الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
ويقول : اللهم اجعلني من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، اللهم أسمعني منادي الجنة مع الأبرار ثم يمسح رقبته بماء جديد لقوله صلى الله عليه وسلم : مسح الرقبة أمان من الغل يوم القيامة ويقول : اللهم فك رقبتي من النار وأعوذ بك من السلاسل والأغلال ثم يغسل رجله اليمنى ثلاثا ويخلل باليد اليسرى من أسفل أصابع الرجل اليمنى ويبدأ بالخنصر من الرجل اليمنى ويختم بالخنصر من الرجل اليسرى .

التالي السابق


(ويقول : اللهم اجعلني من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، اللهم أسمعني منادي الجنة مع الأبرار) هكذا هو في العوارف للسهروردي بزيادة التصلية ، وفي القوت مثله إلا أنه قال : اللهم اجعلني ممن يستمع والباقي سواء وفيه منادي الخير بدل الجنة وجاء في حديث علي في رواية الحسن البصري المتقدم بذكره بمثل سياق المصنف إلى قوله أحسنه ، وفي شرح الوجيز ، وعند مسح الرأس : اللهم حرم شعري وبشري على النار ، وروي : اللهم احفظ رأسي وما حوى وبطني وما وعى (ثم يمسح رقبته) قال الرافعي : وهل يمسح بماء جديد أو بما بقي من بلل مسح الرأس والأذنين ؟ بناه بعضهم على وجهين في أنه سنة أم أدب إن قلنا : سنة مسح (بماء جديد) ، وإن قلنا : أدب فيمسح بالبلل الباقي ، واعلم أن السنة والأدب يشتركان في أصل الندبية والاستحباب ، لكن السنة ما يتأكد شأنها والأدب دون ذلك ، ثم اختيار القاضي الروياني ينبغي أن يمسحه [ ص: 365 ] بماء جديد وميل الأكثرين إلى أنه يكفي مسحه بالبلل الباقي ، وهو قضية كلام المسعودي وصاحب التهذيب ؛ لأن المسعودي ذكر أنه غير مقصود في هيئته ، بل هو تابع للقفا في المسح والقفا تابع للرأس لتطويل الغرة ، وقال صاحب التهذيب : يستحب مسحه تبعا للرأس أو الأذن إطالة للغرة ، وإذا كان استحبابه لتطويل الغرة كفى فيه البلل الباقي اهـ ، وقال النووي في الروضة : وذهب كثيرون من أصحابنا إلى أنها لا تمسح ؛ لأنه لم يثبت فيها شيء أصلا ؛ ولهذا لم يذكره الشافعي ومتقدمو الأصحاب ، وهذا هو الصواب ، والله أعلم ، وقال ابن هبيرة ، واختلفوا في مسح العنق فقال أبو حنيفة : هو من نفل الوضوء ، وقال مالك : ليس ذلك بسنة ، وقال بعض الشافعية وأحمد في أحد روايتيه : إنه سنة ؛ لأن ابنه عبد الله قال : رأيت أبي إذا مسح رأسه وأذنيه في الوضوء مسح ذلك اهـ .

