قال رحمه الله: وهي منزل من منازل الهدى، وإنما سميت دنيا; لأنها أدنى المنزلتين . الدنيا مزرعة الآخرة،
وقال رحمه الله: ربما وجد بعضهم في نفسه أنسا، وتقريبا في عبادته ومجلسه، فظن أن بها يغفر لجميع من حضره، فضلا عنه، ولو أنه تعالى عامله بما يستحقه على سوء أدبه في ذلك لأهلكه .
وقال رحمه الله: إنما تفرق كل سالك بالمنزل الذي يبلغه في سلوكه، وما خلفه من المنازل، وأما ما بين يديه فلا يحيط بحقيقته علما، بل قد يصدق به إيمانا بالغيب .
وقال رحمه الله: أنوار العلوم لم تحجب من القلوب لبخل ومنع من جهة المنعم تعالى عن ذلك بل لخبث وكدورة وشغل من جهة القلوب؛ فإنها كالأواني ما دامت مملوءة بالماء لا يدخلها الهواء، والقلب المشغول بغير الله لا تدخله المعرفة بجلاله .
وقال رحمه الله: العلم بالله عز وجل، وصفاته وأفعاله، وفيه كمال الإنسان، وفي كماله سعادته، وصلاحه بجوار حضرة الجلال والكمال . أشرف أنواع العلم
وقال رحمه الله: ولا يتمكن منه إلا الذين اتقوا، فالتقوى باب الذكر والذكر باب الكشف، والكشف باب الفوز الأكبر . جلاء القلوب والأبصار يحصل بالذكر،
وقال رحمه الله: من ارتفع الحجاب بينه وبين قلبه تحلى له الملك والملكوت في قلبه، فيرى جنة عرضها السماوات والأرض .
وقال رحمه الله: عالم الملكوت هو الأسرار المشاهدة عن مشاهدة الأبصار المخصوصة بإدراك البصر، وجملة عالم الملك والملكوت تسمى الحضرة الربوبية; لأنها محيطة بكل الموجودات؛ إذ ليس في الوجود سوى الله وأفعاله ومملكته، وعبيده من أفعاله .
وقال رحمه الله: مدار الطاعات وأعمال الجوارح كلها تصفية القلب وتزكية إشراق نور المعرفة .
وقال رحمه الله: الإيمان ثلاث مراتب:
الأولى: إيمان العوام، وهو إيمان التقليد المحض .
والثانية: إيمان المتكلمين، وهو ممزوج بنوع استدلال .
والثالثة: إيمان العارفين، وهو المشاهدة بنور اليقين .
وقال رحمه الله: ظن من يظن أن العلوم العقلية مناقضة للعلوم الشرعية، وأن الجمع بينهما غير ممكن ظن صادر عن عمى في عين البصيرة -نعوذ بالله منه- والعلوم العقلية دنيوية وأخروية; فالدنيوية كالطب والحساب والنجوم والحرف والصنائع، والأخروية: كعلم أحوال القلب وآفات الأعمال، والعلم بالله وصفاته وأفعاله، وهما علمان متناقضان، أعني من صرف عنايته إلى أحدهما حتى يعمق فيه قصرت بصيرته عن الآخر على الأكثر .
وقال رحمه الله: مهما سمعت أمرا غريبا من أمور الدين جحده أهل الكياسة من سائر العلوم، فلا ينفرنك جحودهم عن قبولها؛ إذ محال أن يظفر سالك طريق الشرق بما في الغرب .
وقال رحمه الله: تهب رياح الألطاف فتكشف الحجب عن أعين القلوب، فيتجلى لها بعض ما هو مسطور، وفي اللوح المحفوظ .
وقال رحمه الله: ميل أهل التصوف إلى العلوم الإلهامية دون التعليمية [ ص: 22 ] ولذلك لم يحرصوا على دراسة العلم، وتحصيل ما صنف المصنفون والبحث عن الأقاويل والأدلة .
