الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
والجمع بين الماء والحجر مستحب فقد روي أنه لما نزل قوله تعالى : فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل قباء : ما هذه الطهارة التي أثنى الله بها عليكم ؟ قالوا كنا نجمع بين الماء والحجر .

التالي السابق


(والجمع بين الماء والحجر) أو ما في معناه (مستحب) ، وفي شرح الرافعي: أفضل، وفي كتب أصحابنا: غسل المحل بعد التنقية بنحو الحجر أدب (فقد ورد أنه لما نزل قوله عز وجل: فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين ) أخرجه البزار في مسنده من حديث ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل قباء: ما هذه الطهارة التي أثنى الله بها عليكم؟ قالوا) : إنا نتبع الحجارة الماء أي (نجمع بين الماء والحجر) وسنده ضعيف، كما قاله العراقي وابن الملقن، وقال العراقي: ورواه ابن حبان والحاكم وصححه من حديث أبي أيوب وجابر وأنس في الاستنجاء بالماء ليس فيه ذكر الحجر . قلت: وأخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث أبي هريرة رفعه قال: نزلت هذه الآية في أهل قباء فيه رجال يحبون أن يتطهروا قال: كانوا يستنجون بالماء فنزلت فيهم هذه الآية، وقال الترمذي: [ ص: 346 ] حديث غريب، وقال العراقي وابن الملقن: وفي ذلك رد على قول النووي تبعا لابن الصلاح: إن الوارد في جمع أهل قباء بين الماء والأحجار لا أصل له في كتب الحديث، وإنما قاله أصحابنا وغيرهم في كتب الفقه والتفسير .

وقال الرافعي: وفيه من طريق المعنى أن العين تزول بالحجر، والأثر بالماء، فلا يحتاج إلى مخامرة عين النجاسة، وهي محبوبة، فإن اقتصر على أحدهما فالماء أولى; لأنه يزيل العين والأثر، والحجر لا يزيل إلا العين . قال القسطلاني: والذي اتفق عليه جمهور السلف والخلف أن الجمع بين الماء والحجر أفضل فيقدم الحجر لتخف النجاسة وتقل مباشرتها بيده، ثم يستعمل الماء وسواء فيه الغائط والبول، كما قاله ابن سراقة وسليم الرازي وكلام القفال الشاشي في محاسن الشريعة يقتضي تخصيصه بالغائط .



(تنبيه)

ومنهم من كره الاستنجاء بالماء ونفى وقوعه عن النبي صلى الله عليه وسلم متمسكين بما رواه ابن أبي شيبة بأسانيد صحيحة عن حذيفة بن اليمان أنه سئل عن الاستنجاء بالماء فقال: إذا لا يزال في يدي نتن، وعن نافع عن ابن عمر أنه كان لا يستنجي بالماء، وعن الزهري قال: ما كنا نفعله، وعن سعيد بن المسبب أنه سئل عن الاستنجاء بالماء فقال: إنه وضوء النساء، ونقل ابن التين عن مالك أنه أنكر أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم استنجى بالماء، وعن ابن حبيب أنه منع من الاستنجاء بالماء; لأنه مطعوم، وقال بعضهم: لا يجوز الاستنجاء بالأحجار مع وجود الماء، والسنة قاضية عليهم استعمل النبي صلى الله عليه وسلم الأحجار وأبو هريرة معه ومعه إداوة من ماء. أخرجه البخاري والإسماعيلي من طريق شعبة عن عطاء بن أبي ميمونة عن أنس، وعند مسلم: فخرج علينا، وقد استنجى بالماء، وعند ابن خزيمة في صحيحه من حديث جرير وفيه: فأتيته بماء فاستنجى بها، وفي صحيح ابن حبان من حديث عائشة: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من غائط قط إلا من ماء. والله أعلم .

(تنبيه) آخر

قد تقدم أن الجمع بينهما أدب، وقال الشمني في شرح النقاية: وقيل: هو سنة في زماننا لما روى البيهقي في سننه وابن أبي شيبة في المصنف عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: من كان قبلكم كانوا يبعرون بعرا وأنتم تثلطون ثلطا فأتبعوا الحجارة الماء . قلت: وأخرج الترمذي من حديث عائشة أنها قالت: مرن أزواجكن أن يغسلن أثر الغائط والبول، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعله.



