الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
الثامن تسريحها لأجل الناس قال بشر في اللحية شركان تسريحها لأجل الناس وتركها متفتلة لإظهار الزهد .

التاسع والعاشر النظر في سوادها أو في بياضها بعين العجب وذلك مذموم في جميع أجزاء البدن ، بل في جميع الأخلاق والأفعال على ما سيأتي بيانه فهذا ما أردنا أن نذكره من أنواع التزين والنظافة وقد حصل من ثلاثة أحاديث من سنن الجسد اثنتا عشرة خصلة خمس منها في الرأس وهي فرق شعر الرأس والمضمضة والاستنشاق وقص الشارب والسواك وثلاثة في اليد والرجل وهي القلم وغسل البراجم وتنظيف الرواجب وأربعة في الجسد وهي نتف الإبط والاستحداد والختان والاستنجاء بالماء ، فقد وردت الأخبار بمجموع ذلك .

التالي السابق


(الثامن تسريحها لأجل الناس) تصنعا أو تركها شعثة إظهارا للزهد والتهاون بالقيام على النفس ؛ لأنه قد عرف بذلك (قال بشر) هو الحافي كذا في نسخ الكتاب والصواب قال السري ، وهو ابن المفلس السقطي خال الجنيد ، كما هو مصرح به في القوت وغيره (في اللحية شركان) خفيان (تسريحها لأجل الناس) ، أي : لإراءتهم (وتركها متفتلة) ، أي : شعثة مغبرة فتائل (لإظهار الزهد) ونص القوت لأجل الزهد ، وقال أيضا : لو دخل علي داخل فمسحت لحيتي لأجله لظننت أني مشرك (التاسع والعاشر النظر في سوادها بعين العجب) والخيلاء وغرة بالشباب وفخرا ، وهذا هو التاسع ، وأما العاشر فلم يشر إليه المصنف هنا ، وقد مر عند ذكر الخصال إجمالا في الأول ، وهو النظر إلى بياضها تكبرا بكبر السن وتطاولا على الشباب فيحجبه نظره إليها عن النظر لنفسه (وذلك) ، أي : النظر بعين العجب (مذموم في جميع أجزاء البدن ، بل في جميع الأخلاق والأفعال على ما سيأتي بيانه) في مواضعه اللائقة به (فهذا ما أردنا أن نذكره من أنواع التزين والنظافة) الظاهرة (وقد حصل من) تضمن (ثلاثة أحاديث) متفرقة مروية من طرق صحيحة منها حديث عائشة وابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهم على ما يأتي بيانه (من سنن الجسد اثنا عشر خصلة خمس منها في الرأس فرق شعر الرأس والمضمضة والاستنشاق وقص الشوارب والسواك وثلاثة) منها (في اليد والرجل وهي القلم) ، أي : قص الأظفار (وغسل البراجم وتنظيف الرواجب وأربعة) منها (في الجسد وهي تنظيف الإبط والاستحداد والختان والاستنجاء بالماء ، فقد وردت الأخبار بمجموع ذلك) وكل ذلك قد تقدم بيانه ما عدا فرق الرأس ، فقد أخرج البخاري من حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسدل شعر رأسه إلى أن قال : ثم فرق رسول الله صلى الله عليه وسلم والفرق هو جعل الشعر فرقتين كل فرقة ذؤابة ضد السدل ، وهو مطلق الإرسال والمراد هنا إرساله على جبينه وجعله كالقصة ، وقد سدله من ورائه من غير أن يجعل فرقتين وفيه دليل على أن الفرق أفضل ؛ لأنه الذي رجع إليه صلى الله عليه وسلم ، وإنما جاز السدل خلافا لمن قال : نسخ السدل فلا يجوز فعله ولا اتخاذ الجمة والناصية لما ورد إن انفرقت عقيصته فرق إلخ فهو صريح في جواز السدل وزعم نسخه يحتاج إلى بيان ناسخه وأنه متأخر عن المنسوخ ويحتمل رجوعه إلى الفرق باجتهاد وعليه فحكمة عدوله عن موافقة أهل الكتاب هنا أن الفرق أقرب إلى النظافة وأبعد عن الإسراف في غسله ، وعن مشابهة النساء ، ومن ثم كان الذي يتجه جواز السدل حيث لم يقصد التشبه بالنساء وإلا حرم من غير نزاع ، وأما بيان مجموع الأخبار الواردة فيه فحديث أبي هريرة لفظه خمس من الفطرة الختان والاستحداد وقص الشارب وتقليم الأظفار ونتف الإبط أخرجه الأئمة الستة فرووه خلا الترمذي من طريق سفيان بن عيينة والترمذي والنسائي أيضا من رواة معمر والنسائي أيضا من رواية يونس بن يزيد ثلاثتهم عن الزهري عن ابن المسيب ، ورواه النسائي من رواية سعيد المقبري كلاهما عن أبي هريرة ، وأما حديث عائشة فلفظه عشر من الفطرة قص الشارب وإعفاء اللحية والسواك واستنشاق الماء وقص الأظفار وغسل البراجم ونتف الإبط وحلق العانة وانتقاص الماء أخرجه مسلم وأصحاب السنن قال زكريا : قال مصعب : ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة وزاد قتيبة قال وكيع : انتقاص الماء بمعنى الاستنجاء ، وقد ضعف النسائي رفعه ، فإنه رواه موقوفا على طلق بن حبيب ، ثم قال : إنه أولى بالصواب من حديث مصعب بن شيبة قال : ومصعب بن شيبة منكر الحديث ، وقال الترمذي : إنه حديث حسن ، وأما حديث ابن عباس فلفظه خمس كلها في الرأس ذكر فيها الفرق ، ولم يذكر إعفاء اللحية أخرجه أبو داود ، وقال عبد الرزاق في مصنفه : أخبرنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه [ ص: 428 ] عن ابن عباس وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال : ابتلاه الله بالطهارة خمس في الرأس وخمس في الجسد خمس في الرأس قص الشارب والمضمضة والاستنشاق والسواك وفرق الرأس ، وفي الجسد تقليم الأظفار وحلق العانة والختان ونتف الإبط ، وعن صاحب القوت بحديث ابن عباس حديث استبطاء الوحي وفيه وأنتم لا تستنون ولا تقلمون أظفاركم ولا تقصون شواربكم ولا تنتفون براجمكم ، وقد تقدم ذلك للمصنف .