وقال رحمه الله: ليس الورع في الجبهة حتى تقطب، ولا في الخد حتى يصفر، ولا في الظهر حتى ينحني، ولا في الرقبة حتى تطأطئ، ولا في الذيل حتى يضم ; إنما أما من تلقاه ببشر فيلقاك بعبوس يمن عليك بعلمه فلا أكثر الله في المسلمين من مثله . الورع في القلوب،
وقال رحمه الله: قلب المؤمن لا يموت وعلمه عند الموت لا ينمحي، وصفاؤه لا يتكدر، وإليه أشار الحسن بقوله: التراب لا يأكل محل الإيمان، إما ما حصله من نفس العلم، أو ما حصله من الصفاء والاستعداد بقبوله .
وقال رحمه الله: العلم الباطن سر من أسرار الله تعالى يقذفه في قلوب أحبابه .
وقال رحمه الله: القرآن مصرح بأن التقوى مفتاح الهداية والكشف، وذلك علم من غير تعلم .
وقال رحمه الله: العلم اللدني الذي ينفتح في سر القلب من غير سبب ثانوي من خارج .
وقال رحمه الله: إذا حضر في القلب ذكر شيء انعدم عنه ما كان فيه من قبل .
وقال: أعظم أنواع علوم المعاملة الوقوف على خدع النفس، ومكايد الشيطان، وذلك فرض عين على كل جسد، وقد أهمله الخلق، واستقلوا بعلوم تجر إليهم الوسواس، وتسلط عليهم الشيطان .
وقال رحمه الله: مهما رأيت العلماء يتغايرون ويتحاسدون ولا يتآنسون فاعلم أنهم اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة، فهم خاسرون .
وقال رحمه الله: كل من ادعى مذهب إمام ولا يسير سيرته فذلك الإمام خصمه، يقول له: كان مذهبي العمل دون الحديث باللسان، وكان الحديث باللسان لأجل العمل لا للهذيان، فما بالك خالفتني في العمل والسيرة التي هي مذهبي الذي سلكته، وذهبت فيه إلى الله، ثم ادعيت مذهبي كاذبا، فهذا مدخل من مداخل الشيطان، أهلك به أكثر العالم .
وقال رحمه الله: أشد الناس حماقة أقواهم اعتقادا في فضل نفسه، وأثبت الناس عقلا أشدهم اتهاما لنفسه .
وقال رحمه الله: العامي إذا زنى أو سرق خير له من أن يتكلم في العلم؛ فإنه من تكلم فيه من غير إتقان العلم في الله وفي دينه وقع في الكفر من حيث لا يدري كمن ركب في البحر ولا يعرف السباحة .
وقال رحمه الله: أورع الناس وأتقاهم وأعلمهم من لا ينظر الناس كلهم إليه بعين واحدة، بل بعضهم بعين الرضا، وبعضهم بعين السخط:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة
وقال رحمه الله: مهما رأيت إنسانا سيئ الظن بالله طالبا للعيوب فاعلم أنه خبيث في الباطن، والمؤمن سليم الصدر في حق كافة الخلق .وقال رحمه الله: وتطهيره من الصفات المذمومة، وإلا فيكون الذكر حديث نفس، ولا سلطان له على القلب، ولا يدفع الشيطان . حقيقة الذكر لا تتمكن من القلب إلا بعد عمارته بالتقوى،
وقال رحمه الله: الروح أمر رباني، ومعنى كونه ربانيا أنه من أسرار علوم من المكاشفة، ولا رخصة في إظهاره؛ إذ لم يظهره الرسول صلى الله عليه وسلم .
وقال رحمه الله: الشهوة إذا غلبت على القلب ولم تتمكن من سويدائه فيستقر الشيطان في سويدائه .
وأما القلوب الخالية من الصفات المذمومة فيطرقها الشيطان لا للشهوات بل لخلوها بالغفلة عن الذكر، وإذا عاد الذكر خنس .
وقال رحمه الله: كما أنك تدعو ولا يستجاب لك لفقد شرط الدعاء فكذا تذكر الله ولا يهرب الشيطان لفقد شروط الذكر .
وقال رحمه الله: الشياطين جنود مجندة ولكل نوع من المعاصي شيطان يخصه، ويدعو إليه .
وقال رحمه الله: الصورة في عالم الملكوت تابعة للصفة فلا يرى المعنى القبيح إلا في الصورة القبيحة، فيرى الشيطان في صورة نحو الكلب والضفدع والخنزير، والملك في صورة جميلة، فتكون تلك الصورة عنوان المعاني، ومحاكية لها بالصدق؛ ولذلك يدل القرد والخنزير في النوم على إنسان خبيث، والشاة على إنسان سليم الباطن، وكذا كل أنواع التعبير .
