الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
الثاني إذا أصبح ابتدأ بالغسل بعد طلوع الفجر وإن كان لا يبكر فأقربه إلى الرواح أحب ليكون أقرب عهدا بالنظافة فالغسل مستحب استحبابا مؤكدا وذهب بعض العلماء إلى وجوبه قال صلى الله عليه وسلم : غسل الجمعة واجب على كل محتلم والمشهور من حديث نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما من أتى الجمعة فليغتسل وقال صلى الله عليه وسلم : من شهد الجمعة من الرجال ، والنساء ، فليغتسل وكان أهل المدينة إذا تساب المتسابان يقول أحدهما للآخر : لأنت أشر ممن لا يغتسل يوم الجمعة .

وقال عمر لعثمان رضي الله عنهما لما دخل وهو يخطب أهذه الساعة ؟ منكرا عليه ترك البكور ، فقال : ما زدت بعد أن سمعت الأذان على أن توضأت ، وخرجت ، فقال : والوضوء أيضا ؟ وقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمرنا بالغسل وقد عرف جواز ترك الغسل بوضوء عثمان رضي الله تعالى عنه .

التالي السابق


(الثانية إذا أصبح) ، أي : دخل في الصبح (بدأ بالغسل بعد طلوع الفجر) ، أي : الثاني المبيح للصلاة ، وهو الصادق ؛ دل على ذلك قوله إذا أصبح ، أي : غسل الجمعة ينوي بذلك إن لم يكن سبق له الجماع ، فينوي غسل الجنابة ، وغسل الجمعة معا ، كما سيأتي هذا إذا كان عزمه أن يبكر إلى المسجد من أول النهار (فإن كان لا يبكر) لعذر (فأقربه إلى الرواح) ، وهو قبل الزوال (أحب) ، أي : أكثر استحبابا خروجه من خلاف مالك ، و (ليكون أقرب عهد بالنظافة) لصلاة الجمعة (فالغسل مستحب استحبابا مؤكدا) ، وبه قال أبو حنيفة : وهو المشهور من مذهب الشافعي ، وأحمد ، وحكاه الخطابي عن عامة الفقهاء ، وحكاه عياض عن عامة الفقهاء ، وأئمة الأمصار ، ونقل ابن عبد البر فيه الإجماع ، وقال الرافعي : الغسل يوم الجمعة سنة ، ووقته بعد الفجر على المذهب وانفرد في النهاية بحكاية وجه أنه يجزئ قبل الفجر كغسل العيد ، وهو شاذ منكر ، ويستحب تقريب الغسل من الرواح إلى الجمعة .

(وقد ذهب بعض العلماء إلى وجوبه) حكاه ابن المنذر ، عن أبي هريرة ، وعمار بن ياسر ، وحكاه الخطابي ، عن الحسن البصري ، وحكاه ابن حزم ، عن عمر بن الخطاب ، وابن عباس ، وأبي سعيد الخدري ، وسعد بن أبي وقاص ، وابن مسعود ، وعمرو بن سليم ، وعطاء ، وكعب ، والمسيب بن رافع ، وسفيان الثوري ، وحكي إيجابه أيضا عن مالك ، والشافعي ، وأحمد . أما مالك ، فحكاه عنه ابن المنذر

[ ص: 243 ] والخطابي ، وأبى ذلك أصحابه ، وجزموا عنه بالاستحباب ، وقال القاضي عياض : إنه المعروف من قول مالك ، ومعظم أصحابه ، وأما الشافعي ، فإنه نص عليه في القديم ، كما هو محكي في شرح العتبية لابن سريج ، وفي الجديد أيضا ، فإنه نص عليه في الرسالة ، وهي من كتبه الجديدة من رواية الربيع عنه ؛ ولذا قال الأذرعي : وحينئذ تصير المسألة على قولين في الجديد . أهـ .