تنبيه :

وقد روي في الباب أحاديث غير التي ذكرت فمن ذلك حديث عمار بن ياسر ولفظه : من الفطرة المضمضة والاستنشاق والسواك وقص الشارب وتقليم الأظفار ونتف الإبط والاستحداد وغسل البراجم والانتضاح والاختتان هذا لفظ ابن ماجه وساق أبو داود بعضه وأحال ببقيته على حديث عائشة ، وهو من رواية علي بن زيد عن سلمة بن محمد عن عمار بن ياسر ، وقال البخاري : إنه لا يعرف لسلمة سماع من عمار ، وفي رواية لأبي داود عن سلمة عن أبيه والظاهر أنها مرسلة ، ومنها حديث ابن عمر بلفظ : الفطرة قص الأظفار وأخذ الشارب وحلق العانة أخرجه النسائي ، ورواه البخاري بلفظ : من الفطرة حلق العانة وتقليم الأظفار وقص الشارب ، وفي رواية له من الفطرة قص الشارب هكذا أورده من الطريقين في اللباس من رواية حنظلة عن نافع عن ابن عمر وأسقطه المزني في الأطراف فاقتصر على عزوه للنسائي .



تنبيه آخر :

قول مسلم في إحدى الروايتين في حديث أبي هريرة من رواية يونس بن يزيد عن الزهري : الفطرة خمس ، وكذلك رواية النسائي من طريق سفيان الفطرة خمس ، فإن سفيان قد رواه على الشك ، كما هو عند مسلم من طريقه الفطرة خمس ، فإن سفيان قد رواه من الفطرة فإما أن يكون الشك منه أو ممن فوقه أو من الرواة عنه وجمع بينه وبين حديث عائشة وعمار بجوابين أحدهما أن يكون ذكر في حديث أبي هريرة المتأكد من خصال الفطرة وأفردها لذكر تأكدها ، والثاني أن يكون أعلمه الله تعالى بعد ذلك بزيادة الخصال المذكورة في حديث عائشة وحديث عمار على تقدير صحتهما ، وكذلك حديث ابن عمر السابق ذكره والله أعلم .



تنبيه آخر : دل حديث عائشة المتقدم على أن خصال الفطرة أكثر من العشرة ، وهو كذلك ، فإنه أسقط منها الختان المذكور في حديث أبي هريرة ، وذكر منها الانتضاح في حديث عمار والفرق في حديث ابن عباس ، ولم يذكر فيه إعفاء اللحية ، فقد يتحصل من مجموع ذلك ثلاث عشرة خصلة وأوصلها أبو بكر بن العربي شارح الترمذي إلى نحو ثلاثين خصلة ، وقال : لا أطيل بإيرادها ، ولم يذكر المصنف الانتضاح المذكور في حديث عمار ولا الانتقاص المذكور في حديث أبي هريرة تبعا لصاحب القوت فليتنبه لذلك ، والله أعلم .



خاتمة :

تشتمل على مهمات تتعلق بهذه الخصال التي تضمنتها الأخبار المذكورة .

الأولى : اختلف في المراد بالفطرة في هذه الأحاديث فقيل السنة حكاه الخطابي عن أكثر العلماء ويدل عليه رواية أبي عوانة في المستخرج في حديث عائشة عشر من السنة فعلى هذا المراد بالسنة الطريقة أي أن ذلك من سنن الأنبياء وطريقتهم ؛ لأن بعضها واجب ، كما تقدم على الخلاف ، ومن لا يرى وجوب شيء منها يحملها على السنة التي تقابل الواجب وقيل : المراد بالفطرة هنا الدين وقيل : الإسلام ولكل وجهة ، والله أعلم .