(فصل)

لم يشر المصنف هنا إلى كل ما يستنجى عنه، وقد أورده في كتبه الثلاثة البسيط والوسيط والوجيز ونحن نذكر خلاصته من تقرير الرافعي قال: الخارج من البدن، إما ريح فلا استنجاء منه، أو عين فإن وجب بخروجها الطهارة الكبرى كالمني والحيض فيجب الغسل ولا يمكن الاقتصار على الحجر قلت: قال النووي: صرح صاحب الحاوي وغيره بجواز الاستنجاء بالحجر من دم الحيض، وفائدته فيمن انقطع حيضها واستنجت بالحجر، ثم تيممت لسفر أو مرض صلت ولا إعادة .

ثم قال الرافعي: وإن لم تجب به الطهارة الكبرى نظر إن لم تجب به الصغرى أيضا نظر، فإن كان طاهرا فذاك، وإن كان نجسا كدم الفصد والحجامة فيزال، كما يزال سائر النجاسات ولا مدخل للحجر فيه، وإن وجبت به الطهارة الصغرى، فإن خرج من الثقبة التي تنفتح ويحكم بانتقاض الطهارة بالخارج منها فيزال كسائر النجاسات أللأحجار فيه مدخل؟ فيه وجوه ثلاثة، وإن خرج من السبيلين نظر إن لم يكن ملوثا كالدود والحصاة التي لا رطوبة معها ففي وجوب الاستنجاء فيه قولان أصحهما لا يجب لا بالماء ولا بالحجر; لأن المقصود من الاستنجاء إزالة النجاسة أو تخفيفها عن المحل، فإذا لم يتلوث المحل ولم يتنجس فلا معنى للإزالة ولا للتخفيف، والثاني يجب; لأنه لا يخلو عن رطوبة، وإن قلت وخفيت، وإن كان ملوثا فينظر إن كان نادرا كالدم والقيح ففيه قولان أحدهما يتعين إزالته بالماء رواه الربيع، والثاني رواه المزني وحرملة وهو الصحيح أنه يجوز الاقتصار فيه على الحجر نظرا إلى المخرج المعتاد، فإن خروج النجاسات منه على الانقسام إلى الغالبة والنادرة مما يتكرر ويعسر البحث عنها والوقوف على كيفياتها فيناط الحكم بالمخرج، ومنهم من قطع بهذا وحمل ما رواه الربيع على ما إذا كان بين الأليتين لا في الداخل، ومن جملة النجاسات النادرة المذي فيجيء فيه هذا الاختلاف، وحكي عن القفال تفصيل في النجاسات [ ص: 347 ] النادرة، وهو أن ما يخرج منها مشوبا بالمعتاد كفى الحجر فيه، وإن تمحض النادر فلا بد من الماء هذا في الخارج النادر، أما المعتاد، فإن لم يعد المخرج فعليه أحد الأمرين إما إزالته بالماء كسائر النجاسات، وإما التخفيف بجامد، وإن عدا المخرج نظر إن لم ينتشر أكثر من القدر المعتاد فكذلك يتخير بين الأمرين وذلك القدر من الانتشار يتعذر أو يتعسر الاحتراز عنه، ونقل المزني أنه إذا عدا المخرج لا يجزئ فيه إلا الماء فمنهم من أثبته قولا آخر وزعم أن الضرورة تختص بالمخرج ولا تسامح فيما عداه بالاقتصار على الأحجار والأكثرون امتنعوا من إثباته قولا وانقسموا إلى مغلط ومؤول، وإن انتشر أكثر من القدر المعتاد، وهو أن يعدو المخرج وما حواليه فينظر إن لم يجاوز الغائط الأليتين ففي جواز الاقتصار على الأحجار قولان أحدهما الجواز رواه الربيع واحتج الشافعي رضي الله عنه لهذا القول بأن قال: لم يزل في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم رقة البطون، وكان أكثر أقواتهم التمر، وهو ما يرفق البطن ومن رق بطنه انتشر خلاؤه عن الموضع وما حواليه ومع ذلك أمروا بالاستجمار، والثاني ذكره في القديم أنه لا يجوز; لأنه انتشار لا يعم ولا يغلب، وإذا اتفق وجب غسله كسائر النجاسات وفيه طريقان أخريان إحداهما القطع بالقول الأول رواها الشيخ أبو محمد والمسعودي والثانية القطع بالقول الثاني حكاها كثيرون من الأئمة، وأما البول فالحشفة فيه بمثابة الأليتين في الغائط والأمر فيه على هذا الاختلاف، وعن أبي إسحاق المروزي أنه إذا جاوز البول الثقب لم يجز فيه الحجر قولا واحدا، والخلاف والتفصيل في الغائط، والفرق أن البول ينفصل على سبيل التزريق فيبعد فيه الانتشار، وإن جاوز الغائط الأليتين والبول الحشفة تعينت الإزالة بالماء كسائر النجاسات; لأنه نادر بمرة ولا فرق بين القدر المجاوز وغيره، ومنهم من جعل ما لم يجاوز على الخلاف، ثم حيث يجوز الاقتصار على الحجر فذلك بشرط أن لا تنتقل النجاسة عن الموضع الذي أصابته عند الخروج، فلو قام وانضمت أليتاه عند الخطو وانتقلت النجاسة تعين الماء وبشرط أن لا يصيب موضع النجو نجاسة من خارج حتى لو عاد إليه رشاش ما أصاب الأرض تعين الماء وبشرط أن لا يجف الخارج عن الموضع، فإن جف تعين الماء، وحكى الروياني أنه إن كان يقلعه الحجر يجزئ وإلا فلا، واختار هذا الوجه، والله أعلم .