قلت : والمشهور عند أصحابنا أنه سنة ؛ لأنه قد ثبت من فعله صلى الله عليه وسلم ، ثم إن مسحها يكون بظهر اليدين لعدم استعمال بلتهما ، واختار كثيرون من أصحابنا أنه أدب (لقوله صلى الله عليه وسلم : مسح الرقبة أمان من الغل ) غريب قال ابن الصلاح في مشكل الوسيط : لا يعرف مرفوعا ، وإنما هو قول بعض السلف ، وقال النووي في شرح المهذب وغيره : موضوع ، وعن ابن عمران أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من توضأ ومسح على عنقه وقي الغل (يوم القيامة) . هكذا رواه أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس بسند ضعيف ، ورواه أبو نعيم بلفظ : من توضأ ومسح يديه على عنقه أمن الغل يوم القيامة ، قال ابن الملقن : غريب لا أعرفه إلا من كلام موسى بن طلحة كذلك رواه أبو عبيد في غريبه ، وقال النووي في كلامه على الوسيط : لا يصح في مسح الرقبة شيء اهـ. قلت : ورواه أبو عبيد في كتاب الطهور عن عبد الرحمن بن مهدي عن المسعودي عن القاسم بن عبد الرحمن عن موسى بن طلحة بلفظ : من مسح قفاه مع رأسه ، فإن قيل : هو موقوف على موسى أجيب بأنه ليس مما يقال فيه بالرأي وما كان كذلك فله حكم الرفع ، وقد خلط المصنف بين الحديثين وميزتهما ، كما ترى ، وهو الصواب ، وقد ميز بينهما كذلك الرافعي ، وأما العراقي فذكر الحديث الأول وعزاه إلى ابن عمر فلم يصب ولذلك لم أتبعه ، والله أعلم . (ويقول : اللهم فك رقبتي من النار وأعوذ بك من السلاسل والأغلال) هكذا هو في القوت والعوارف ولم يرد في حديث علي وأنس ولا غيرهما (ثم يغسل رجله اليمنى ثلاثا) إلى الكعب ، وهذا هو الفرض الخامس عند المصنف (و) يسن (أن يخلل) الأصابع هذا إذا كان الماء يصل إليها من غير تخليل فلو كانت الأصابع ملتفة لا يصل الماء إليها إلا بالتخليل فحينئذ يجب التخليل لا لذاته ، لكن لأداء فرض الغسل ، وإن كانت ملتحمة لم يجب الفتق ولا يستحب أيضا قاله الرافعي ، وقال النووي : قلت : بل لا يجوز ، والله أعلم .

والأحب في كيفية التخليل أن يخلل (باليد اليسرى من أسفل أصابع الرجل اليمنى ويبدأ بالخنصر من الرجل اليمنى ويختم بالخنصر من اليسرى)وعبارة الرافعي : يخلل بخنصر اليد اليسرى من أسافل الأصابع مبتدئا بخنصر الرجل اليمنى مختتما بخنصر اليسرى ورد الخبر بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك ذكره الأئمة ، وعن أبي طاهر الزيادي أنه كان يخلل ما بين كل أصبعين من أصابع رجله بأصبع من أصابع يده ليكون بماء جديد ويفضل الإبهامان ولا يخلل بهما لما فيه من العسر وهل التخليل من خاصية أصابع الرجلين أم هو مستحب في أصابع اليدين أيضا معظم أئمة المذهب ذكروه في أصابع الرجلين وسكتوا عنه في اليدين ، لكن ابن كج قال : إنه مستحب فيهما لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال للقيط بن صبرة : إذا توضأت فخلل الأصابع ، فإن لفظ الأصابع يشملها ، وروى الترمذي عن ابن عباس رفعه : إذا توضأت فخلل بين أصابع يديك ورجليك ، وعلى هذا فالذي يقرب من الفهم ههنا أن يشبك بين الأصابع ولا تعود فيه الكيفية المذكورة في الرجلين ، قلت : وعند أصحابنا يسن تخليل أصابع كل من اليدين والرجلين بالاتفاق لعموم الأحاديث الواردة في ذلك ولم يكن واجبا مع وجود الأمر فيه لوجود الصارف ، وهو تعليم الأعرابي وكيفية تخليل أصابع اليدين يدخل بعضها في بعض ويقوم مقامه الإدخال في الماء الجاري وما [ ص: 366 ] هو في حكمه وصفته في الرجلين هو ما تقدم في سياق الرافعي قال الكمال بن الهمام والله أعلم : إنه أمر اتفاقي لا سنة مقصودة فلا تختص سنة التخليل بهذه الكيفية .



