الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وقد كان معاذ بن جبل يصلي بقوم العشاء ، فقرأ البقرة ، فخرج رجل من الصلاة ، وأتم لنفسه ، فقالوا : نافق الرجل فتشاكيا ، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فزجر رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذا ، فقال : أفتان أنت يا معاذ اقرأ سورة سبح ، والسماء والطارق ، والشمس وضحاها .

التالي السابق


(وقد كان معاذ بن جبل ) - رضي الله عنه - (يصلي بقوم العشاء ، فقرأ البقرة ، فخرج رجل من الصلاة ، وأتم لنفسه ، فقالوا : نافق الرجل ، فتشاكى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فزجر معاذا ، فقال : أفتان أنت يا معاذ اقرأ بسورة سبح ، والسماء والطارق ، والشمس وضحاها) ، ولفظ القوت : وقد كان معاذ بن جبل يصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم ينصرف إلى قومه صلاة العشاء الآخرة ، فيصلي بهم ، فافتتح ليلة في صلاته بسورة البقرة ، فخرج رجل من الصلاة ، وأتم لنفسه ، فقالوا : نافق الرجل ، فتشاكى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فزجر معاذا ، فقال : أفتان أنت يا معاذ اقرأ بسورة سبح ، والسماء والطارق ، والشمس وضحاها . أهـ .

وقد تصرف المصنف في ألفاظ هذا الحديث ، كما ترى ، وأخرجه البخاري ، ومسلم ، والنسائي ، وابن ماجه ، وأبو داود الطيالسي ، والبيهقي من حديث جابر ، وأخرجه أحمد في المسند من حديث بريدة الأسلمي ، ولفظ البخاري في الصحيح ، حدثنا آدم بن أبي إياس ، حدثنا شعبة ، حدثنا محارب بن دثار ، سمعت جابر بن عبد الله الأنصاري قال : أقبل رجل بناضحين ، وقد جنح الليل ، فوافق معاذا يصلي ، فترك ناضحه ، وأقبل على معاذ ، فقرأ بسورة البقرة ، أو النساء ، فانطلق الرجل ، وبلغه أن معاذا نال منه فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فشكا إليه معاذا ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : يا معاذ أفتان أنت ، أو أفاتن ثلاث مرار ، فلولا صليت بسبح اسم ربك الأعلى ، والشمس وضحاها ، والليل إذا يغشى ، فإنه يصلي وراءك الكبير ، والضعيف ، وذو الحاجة ، وقال أيضا : حدثنا مسلم ، حدثنا شعبة ، عن عمر ، وعن جابر أن معاذ بن جبل كان يصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ثم يرجع فيؤم قومه قال : وحدثني محمد بن بشار ، حدثنا غندر ، حدثنا شعبة ، عن عمرو ، سمعت جابر بن عبد الله قال : كان معاذ بن جبل يصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ثم يرجع فيؤم قومه ، فيصلي العشاء ، فقرأ بالبقرة ، فانصرف الرجل ، فكأن معاذا تناول منه فبلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : فتان ، فتان ، فتان ، أو قال : فاتنا فاتنا فاتنا وأمره بسورتين من المفصل .

وأما حديث بريدة ، فأخرجه أحمد منفردا به ، ولم يخرجه أحد من الستة ، ولفظه : إن معاذ بن جبل صلى بأصحابه صلاة العشاء ، فقرأ فيها اقتربت الساعة ، فقام رجل من قبل أن يفرغ ، فصلى ، وذهب ، فقال له معاذ قولا شديدا فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فاعتذر إليه ، فقال : إني كنت أعمل في نخل ، وخفت على المال ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : صل بالشمس وضحاها ، ونحوها من السور . وانفرد البيهقي بذكر : والسماء والطارق في حديث جابر ، وأخرجه أحمد أيضا ، والبزار في مسنديهما من طريق عمرو بن يحيى المزني ، عن معاذ بن رفاعة ، عن رجل من بني سليم أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : يا رسول الله ، إنا نظل في أعمالنا فنأتي حين نمسي فيأتي معاذ فيطول علينا ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يا معاذ لا تكن فتانا ؛ إما أن تخفف بقومك ، أو تجعل صلاتك معي . ولفظ أحمد : إما أن تصلي معي ، وإما أن تخفف

