الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
واعلم أن تخليص الصلاة عن الآفات وإخلاصها لوجه الله عز وجل وأداءها بالشروط الباطنة التي ذكرناها من الخشوع ، والتعظيم والحياء سبب لحصول أنوار في القلب تكون تلك الأنوار مفاتيح علوم المكاشفة .

فأولياء الله المكاشفون بملكوت السموات والأرض وأسرار الربوبية إنما يكاشفون في الصلاة لا سيما في السجود ؛ إذ يتقرب العبد من ربه عز وجل بالسجود .

ولذلك قال تعالى واسجد واقترب .

التالي السابق


(واعلم أن تخليص الصلاة عن الآفات) الباطنة ، وعللها (وإخلاصها لوجه الله -عز وجل - وأداءها بالشروط) الظاهرة (والباطنة التي ذكرناها من) التعديل ، والاطمئنان ، و (الخشوع ، والتعظيم) ، والمهابة (والحياء) كل ذلك (سبب) قوي (لحصول أنوار) معنوية (في القلوب) ، وفي نسخة : في القلب (تكون لك الأنوار مفاتيح) أبواب (علوم المكاشفة) التي هي لب علوم المعاملة (فأولياء الله) المقربون عند الله (المكاشفون) بفتح الشين (بملكوت السموات والأرض) ، وهو عالم الغيب المختص بهما (وأسرار الربوبية) العظمى التي هي منشأ جميع الأسماء ، وغاية الغايات ، إليه تتوجه الرغبات كلها ، وهو الحاوي لجميع المطالب ، وأسرارها ؛ قد تكشف لأولياء الله تعالى على قدر مقاماتهم من القرب (إنما يكاشفون بها) بفتح الشين (في الصلاة) لكونها معراج القلب ، وصلة بين العبد وربه (لا سيما في السجود ؛ إذ يتقرب العبد من ربه - عز وجل - بالسجود ) لما قدمنا أن العبد يطلب فيه أصل نشأة هيكله ، وهو الماء والتراب ، فهو حينئذ في غاية الذل ، فيغلب عليه سلطان الربوبية كل منهما في تجليه (ولذلك قال الله تعالى) لنبيه - صلى الله عليه وسلم - : كلا لا تطعه أي : الذي ينهى عبدا إذا صلى (واسجد) لربك (واقترب) منه ، فلم يفصل بين السجود والقرب ؛ ليؤذن أن الاقتراب والدنو يكون عقيب السجود ، وفي حاله ، وقد تقدم قوله - صلى الله عليه وسلم - لخادمه أبي فاطمة حين سأله المرافقة معه في الجنة : "أعني على نفسك بكثرة السجود " ، وتقدم أيضا أصرح من ذلك ، حديث : "أقرب ما يكون العبد بينه وبين ربه وهو ساجد " .



وقد أشار إلى بعض تلك المكاشفات السجودية صاحب القوت ، فقال : وأهل المشاهدة في السجود على ثلاثة مقامات : منهم من إذا سجد كوشف له بالجبروت الأعلى ، فسجد أمام العرش مواجها للوجه ، ومجاورا للملك الأعلى ، فيعلو إلى القريب ، ويدنو من المجيب ، وهذا مقام المقربين من المحبوبين . ومنهم من إذا سجد كوشف بملكوت العزة ، فيسجد على الثرى الأسفل عند وصف من أوصاف القادر الأجل ، فيسكن قلبه ، ويخبت تواضعا ، وذلا للعزيز الأعز ، وهذا [ ص: 163 ] مقام الخائفين من العابدين . ومنهم من إذا سجد جال قلبه في ملكوت السموات والأرض ، فآب بطرائف الفوائد ، وشهد غرائب الزوائد ، وهذا مقام الصادقين من الطالبين .

وهناك قسم رابع لا يذكر بشيء ، ليس له وصف فيستحق ، وهم الذين تجول هممهم في أعطية الملك ، وأنصبة المماليك ، فهم محجوبون بالهمم الدنية عن الشهادة العلية ، مأسورون بالهوى عن السياحة إلى الأعلى ، مقتولون بسيف الشهوة ، ليس لهم عند الشهداء المقتولين بالحق رفعة ، ولا خلوة . أهـ .

وقال صاحب العوارف : فمن الساجدين من يكاشف أنه يهوي إلى تخوم الأرضين متغيبا في أجزاء الملك ؛ لامتلاء قلبه من الحياء ، واستشعار روحه عظيم الكبرياء ، كما ورد أن جبريل - عليه السلام - يتستر بخافقة من جناحه حياء من الله .

ومن الساجدين من يكاشف أنه يطوي بسجوده بساط الكون والمكان ، ويسرح قلبه في فضاء الكشف والعيان ، فتهوي دون هويه أطباق السموات ، وتنمحي لقوة شهوده تماثيل الكائنات ، ويسجد على طرف رداء العظمة ، وذلك أقصى ما ينتهي إليه طائر الفهم والهمة البشرية ، وتفي بالوصول إليه القوة الإنسانية . ومن الساجدين من يتسع دعاؤه ، وينتشر ضياؤه ويحظى بالصفتين ، ويبسط الجناحين ، فيتواضع بقلبه إجلالا ، ويرفع بروحه إكراما وإفضالا ، فيجتمع له الأنس ، والهيبة ، والحضور ، والغيبة ، والفرار ، والقرار ، والأسرار ، والإجهار ، فيكون في سجوده سابحا في بحر شهوده .




الخدمات العلمية