الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وقال صلى الله عليه وسلم : يأتي في آخر الزمان ناس من أمتي يأتون المساجد فيقعدون فيها حلقا حلقا ذكرهم الدنيا وحب الدنيا لا تجالسوهم ، فليس لله بهم حاجة وقال صلى الله عليه وسلم : قال الله عز وجل في بعض الكتب : إن بيوتي في أرضي المساجد ، وإن زواري فيها عمارها فطوبى لعبد تطهر في بيته ، ثم زارني في بيتي ، فحق على المزور أن يكرم زائره وقال صلى الله عليه وسلم : إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان وقال سعيد بن المسيب : من جلس في المسجد فإنما يجالس ربه فما حقه أن يقول إلا خيرا .

ويروى في الأثر أو الخبر الحديث في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل البهائم الحشيش وقال النخعي : كانوا يرون أن المشي في الليلة المظلمة إلى المسجد موجب : للجنة وقال أنس بن مالك : من أسرج في المسجد سراجا لم تزل الملائكة وحملة العرش يستغفرون له ما دام في ذلك المسجد ضوءه .

وقال علي كرم الله وجهه إذا مات العبد يبكي عليه مصلاه من الأرض ومصعد عمله من السماء ، ثم قرأ فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين وقال ابن عباس تبكي عليه الأرض أربعين صباحا .

وقال عطاء الخراساني ما من عبد يسجد لله سجدة في بقعة من بقاع الأرض ، إلا شهدت له يوم القيامة ، وبكت عليه يوم يموت .

وقال أنس بن مالك : ما من بقعة يذكر الله تعالى عليها بصلاة أو ذكر ، إلا افتخرت على ما حولها من البقاع ، واستبشرت بذكر الله عز وجل إلى منتهاها من سبع أرضين ، وما من عبد يقوم يصلي إلا تزخرفت له الأرض ويقال : ما من منزل ينزل فيه قوم إلا أصبح ذلك المنزل يصلي عليهم أو يلعنهم .

التالي السابق


(وقال صلى الله عليه وسلم: يأتي في آخر الزمان ناس من أمتي يأتون المساجد فيقعدون فيها حلقا) ، أي: متحلقين لا لقصد الذكر والعبادة لله تعالى، وإنما (ذكرهم الدنيا) ، أي: أمورها ومتعلقاتها، (وحب الدنيا) فإن من أحب شيئا فقد أكثر من ذكره، فإذا [ ص: 30 ] رأيتموهم (لا تجالسوهم، فليس لله بهم حاجة) ، أخرجه ابن حبان من حديث ابن مسعود، والحاكم من حديث أنس، وقال: صحيح الإسناد، قاله العراقي.

قلت: لفظ الحاكم : "يأتي على الناس زمان يتحلقون في مساجدهم وليس همهم إلا الدنيا، وليس لله فيهم حاجة، فلا تجالسوهم". وأخرج البيهقي في "السنن" عن الحسن مرسلا: يأتي على الناس زمان يكون حديثهم في مساجدهم في أمر دنياهم، فلا تجالسوهم، فليس لله فيهم حاجة". ومما يقرب منه ما أخرجه الحاكم في تاريخه عن ابن عمر : "يأتي على الناس زمان يجتمعون في مساجدهم ويصلون، وليس فيهم مؤمن". وقد فهم من سياق الأحاديث أن التحلق في المساجد ممنوع إلا ما كان للعلم ومدارسته، والقرآن وتلاوته، والذكر وما أشبه ذلك، وسيأتي في آخر باب الجمعة .