[ ص: 202 ] على قومك . وفي هذه الأحاديث الثلاثة فوائد ، ففي حديث جابر أربع : الأولى : فيه حجة للشافعي ، وأحمد أنه تصح صلاة المفترض خلف المتنفل ، كما تصح صلاة المتنفل خلف المفترض ؛ لأن معاذا كان سقط فرضه بصلاته مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فكانت صلاته بقومه نافلة ، وهم مفترضون ، وقد ورد التصريح بذلك في رواية الشافعي ، والبيهقي هي له تطوع ، ولهم مكتوبة العشاء .

قال الشافعي في الأم : وهذه الزيادة صحيحة ، وهكذا في مسند الشافعي ، وصححها البيهقي أيضا ، وغيره ، وخالف في ذلك ربيعة ، ومالك ، وأبو حنيفة ، فقالوا : لا تصح صلاة المفترض خلف المتنفل لقوله - صلى الله عليه وسلم - : إنما جعل الإمام ليؤتم به ، فلا تختلفوا عليه . وأجاب عنه القائلون بالصحة بأن المراد الاختلاف في الأفعال الظاهرة لا في النيات ، فإن ذلك لا يختلف به ترتيب الصلاة ، وأجاب المخالفون لقصة معاذ بأجوبة منها : إنه كان يصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بعض الصلوات المكتوبة ، ثم يرجع إلى قومه فيؤمهم في صلاة أخرى بعد ذلك ، وهذا ترده رواية مسلم : فيصلي بهم تلك الصلوات ، ومنها : إن معاذا كانت صلاته مع النبي - صلى الله عليه وسلم - نافلة ، وكانت صلاته بقومه هي الفريضة ، فلحق بالمجملات ، فلا تكون فيه حجة ، ويدل لذلك حديث أحمد ، والبزار ، عن رجل من بني سليم .

والجواب : إنه لا يظن بمعاذ أنه يترك فضيلة صلاة الفرض مع النبي - صلى الله عليه وسلم .

وأما حديث أحمد ، والبزار ، فمعناه : إما أن تصلي معي مقتصرا على ذلك ، ولا تؤم قومك . وكذا قوله : أو تجعل صلاتك معي . وهذا هو المراد ، وإلا فهو كان يصلي معه ، فتعين أن يكون المراد تقتصر على صلاتك معي ، وليس فيه كون الفرض هي التي كانت مع قومه ، وإذا كان هذا محتملا للتأويل ، فقول جابر هي له تطوع لا يحتمل التأويل ، وجابر ممن كان يصلي مع معاذ ، فوجب المصير إليه ، ومنها أن حديث "فلا تختلفوا عليه " ناسخ لقصة معاذ ؛ لأنها كانت قبل أحد ، بدليل أن صاحب الواقعة مع معاذ قتل شهيدا بأحد ، وحديث النهي عن الاختلاف رواه أبو هريرة ، وإنما أسلم بعد خيبر ، والجواب : إنه لا يصار إلى النسخ مع إمكان الجمع ، فحمل النهي على الاختلاف في الأفعال الظاهرة فيه إعمالا للحديثين ، فهو أولى من المصير إلى النسخ .

الثانية : في سياق المصنف ، فقالوا : نافق الرجل ، وفي سياق البخاري ، فقيل : نافقت يا فلان ، وهو صريح ، وفي صحيح مسلم أن معاذا هو الذي قال : إنه منافق ، ويحتمل أنه قال هو والجماعة ، وقيل : ليس هو خبرا ، وإنما هو استفهام بغير همزة الاستفهام . قالوا له هذا الكلام على وجه الاستفهام ، ويدل له سياق مسلم قال : لا والله ، ولآتين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فلأخبرنه . الحديث .