(فصل)

وقال أصحابنا: إن جاوز النجس المخرج أكثر من قدر الدرهم فواجب غسله; لأن ما على المخرج إنما اكتفي فيه بغير الغسل للضرورة ولا ضرورة في المجاوز ولو جاوز المخرج قدر الدرهم فعند أبي حنيفة وأبي يوسف لا يجب غسله، وعند محمد: يجب بناء على أن المخرج كالظاهر، وهو قول محمد، أو كالباطن، وهو قولهما، وفي القنية: ولو أصاب المخرج نجاسة من غيره أكثر من قدر الدرهم فالصحيح أنه لا يطهر إلا بالغسل ولو كانت المقعدة كبيرة وفيها نجاسة لم تجاوز المخرج وهي أكثر من قدر الدرهم فعن الفقيه أبي بكر محمد بن الفضل: لا تجزئه الأحجار، وعن أبي شجاع والطحاوي: تجزئه، والله أعلم .



(خاتمة الباب)

قال الرافعي: لا فرق بين الخنثى المشكل وبين واضح الحال في الاستنجاء من الغائط، وأما في البول فليس للمشكل أن يقتصر على الحجر إذا بال من مسلكيه أو أحدهما; لأن كل واحد منهما إذا أفردناه بالنظر احتمل أن يكون زائدا فسبيل النجاسة الخارجة منه سبيل دم الفصد والحجامة نعم يجيء في مسلكيه الخلاف في جواز الاقتصار على الحجر في الثقبة المنفتحة مع انفتاح المسلك المعتاد، إذا قلنا: ينتقض الطهارة بالخارج منها، وأما واضح الحال فالرجل مخير إن شاء اقتصر على الماء، وإن شاء استعمل الأحجار أو ما في معناها، وكذلك البكر; لأن البكارة تمنع من نزول البول في الفرج، وأما الثيب فالغالب أنها إذا بالت تعدى البول إلى فرجها الذي هو مدخل الذكر ومخرج الولد; لأن ثقبة البول فوقه فيسيل إليه، فإن تحققت أن الأمر كذلك لم يجزها إلا الماء، وإن لم تتحقق جاز لها الاقتصار على الحجر; لأن موضع خروج البول لا يختلف بالثيابة والبكارة، وانتشار البول إلى غيره غير معلوم، وحكي وجه أنه لا يجوز لها الاقتصار على الحجر بحال، ثم القدر المغسول من الرجل ظاهر، وهو من المرأة ما يظهر إذا جلست على القدمين، وفيه وجه: تغسل الثيب باطن [ ص: 348 ] فرجها، كما تخلل أصابع رجليها; لأنها صارت ظاهرا بالثيابة، والله أعلم .




الخدمات العلمية