وقال رحمه الله: خالص الرياضة وسرها أن لا تتمتع النفس بشيء لا يوجد في القبر إلا بقدر الضرورة، فيقتصر من أكله ونكاحه ولباسه ومسكنه على قدر الحاجة والضرورة، فإنه لو تمتع بشيء منه ألفه. وإذا مات تمنى الرجوع إلى الدنيا، ولا يتمنى الرجوع إليها إلا من لا حظ له في الآخرة .
وقال رحمه الله: النفس إذا لم تمنع بعض المباحات طمعت في المحظورات .
وقال رحمه الله: المستقل بنفسه من غير شيخ كشجرة تنبت بنفسها، فإنها تجف عن قرب، وإن بقيت مدة وأورقت لم تثمر .
وقال رحمه الله: النوم يقسي القلب ويميته، إلا إذا كان بقدر الضرورة، فيكون سببا لمكاشفة أسرار الغيب .
وقال رحمه الله: لا بد للسالك من ضبط الحواس إلا من [ ص: 23 ] قدر الضرورة، وليس ذلك إلا بالخلوة في مكان مظلم، فإن لم يكن فيلف رأسه في الجيب، أو يتدثر بكساء أو إزار مثل هذه الحالة؛ ليسمع نداء الحق، ويشاهد جلال حضرة الربوبية، أما ترى أن نداء المصطفى -صلى الله عليه وسلم- بلفه وهو بهذه الصفة فقيل: يا أيها المدثر يا أيها المزمل .
وقال رحمه الله: البطن والفرج باب من أبواب النار، وأصله الشبع، والذل والانكسار باب من أبواب الجنة، وأصله الجوع، ومن غلق بابا من أبواب النار فقد فتح بابا من أبواب الجنة لتقابلهما فالقرب من أحدهما بعد عن الآخر .
وقال رحمه الله: السعادة كلها في أن يملك الرجل نفسه، والشقاوة في أن تملكه نفسه .
وقال رحمه الله: الشبع يمنع العبادة وإشراق القلب والفكر، وينغص العيش، والجوع يدفع ذلك كله; لأن قلة الأكل تصحح البدن، وبكثرته تحصل فضلة الأخلاط في المعدة والعروق .
وقال رحمه الله: والمجادلة قصد إفحام الغير وتعجيزه وتنقيصه بالقدح في كلامه، ونسبته إلى القصور والجهل فيه . حد المراء كل اعتراض على كلام الغير بإظهار خلل فيه،
وقال رحمه الله: من عود نفسه الفكر في جلال الله وعظمته وملكوت أرضه وسمائه صار ذلك عنده ألذ من كل نعيم، فلذة هذا في عجائب الملكوت على الدوام أعظم من لذة من ينظر إلى أثمار الجنة، وبساتينها بالعين الظاهرة، هذا حالهم وهم في الدنيا فما الظن بهم عند انكشاف الغطاء في العقبى؟!
وقال رحمه الله: إن كنت لا تشتاق إلى معرفة الله فأنت معذور، فالعين لا تشتاق إلى لذة الوقاع، والصبي لا يشتاق للملك، والشوق بعد الذوق، ومن لم يذق لم يعرف، ومن لم يعرف لم يشتق، ومن لم يشتق لم يطلب، ومن لم يطلب لم يدرك، ومن لم يدرك بقي من المحرومين في أسفل سافلين .
وقال رحمه الله: وإنما يجب الاستحلال مما يجب على الجوارح . الحسد ليس مظلمة يجب الاستحلال منها بل معصية بينك وبين الله،
وقال رحمه الله: دنياك وآخرتك عبارتان عن حالتين من أحوال قبلك فالطرف الداني منهما يسمى دنيا، وهي كلها قبل الموت، والمتأخر يسمى آخرة، وهي ما بعده، وكل ما لك فيه حظ وشهوة عاجلة قبل الوفاة فهي الدنيا في حقك .