ولكن المشهور عنه الاستحباب ، وهو المجزوم في تصانيف أصحابه ، وقال الرافعي ، والنووي ، وابن الرفعة ، وغيرهم : إنه لا خلاف فيه لعدم اطلاعهم على النص السابق ، وأما أحمد ، فحكى ابن قدامة عنه الوجوب في رواية عنه . قال : والمشهور منه الاستحباب ، ومن قال بوجوبه ابن خزيمة ، ونقله العراقي عن اختيار شيخه النقي السبكي قال : وكان يواظب عليه ، ثم القائلون بالوجوب استدلوا بأحاديث ظاهرها يدل على ذلك منها (قال - صلى الله عليه وسلم - : غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم ) ، أي : بالغ ، وهو مجاز ؛ لأن الاحتلام يستلزم البلوغ والقرينة المانعة من الحمل على الحقيقة أن الاحتلام إذا كان معه الإنزال موجبا للغسل ، سواء كان يوم الجمعة أو لا .

أخرجه البخاري ، عن عبد الله بن يوسف ، وأخبرنا مالك ، عن صفوان بن سليم ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد الخدري ، وأخرجه أيضا من طريق شعبة ، ومسلم ، وأبو داود ، والنسائي من طريق سعيد بن هلال ، وبكير بن الأشج ثلاثتهم ، عن أبي بكر بن المنكدر ، عن عمرو بن سليم ، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد ، عن أبيه ، إلا أن البخاري قال : عن عمرو بن سليم ، قال : أشهد على أبي سعيد قال : أشهد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : الغسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم ، وذكر الاستنان ، والطيب ، وقد رواه بكير بن الأشج أيضا من غير ذكر عبد الرحمن ، فسعيد بن هلال هو المنفرد بزيادة عبد الرحمن ، واختار البخاري رواية شعبة ؛ لأنه ليس فيها ذكر عبد الرحمن ، وذكر عبد الرحمن ، وذكر الواسطة عنه الجماعة لا يضر ، فإنه يحتمل أن يكون عمرو سمع من أبي سعيد ، وسمع أيضا من ابنه عبد الرحمن بن أبي سعيد ، فتارة حدث هكذا ، وتارة حدث هكذا ، ورواه أيضا مالك في الموطأ ، والشافعي ، وأحمد في مسنديهما ، وابن ماجه ، والدارمي ، وابن الجارود في المنتقى ، وابن خزيمة ، والطحاوي .

وأخرج ابن حبان هذا الحديث من هذا الطريق ، وزاد فيه : كغسل الجنابة .

وأخرج البغوي من حديث أبي الدنيا بلفظ مسلم بدل محتلم ، لكن قال : غسل الجمعة ، ولم يقل : يوم الجمعة (والمشهور من حديث نافع) أبي عبد الله المدني مات سنة ست عشرة ومائة . روى له الجماعة (عن ابن عمر ) ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (من أتى الجمعة فليغتسل ) هذا لفظ ابن حبان ، وفي لفظ له : من راح إلى الجمعة فليغتسل ، وأخرجه الطبراني في الكبير من حديث ابن الزبير ، وأخرجه ابن أبي شيبة ، والترمذي ، وابن ماجه من حديث ابن عمر ، وأخرجه البزار من حديث بريدة ، والخطيب من حديث أنس ، وأخرجه البخاري ، ومسلم بلفظ : من جاء منكم الجمعة فليغتسل ، إلا أنهما أخرجاه من طريق سالم بن عبد الله بن عمر ، عن أبيه ، وأما لفظ نافع ، عن ابن عمر : إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل ، فحديث سالم أخرجه البخاري من طريق شعيب بن أبي حمزة ، ومسلم من طريق يونس بن يزيد ، كلاهما عن الزهري ، عن سالم ، ورواه الزهري أيضا عن عبد الله بن عبيد الله بن عمر عن أبيه . رواه مسلم والنسائي، ورواه الزهري أيضا عن سالم ، وعبد الله ، عن أبيهما رواه مسلم ، والنسائي أيضا ، وهذا يدل على أنه عند الزهري عنهما ، وحكى الترمذي ، عن البخاري أنه قال : الصحيح حديث الزهري ، عن سالم ، عن أبيه ، ولهما حديث نافع ، فأخرجه البخاري من طريق مالك ، ومسلم من طريق الليث ، كلاهما عن نافع ، ولفظ مسلم تقدم ذكره ، وأخرجه الشيرازي في الألقاب من حديث عثمان بلفظ : من جاء منكم إلى الجمعة ، وكذلك الطبراني في الكبير من حديث ابن عباس ، ومعنى من أتى ، أي : من أراد الإتيان لهما ، وإن لم يلزمه كالمرأة ، والخنثى ، والصبي ، والعبد المسافر ، وقوله : فليغتسل أمر ، وهو يدل على الوجوب (و) من دلائل الوجوب (قال - صلى الله عليه وسلم - : من شهد الجمعة من الرجال ، والنساء ، فليغتسل ) أخرجه ابن حبان في الصحيح ، والبيهقي في السنن من طريق عثمان بن واقد ، عن نافع ، عن ابن عمر بلفظ : من أتى ، وفي آخره زيادة ، ومن لم يأتها فليس