(وقال صلى الله عليه وسلم: قال الله عز وجل في بعض الكتب:) المنزلة على بعض أنبيائه عليهم السلام (إن بيوتي) ، أي: الأماكن التي أصطفيها وأختارها لتنزلات رحمتي وملائكتي (في أرضي المساجد، وإن زواري فيها) أي: في تلك البيوت (عمارها) ، جمع عامر، وهم الذين يعمرونها بالعبادة بأنواعها والبر والحسنات، (فطوبى لعبد تطهر في بيته، ثم زارني في بيتي، فحق على المزور أن يكرم زائره) ، والمراد بالزائر هنا العابد، والمزور هو الله تعالى. أخرجه أبو نعيم في "الحلية" من حديث أبي سعيد بإسناد ضعيف بلفظ: "يقول الله عز وجل يوم القيامة: أين جيراني؟ فتقول الملائكة: ومن ينبغي أن يكون جارك؟ فيقول: عمار مساجدي". هكذا هو نص "الحلية"، ونص العراقي منها: "من هذا الذي ينبغي أن يجاورك؟ فيقول: أين قراء القرآن وعمار المساجد؟"، قال: وأخرجه البيهقي في "الشعب" نحوه موقوفا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسناد صحيح، وأسند ابن حبان في "الضعفاء" آخر الحديث من حديث سليمان وضعفه قال: وللطبراني من حديث سليمان مرفوعا: "من توضأ في بيته فأحسن الوضوء، ثم أتى المسجد فهو زائر الله تعالى، وحق على المزور أن يكرم زائره". وإسناده ضعيف .

قلت: هكذا هو في "المعجم الكبير" إلا أنه قال: "أن يكرم الزائر"، وقد وجدت سياق المصنف في "المعجم الكبير" للطبراني من حديث عبد الله بن مسعود مرفوعا بلفظ: إن بيوت الله تعالى في الأرض هي المساجد، وإن حقا على الله أن يكرم من زاره فيها".

(وقال صلى الله عليه وسلم: إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد) ، ورواية الأكثرين: المساجد، أي: الجلوس فيه للعبادة والذكر، أو المعنى: وجدتم قلبه معلقا به منذ يخرج منه إلى أن يعود إليه، أو شديد الحب له، والملازمة لجماعته، ويتعهده بالصلاة فيه كلما حضرت أو يعمره ويجدد ما وهى منه، ويسعى في مصالحه، والأوجه حمله على الكل، فمن وجدت فيه هذه الأوصاف (فاشهدوا له بالإيمان) أي: اقطعوا له بأنه مؤمن حقا، فإن الشهادة: قول صدر عن مواطأة القلب اللسان على سبيل القطع. ذكره الطيبي، قال ابن أبي جمرة : فيه دليل على أن التزكية بالقطع ممنوعة، أي: إلا بنص؛ لأنه حكم على الغيب، وهو على البشر مستحيل، قال: وهذا لا ينافيه النهي عن مدح الرجل في وجهه؛ لأن هذه شهادة وقعت على شيء وجد حسا، والفعل الحسي الذي ظهر دليل على الإيمان، وعلة النهي عن المدح في الوجه -وهي خوف الاغترار والإعجاب- في هذا معدومة؛ لأنها شهادة بالأصل، وهو الإيمان اهـ .

قال المناوي: ولا يخفى تكلفه. قال العراقي: أخرجه الترمذي وحسنه، وابن ماجه والحاكم، وصححه من حديث أبي سعيد، اهـ .