الثالثة : كيف أطلقوا فيه القول بأنه منافق ، ولم يكن كذلك ، والجواب : إنه كان من المقرر عندهم من علامات النفاق التخلف عن الجماعة في العشاء ، فأطلقوا عليه اسم النفاق باعتبار أماراته عليه ، وما علم معاذ عذره إلا بعد ذلك ، وكان من براءته من النفاق أن قتل شهيدا بأحد ، فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك يقول : لمعاذ ما فعل خصمي ، وخصمك ؟ فكان معاذ يقول : صدق الله ، وكذبت استشهد . ذكره البيهقي .

الرابعة : كيف الجمع بينه وبين ما رواه أبو داود ، والنسائي بإسناد صحيح ، عن سليمان مولى ميمونة قال : أتيت ابن عمر وهم يصلون ، فقلت : ألا تصلي معهم ؟ قال : قد صليت ؛ إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : لا تصلوا الصلاة في يوم مرتين .

أجاب عنه النووي في الخلاصة بأن قال : قال أصحابنا : معناه لا تجب الصلاة في اليوم مرتين ، فلا يكون مخالفا لما سبق من استحباب إعادتها . قال : وأما ابن عمر ، فلم يعدها ؛ لأنه كان صلاها جماعة ، ومذهبه إعادة المنفرد . والله أعلم .



وأما ما يستنبط من حديث بريدة من الفوائد ، فست ؛ الأولى : يجوز للمأموم أن يخرج نفسه من الجماعة ، فإن الرجل ذكر أنه خاف على الماء ، ولم ينكر عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك ، والحكم كذلك ، وهو أصح القولين ، وفيه وجه آخر أنه ليس بعذر ، وأما المفارقة لغير عذر ، ففيه قولان للشافعي أحدهما : إنه لا يجوز ، وتبطل صلاته ، والقول الثاني ، وصححه الرافعي أنه يجوز ؛ لأن الاقتداء مستحب ، فهو بمنزلة الخروج من النافلة . الثانية في سياق المصنف : فخرج رجل من الصلاة ، وأتم لنفسه ، وفي سياق بريدة : فقام رجل من قبل أن يفرغ ، فصلى وذهب ، هل المراد به أنه بقي على إحرامه ، وإنما أخرج [ ص: 203 ] نفسه من الجماعة فقط ، أو أنه أبطل إحرامه معه ، ثم أنشأ إحراما منفردا ، فظاهر سياق المصنف دال على الاحتمال الأول ، وظاهر سياق مسلم في حديث جابر : فانحرف رجل ، فسلم ، ثم صلى وحده ، دال على الاحتمال الثاني ، فإن كانت القصة واحدة ، فإنه خرج من الصلاة رأسا ، وإن كانتا واقعتين ، وهو الأظهر ، فالأمر في هذه الواقعة على الاحتمال ، وقد أشار البيهقي إلى أن رواية مسلم أنه سلم شاذة انفرد بها محمد بن عباد ، عن سفيان ، وغيره من أصحاب سفيان لم يذكرها . الثالثة : هذا الرجل المبهم في الحديث اختلف فيه ، فقيل : اسمه سليم ، وقد جاء مبينا في مسند أحمد ، وقيل : اسمه حزم بن أبي كعب ، وقد جاء مبينا في سنن أبي داود ، وقال الثوري : في الخلاصة قيل : إنه حرام ، وقيل : حازم . أهـ .