وقال رحمه الله: صفاء القلب، أعني طهارته من أدناس الدنيا، وأنسه بذكر الله، وحبه لله، وطهارة القلب لا تحصل إلا بالكف عن شهوات الدنيا، والأنس لا يحصل إلا بكثرة الذكر، والحب لا يحصل إلا بالمعرفة، ولا تحصل معرفة الله إلا بدوام الفكر . لا يبقى مع العبد عند الموت إلا ثلاث صفات:
وقال رحمه الله: ليس الموت عدما، وإنما هو الفراق لمحاب ألفه للقدوم .
وقال رحمه الله: معنى الربوبية التوحد بالكمال، والتفرد بالوجود على سبيل الاستقلال، والمنفرد بالوجود هو الله؛ إذ لا موجود معه سواه؛ فإن ما سواه أثر من آثار قدرته، لا قوام له بذاته، بل هو قائم به .
وقال رحمه الله: من لم يطلع على مكايد الشيطان، وآفات النفوس، فأكثر عبادته تعب ضائع، تفوت عليه الدنيا، ويخسر في الآخرة .
وقال رحمه الله: والتواضع دليل الخوف، وهو مسعد . الكبر دليل الأمن، والأمن مهلك،
وقال رحمه الله: من أن يجتمع مع أقرانه في المحافل، ويقدمهم، ويجلس تحتهم، وللشيطان هنا مكيدة، وهو أن يقعد في صف النعال، أو يجعل بينه وبين أقرانه بعض الأرذال، فيظن أنه متواضع، وهو عين التكبر؛ لإيهامه أنه ترك مكانه بالاستحقاق، فيكون تكبرا بإظهار التواضع، بل يقدم أقرانه، ويجلس تحتهم، ولا ينحط إلى صف النعال . أدوية الكبر
وقال رحمه الله: وصحة غريزة العقل نعمة من الله في أصل الفطرة، فإذا ماتت ببلادة أو حماقة فتدارك له . أساس السعادات كلها العقل والكياسة والذكاء،
وقال رحمه الله: كن من شياطين الجن في الأمان، واحذر شياطين الإنس؛ فإنهم أراحوا شياطين الجن من التعب في الإغواء والإضلال .
وقال رحمه الله: ما من أحد إلا وهو راض عن الله في كمال عقله، وأشدهم حماقة وأضعفهم عقلا أفرحهم بكمال عقله .
وقال رحمه الله: علماء الآخرة يعرفون بسيماهم من السكينة والذلة والتواضع، أما التمشدق والاستغراق في الضحك والحدة في الحركة والنطق فمن آثار البطر والغفلة، وذلك من دأب أبناء الدنيا .
وقال رحمه الله: من شرط من له حاجة أن لا يفطر ذلك النهار حتى تقضى ولو عند الغروب. قال بعضهم: وقد جربناه فصح؛ لأن الإنسان إذا شبع فدعاؤه كسهم يخرج من غير وتر مشدود .
وقال رحمه الله: وهو ادعاء الرجل الولاية [ ص: 24 ] مع فقدها منه . من الذنوب ما يورث سوء الخاتمة،
وقال رحمه الله: ليس كل أحد له قلب، وقد سئل عن تفسير هذا القول القطب السيد عبد الله باحداد شيخ بعض شيوخنا، فأجاب بما فيه غاية التحقيق، تركته لطوله، وهو مذكور في آخر كتاب القصد والسداد .
وله رحمه الله دعاء عجيب الشأن، جربه أهل العرفان عند حلول الفاقة، وهو هذا: اللهم، يا غني، يا حميد، يا مبدئ، يا معيد، يا رحيم، يا ودود، أغنني بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك .
قال: من ذكره بعد صلاة الجمعة وداوم عليه أغناه الله عن خلقه، ورزقه من حيث لا يحتسب .
ورؤي رحمه الله في النوم، فسئل عن حاله، فقال: لولا هذا العلم الغريب لكنا على خير كثير، قال ابن عربي: فتأوله علماء الرسوم على ما كان عليه من علم هذا الطريق، قصد إبليس بهذا الطريق الذي زينه لهم أن يعرضوا عن هذا العلم فيحرموا هذه الدرجات، أتراه أمر بأن يطلب الحجاب عن الله تعالى؟!