قلت: وأخرجه أيضا أحمد وابن خزيمة في صحيحه، وابن حبان والبيهقي في السنن، كلهم من حديث أبي سعيد، قال الترمذي : حسن غريب، وتصحيح الحاكم له تعقبه الذهبي بأن في سنده دراجا، وهو كثير المناكير. وقال مغلطاي في شرح ابن ماجه : حديث ضعيف، وعند الترمذي والحاكم وغيرهما بعد الحديث زيادة: "فإن الله يقول: إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر ، (وقال سعيد بن المسيب :) التابعي رحمه الله تعالى (من جلس في المسجد) أي: لعبادة أو ذكر، (فإنما يجالس ربه) أي: لأنه يناجيه في صلاته وذكره (فما أحقه) ، أي: فما أجدره وأليقه (أن لا يقول) ، أي: لا يتكلم، (إلا خيرا) ، أي: فيما يعنيه من تسبيح وتهليل واستغفار، (ويروى في الأثر) عن بعض الأصحاب أو أتباعهم (أو) في (الخبر) [ ص: 31 ] مرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (الحديث) ، أي: التكلم بكلام الدنيا، ف (أل) فيه للعهد (في المسجد يأكل الحسنات) أي: يذهبها (كما تأكل البهائم الحشيش) أي: النبات المحتش، سواء كان أخضر أو يابسا. وفي نسخة: "كما تأكل البهيمة". قال العراقي: لم أقف له على أصل اهـ .

(وقال النخعي:) هو إبراهيم بن يزيد، فقيه الكوفة أو خاله الأسود بن يزيد الزاهد الفقيه (كانوا يرون أن المشي في الليلة المظلمة) أي: إلى المساجد (موجب أي: للجنة) أي: سبب لدخولها والفوز بنعيمها (وقال أنس بن مالك :) رضي الله عنه (من أسرج في المسجد سراجا) أي: أوقده، والسراج بالكسر: المصباح، وهو أعم من أن يكون بتعليق قنديل أو وضع مسرجة أو شمعة، (لم تزل الملائكة) أي: ملائكة الرحمة (وحملة العرش) تخصيص بعد تعميم (يستغفرون له) ، ويطلبون له الرحمة. (ما دام في ذلك المسجد ضوء) أي: نور لذلك السراج، وقد أخرج الرافعي في تاريخه من حديث معاذ بن جبل رفعه: "من بنى لله مسجدا بنى الله له بيتا في الجنة، ومن علق فيه قنديلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يطفأ ذلك القنديل". (وقال علي كرم الله وجهه) ورضي عنه (إذا مات العبد) أي: المؤمن، كما في رواية أخرى: أن المؤمن إذا مات، (يبكي عليه) .

وفي رواية: بكى عليه، (مصلاه من الأرض ومصعد عمله من السماء، ثم قرأ) .

وفي رواية: "ثم تلا" ( فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين ) . أخرجه ابن أبي الدنيا في ذكر الموت، وابن المبارك في الزهد والرقائق، وعبد بن حميد، كلهم من طريق المسيب بن رافع عن علي، وأخرج ابن المبارك وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عباد بن عبد الله قال: "سأل رجل عليا : هل تبكي السماء والأرض على أحد؟ فقال: إنه ليس من عبد إلا له مصلى في الأرض ومصعد عمله في السماء، وإن آل فرعون لم يكن لهم عمل صالح في الأرض ولا مصعد في السماء". (وقال ابن عباس ) رضي الله عنه (تبكي عليه) أي: على المؤمن (أربعين صباحا) ، أخرجه أبو الشيخ في كتاب "العظمة" عنه، وأخرج أيضا عن مجاهد قال: "كان يقال إن الأرض تبكي على المؤمن أربعين صباحا".

وأخرج ابن أبي شيبة والبيهقي في "الشعب" عن مجاهد قال: "ما من ميت يموت إلا تبكي عليه الأرض أربعين صباحا". وأخرج ابن المبارك وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا والحاكم، وصححه عن ابن عباس قال: "إن الأرض لتبكي على المؤمن أربعين صباحا ثم قرأ الآية". وفي بعض الروايات: "العالم" بدل "المؤمن". أخرجه عبد بن حميد بسنده إلى مجاهد قال: "إن العالم إذا مات بكت عليه السماء والأرض أربعين صباحا"، وأخرج ابن جرير وعبد بن حميد وابن المنذر والبيهقي في "الشعب" عن ابن عباس أنه سئل عن هذه الآية فقال: ليس أحد من الخلائق إلا له باب في السماء، منه ينزل رزقه، وفيه يصعد عمله، فإذا مات المؤمن فأغلق عليه بابه من السماء فقده، فبكى عليه، وإذا فقده مصلاه من الأرض التي كان يصلي فيها ويذكر الله فيها، بكت عليه".