وقول من قال : سليم أصح . الرابعة : وقع التصريح في حديث بريدة بصلاة العشاء ، وهكذا هو في سياق المصنف ، ووقع في سنن النسائي من رواية محارب بن دثار ، عن جابر أنه صلاة المغرب ، وبوب عليه القراءة في المغرب ، ورواه البيهقي هكذا ، ثم قال : كذا قال محارب بن دثار ، عن جابر : المغرب . قال : وقال عمرو بن دينار ، وأبو الزبير ، وعبيد الله بن مقسم ، عن جابر العشاء ، ثم رواه من حديث حزم بن أبي كعب ، وقال فيه : المغرب ، ثم قال : والروايات المتقدمة في العشاء أصح . والله أعلم .

وأما رواية محارب بن دثار عند البخاري ، فلم يذكر فيها المغرب ، ولا العشاء ، ورواية النسائي لهذه شاذة مخالفة لبقية الطرق الصحيحة . الخامسة : في حديث بريدة هذا أن معاذا قرأ باقتربت ، وفي حديث جابر أنه قرأ البقرة ، وهو الذي في سياق المصنف ، وهو المشهور في أكثر الروايات ، وللبخاري أيضا ، فقرأ بالبقرة ، أو النساء ، والجمع بين هذه الروايات أن التي قرأها هي البقرة ، وبه جزم أكثرهم ، فوجب المصير إلى قولهم ، ورواية البخاري : أو النساء شك في بعض الرواة ، فلا يصار إليها ، وأما رواية اقتربت ، فإن أمكن الجمع بكونهما واقعتين ، فلا تعارض ، وإن تعذر الجمع وجب العمل بالأرجح ، ولا شك أن رواية جابر أصح لكثرة طرقها ، ولكونها اتفق عليها الشيخان ؛ فهي أولى بالقبول من رواية بريدة . والله أعلم .

السادسة : قد يستشكل في الجمع بين حديث بريدة ، وجابر على تقدير كونهما واقعتين من حيث إنه لا يظن بمعاذ أن يأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتخفيف ، وقراءة ما سمى له من السور في واقعة ، ثم يصنع ذلك مرة أخرى ، فهذا بعيد جدا عن معاذ ، وقد أجاب النووي في الخلاصة بما نصه : ولعله قرأ البقرة في ركعة ، فانصرف رجل ، وقرأ اقتربت في ركعة أخرى ، فانصرف آخر . والله أعلم . لكن هذا الجواب لا يتم إلا على تقدير كونهما واقعة واحدة ، فتأمل هذا ، وقد وجد هنا في بعض نسخ الكتاب زيادة ، وهي قوله بعد هذه القصة : فهم العلماء من هذا الأمر لمعاذ بقراءة قصار السور أن قوله - صلى الله عليه وسلم - : من صلى بالناس ، فليخفف إنما عنى التخفيف في القراءة لا في الركوع ، والسجود ، والطمأنينة ؛ إذ روي أن صلاته - صلى الله عليه وسلم - كانت مستوية قيامه ، وركوعه ، وسجوده ، وجلوسه بين السجدتين سواء ، وقال : صلوا كما رأيتموني أصلي . . . إلى هنا آخر الزيادة .

ولم أتقيد بشرحها لكونها سقطت من أكثر النسخ المعتمدة ، وقوله : صلوا كما رأيتموني أصلي مخرج في صحيح البخاري في أثناء حديث مالك بن الحويرث ، وقد روى البخاري ، ومسلم ، وابن ماجه من حديث أنس كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يوجز الصلاة ، ويكملها ، ولهما أيضا من حديثه ما صليت وراء إمام قط أخف صلاة ، ولا أتم من النبي - صلى الله عليه وسلم - قال الحافظ : وقد نازع ابن دقيق العيد استدلال الفقهاء بهذا الحديث على وجوب جميع أفعاله ؛ أي : صلوا كما رأيتموني أصلي ؛ لأن هذا الخطاب إنما وقع لمالك بن الحويرث ، وأصحابه ، فلا يتم الاستدلال به إلا فيما يثبت من فعله حال هذا الأمر ، وأما ما لا يثبت ، فلا . والله أعلم .




الخدمات العلمية