(فصل) قال تعالى : وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين قرأ نافع وابن عباس وحفص والكسائي أرجلكم بالنصب عطفا على وجوهكم وجره الباقون فقيل : على الجوار كقوله تعالى : وحور بالجر في قراءة حمزة والكسائي عطفا على ولدان المرفوع في قوله تعالى : ويطوف عليهم ولدان مخلدون وفي الكشاف لما كانت الرجلان مظنة للإسراف المذموم عطفت على الممسوح لا للتمسيح ، بل لينبه على وجوب الاقتصاد في صب الماء عليهما وقيل : إلى الكعبين لإزالة ظن أنها ممسوحة ؛ لأن المسح لم تضرب له غاية في الشريعة والكعبان هما العظمان الناتئان من جانبي القدم المرتفعان والاشتقاق يدل على الارتفاع ويروى عن زفر بن الهذيل من أئمتنا أنه كان يقول : إن الكعب هنا هو الذي فوق مشط القدم وحكاه هشام عن محمد بن الحسن ، وحكى الرافعي عن ابن كج وغيره أنهم رووا عن بعض الأصحاب ذلك ، وقال النووي : هذا الوجه شاذ منكر ، بل غلط والله أعلم ، قلت : وهو صحيح ، لكن في حق المحرم إذا لم يجد نعلين يقطع الخف من أسفل الكعب وأراد بالكعب ما ذكر قال الرافعي وجه الأول ما روى النعمان بن بشير رفعه أمرنا بإقامة الصفوف فلقد رأيت الرجل يلزق منكبه بمنكب أخيه وكعبه بكعبه والذي يتصور فيه التزاق القائمين في الصف ما ذكرنا دون ظهر القدم ، وقال الشمني في شرح النقاية : ومعنى إلى عند المحققين الغاية مطلقا ، وأما دخول ما بعدها في حكم ما قبلها أو خروجه عنه فأمر يدور مع الدليل فما قام الدليل فيه على خروج ما بعدها قوله تعالى : أتموا الصيام إلى الليل ؛ إذ لو دخل لوجب الوصال ومما قام الدليل فيه على دخول ما بعدها قوله تعالى : من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى للعلم فيه بأنه لا يسرى به إلى البيت المقدس من غير أن يدخله ، وأما المرافق والكعبان في الآية فأخذ زفر وداود فيهما بالمتيقن فلم يدخلاها في الغسل وأخذ الكافة بالاحتياط فأدخلوها فيه وقيل : إلى بمعنى مع وقيل : للغاية ، وإن صدر الغاية إذا كان متناولا لها كاليد يتناول إلى الإبط كانت لإسقاط ما وراءها لا لامتداد الحكم ؛ لأنه حاصل ، قلت : ونقل الباقاني في شرح الملتقى عن بعض المتأخرين أن الأولى الاستدلال بالإجماع على فرضية غسلهما فقد قال الشافعي في الأم : لا نعلم مخالفا في إيجاب دخول المرفقين في الوضوء ، وهذا حكاية منه للإجماع .



(تنبيه)

قال الرافعي : وقد يمتحن فيسأل عن وضوء ليس فيه غسل الرجلين وصورته ما إذا غسل الجنب جميع بدنه إلا رجليه ، ثم أحدث والأصل في المسألة على الاختصار إن من اجتمع في حقه الحدث الأصغر والأكبر هل يكفيه الغسل أم يحتاج معه إلى الوضوء فيه وجهان أصحهما أنه يكفيه لظاهر الأخبار ، فإن قلنا : يجب وضوء وغسل عند اجتماع الحدثين وجب غسل الرجلين عن الجنابة ووضوء كامل للحدث يقدم منهما ما شاء ويؤخر ما شاء وتكون الرجل مغسولة مرتين ، وإن قلنا يكفي الغسل ، ثم يشترط الترتيب في أعضاء الوضوء وجب غسل الرجلين مؤخرا عن سائر أعضاء الوضوء ويكون غسلهما واقعا على الجهتين الجنابة والحدث جميعا ، وإن قلنا : إنه يكفي الغسل من غير اشتراط الترتيب فعليه غسل الرجلين عن جهة الجنابة ، إما قبل سائر أعضاء الوضوء أو بعدها أو في خلالها ويغسل سائر الأعضاء من الحدث على الترتيب ، وهذا هو الأصح واختيار ابن سريج وابن الحداد وعلى هذا الوجه يكون المأتي به وضوءا خاليا عن غسل الرجلين ؛ لأن الرجلين قد اجتمع فيهما الحدثان ونحن على هذا الوجه نحكم باضمحلال الأصغر في جنب الأكبر فليست الرجلان مغسولتين من جهة الوضوء فهذه هي صورة الامتحان .



(فائدة)

عدوا غسل الرجلين أحد فروض الوضوء وأركانه ، لكن المتوضئ غير مكلف بغسل الرجلين بعينه ، بل الذي يلزمه أحد الأمرين ، أما غسل الرجلين أو المسح على الخفين بشرطه ولو عبر معبر عن هذا الركن هكذا لكان مصيبا والمراد عند الإطلاق ما إذا كان لا يمسح أو أن الأصل الغسل والمسح بدل .




الخدمات العلمية