وأخرج عبد بن حميد، عن وهب بن منبه قال: "إن الأرض لتحزن على العبد الصالح أربعين صباحا". ويروى عن مجاهد أنه قيل له: أتبكي الأرض على المؤمن؟ قال: ما تعجب؟ وما للأرض لا تبكي على عبد كان يعمرها بالركوع والسجود؟ وما للسماء لا تبكي على عبد كان لتسبيحه وتكبيره فيها دوي كدوي النحل؟ كذا أخرجه عبد بن حميد وأبو الشيخ في "العظمة" .

وأخرج عبد بن حميد عن معاوية بن قرة قال: إن البقعة التي يصلي عليها المؤمن تبكي عليه إذا مات، ومحذاها من السماء، ثم قرأ الآية". وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن عطاء قال: "بكاء السماء حمرة أطرافها". وأخرج ابن أبي الدنيا عن الحسن قال: "بكاء السماء حمرتها". وأخرج عن سفيان الثوري قال: كان يقال: هذه الحمرة التي تكون في السماء بكاء السماء على المؤمن، (وقال عطاء) ابن أبي مسلم (الخراساني) أبو أيوب، ويقال أبو عثمان، ويقال أبو محمد، ويقال أبو صالح، البلخي، نزيل الشام، مولى المهلب بن أبي صفرة الأزدي، واسم أبيه: أبو مسلم عبد الله، ويقال ميسرة. روى عن ابن عباس، وعنه ابن جريج، وقال أبو داود : روايته عن ابن عباس مرسلة، توفي سنة خمس وثلاثين ومائة بأريحاء، فحمل إلى بيت المقدس فدفن بها، روى له الجماعة: (ما من عبد يسجد لله سجدة في بقعة من بقاع الأرض، إلا شهدت له يوم القيامة، وبكت عليه يوم يموت) .

[ ص: 32 ] أخرجه ابن المبارك في الزهد وابن أبي الدنيا في ذكر الموت، وقد روى مثله عن مولى لهذيل، أخرجه ابن المبارك وأبو الشيخ عن ثور بن يزيد، عنه قال: "ما من عبد يضع جبهته في بقعة من الأرض ساجدا لله عز وجل، إلا شهدت له بها يوم القيامة، وبكت يوم يموت". (وقال أنس بن مالك :) رضي الله عنه (ما من بقعة يذكر الله تعالى عليها بصلاة أو ذكر، إلا افتخرت على ما حولها من البقاع، واستبشرت بذكر الله عز وجل إلى منتهاها من سبع أرضين، وما من عبد يقوم يصلي إلا تزخرفت له الأرض) . هذا قد ورد مرفوعا من حديث أنس، أخرجه ابن شاهين في كتاب "الترغيب" عن أنس، وفيه موسى بن عبيدة الربذي عن يزيد الرقاشي، وهما ضعيفان، ولفظه: "ما من بقعة يذكر الله تعالى فيها إلا استبشرت بذكر الله إلى منتهاها من سبع أرضين، وفخرت على ما حولها من البقاع، وما من مؤمن يقوم بفلاة من الأرض إلا تزخرفت به الأرض". وأخرج الطبراني في "الكبير" عن ابن عباس رفعه: "ما من بقعة يذكر الله تعالى فيها إلا فخرت على ما حولها من البقاع، واستبشرت من منتهاها إلى سبع أرضين". (ويقال: ما من منزل) في الأرض (ينزله قوم) في أسفارهم (إلا أصبح ذلك المنزل) إما أن (يصلي عليهم) إن صلوا فيه وهللوا وسبحوا وكبروا، (أو يلعنهم) إن عصوا الله تعالى .




الخدمات العلمية