الثانية : في مناسبة تسمية هذه الخصال فطرة قال صاحب المفهم : في هذه الخصال محافظة على حسن الهيئة والنظافة وكلاهما يحصل به البقاء على أصل كمال الخلقة التي خلق الإنسان عليها وبقاء هذه الأمور وترك إزالتها يشوه الإنسان ويقبحه بحيث يستقذر ويتجنب فيخرج مما تقتضيه الفطرة الأولى لهذا المعنى والله أعلم .

الثالثة : أغرب القاضي أبو بكر بن العربي في شرح الموطأ فقال : عندي أن الخصال الخمس المذكورة في الحديث كلها واجبة ، فإن المراد لو تركها لم تبق صورته على صورة الآدميين وتعقبه أبو شامة بأن الأشياء التي مقصودها مطلوب لتحسين الخلق وهي النظافة لا يحتاج إلى ورود أمر إيجاب ، بل مجرد الندب إليها من الشارع كاف .

الرابعة : أن هذه الخصال هي التي ابتلى الله بها إبراهيم فأتمهن فجعله الله مسلما ، وروي ذلك عن أبي عباس ، كما في مصنف عبد الرزاق ، وتقدمت الإشارة إليه وربما احتج من قال بوجوب بعض هذه الخصال بقوله تعالى : أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وثبت أن هذه الخصال أمر بها إبراهيم عليه السلام وكل شيء أمر الله باتباعه فهو الواجب لمن أمر به وتقدمت الإشارة إليه مع التعقب عليه ، وقال بعضهم مؤيدا [ ص: 429 ] لذلك أن الابتلاء غالبا إنما يقع بما يكون واجبا ، والله أعلم . الخامسة : فيه أن مفهوم العدد ليس بحجة ؛ لأنه اقتصر في حديث أبي هريرة على خمس ، وفي حديث ابن عمر على ثلاث ، وفي حديث عائشة على عشر مع ورود غيرها ، وقد تقدم أنها ثلاثة عشر وأوصلها أبو بكر بن العربي إلى ثلاثين فأفادنا ذلك أن ذكر العدد لا يقتضي نفي الزيادة عليه ، وهو قول أكثر أهل الأصول ولمن قال به يجيب بما تقدم أن الله أعلمه بالزيادة في خصال الفطرة بعد أن لم يكن علمه لما حدث ببعضها والله أعلم .

السادسة : قد ذكر من جملة الخصال انتقاص الماء ، ولم يذكره المصنف ، وقد اختلف في ضبط هذه اللفظة فالمشهور أنها بالقاف والصاد المهملة ، وهكذا ذكره أبو عبيد في الغريب والهروي في الغريبين وغيرهما وقيل : بالفاء حكاه ابن الأثير في النهاية ، وحكي عن بعضهم تصويبه قال النووي : وهذا شاذ والصواب ما سبق ، وقد اختلف في معناه فسره وكيع ، كما عند مسلم بالاستنجاء ومراده الاستنجاء بالماء لا مطلقا ؛ لأن الماء مصرح به في الحديث ، وحكى الترمذي في الجامع عن أبي عبيد أنه الاستنجاء بالماء ، وقال أبو عبيد في الغريب : انتقص البول بالماء إذا غسل مذاكيره به ، وقد رواه النسائي من قول طلق بن حبيب ، وقال فيه : وغسل الدبر ، وقال النسائي إنه أشبه بالصواب .

السابعة من جملة الخصال المذكورة التي لم يذكرها المصنف الانتضاح ، وهو عند أبي داود وابن ماجه من حديث عمار كما تقدم ، واختلف في تفسيره فقيل : هو الانتقاص ، أي : الاستنجاء بالماء وقيل : هو رش الماء ، وهو الصواب ، واختلف في موضع استحبابه فحكى النووي عن الجمهور أنه نضح الفرج بماء قليل لدفع الوسواس ، ومنه حديث الحكم بن سفيان الثقفي رفعه ، ثم أخذ كفا من الماء فنضح به فرجه ، أي : بعد الوضوء رواه أبو داود وابن ماجه ولابن ماجه من حديث زيد بن حارثة رفعه علمني جبريل عليه السلام الوضوء وأمرني أن أنضح تحت ثوبي مما يخرج من البول بعد الوضوء فقوله بعد الوضوء متعلق بأنضح لا بقوله : يخرج ؛ لأنه لو خرج البول بعد الوضوء لوجبت إعادة الوضوء ولابن ماجه أيضا من حديث أبي هريرة إذا توضأت فانتضح وقيل : إن الانتضاح المذكور هو أن ينضح ثوبه بالماء بعد الفراغ من الاستنجاء لدفع الوسواس أيضا حتى إذا توهم نجاسة بلل في ثوبه أو بدنه أحال به على الماء الذي نضح به ، ويدل له ما رواه أبو داود من رواية رجل من ثقيف عن أبيه قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بال ، ثم نضح فرجه والأول أصح ويحتمل أن يراد بالنضح هنا غسل البول فيكون المراد الاستنجاء ، فإن النضح يطلق ويراد به الغسل أيضا ، وقد حكاه النووي في شرح مسلم قولا والله أعلم .




الخدمات العلمية