .

(وإن لم يخطر له ذلك ومات قبل أن يعتقد أن كلام الله قديم) غير حادث (وأنه) عز وجل (مرئي) أي يراه المؤمنون في الآخرة بأنظارهم (وأنه ليس محلا للحوادث إلى غير ذلك) من المسائل الاعتقادية (مما تذكر في المعتقدات) في الكتاب الثاني (فقد مات على الإسلام إجماعا) من أهل السنة، وإن خالفهم المعتزلة والمبتدعة، فقد صرح غير واحد من العلماء أن مخالفة ذوي البدع ونفاة القياس الجلي لا يعد خرقا في الإجماع .

(ولكن هذه الخواطر الموجبة للاعتقادات بعضها يخطر بالطبع) والجبلة (وبعضها) يخطر (بالسماع) من أفواه الناس (من أهل البلد، فإن كان في بلد شاع فيها الكلام) أي: علمه (وتناطق الناس بالبدع) والأمور المنكرة (فينبغي أن يصان) ويحفظ (في أول بلوغه) بالسن أو بالاحتلام (عنها) أي: عن تلك المقالات (بتلقين الحق) إياه، وإلقائه له في ذهنه، كما قالوا:


أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى فصادف قلبا خاليا فتمكنا

(لأنه إذا ألقي) وفي نسخة: فإنه لو ألقي (إليه الباطل) ولقنه (لوجب إزالته) وإبعاده (من قلبه) لئلا يرسخ [ ص: 142 ] فيه (وربما عسر ذلك) وصعب؛ لأنه يصير كالطبع له (كما أنه لو كان هذا المسلم تاجرا وقد شاع في البلد) الذي هو فيه (معاملة الربا) وتعاطيه (وجب عليه تعلم الحذر من الربا) لئلا يقع فيه .

(هذا هو الحق في العلم الذي هو فرض عين) وعليه يحمل الحديث المذكور (ومعناه: العلم بكيفية العلم الواجب) إذ العلم لما كان روحه وثمرته العمل كان متقدم الوجود على العمل؛ إذ لا بد أن يحصل العلم أولا، ثم بعد ذلك يقع التعبد بالعلم؛ لأن الجهل لا يوجب شيئا من العمل .




الخدمات العلمية