[ ص: 244 ] عليه غسل ، ولفظ : وروينا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من شهد الجمعة من الرجال ، والنساء ، فليغتسلوا ، ولذلك قال مالك : للنساء إذا حضرن الجمعة اغتسلن لها .

قلت : وهذا مذهب مالك يقول باستحباب الغسل لكل من أراد الإتيان إلى الجمعة ، سواء كانت واجبة عليه أم غير واجبة كالصبي المميز ، والمرأة ، والعبد ، وغيرهم ، كذا حكاه ابن المنذر ، والقاضي عياض ، عن مالك ، وروى ابن أبي شيبة ، عن عبيدة بنت نائل قالت : سمعت ابن عمر ، وعنده سعد بن أبي وقاص يقول للنساء : من جاء منكن الجمعة فلتغتسل ، وعن طاوس أنه كان يأمر نساءه يغتسلن يوم الجمعة ، وعن شقيق أنه كان يأمر أهله الرجال ، والنساء بالغسل يوم الجمعة ، وقال ابن حزم : وغسل يوم الجمعة فرض لازم لكل بالغ من الرجال ، والنساء .

قال العراقي في شرح التقريب : وهو المشهور من مذهب أصحابنا قال : ولنا وجه ثان أنه إنما يستحب لمن تلزمه الجمعة دون النساء ، والصبيان ، والعبيد ، والمسافرين ، ووجه ثالث أنه يستحب للذكور خاصة . حكاه النووي في شرح مسلم ، وروى ابن أبي شيبة ، عن الشعبي ليس على النساء غسل يوم الجمعة ، وبه قال أحمد ، كما حكاه النووي في شرح مسلم ، وروى ابن أبي شيبة ، عن الشعبي : ليس على النساء غسل يوم الجمعة ، وبه قال أحمد ، كما حكاه ابن المنذر ، وفي صحيح البخاري ، عن ابن عمر معلقا : إنما الغسل على من تجب عليه الجمعة .

قلت : وصله ابن أبي شيبة في مصنفه (وكان أهل المدينة إذا تساب المتسابان) ، أي : إذا أراد أن يسب أحدهما الآخر (يقول أحدهما للآخر : لأنت شر ممن لا يغتسل يوم الجمعة) . هكذا هو في القوت ، روى ابن أبي شيبة ، عن التجري قال : قاول عمار رجلا ، فاستطال عليه ، فقال : أنا إذا أنتن من الذي لا يغتسل يوم الجمعة ، وعن إبراهيم النخعي قال : قال عمر في مسيء : لأنت أشر من الذي لا يغتسل يوم الجمعة ، وعن عبد الله بن سعد قال : كان عمر إذا حلف قال : أنا إذا أشر من الذي لا يغتسل يوم الجمعة ، وقد أورد المصنف هذا الكلام في خلال الأحاديث مؤكدا لأمره في الإيجاب ، ولولا أنه بهذه المثابة ما كانوا يتعايرون على تركه (و) من دلائل الإيجاب ما (قال) أمير المؤمنين (عمر) بن الخطاب (لعثمان) بن عفان - رضي الله عنهما - (لما دخل) المسجد (وهو) ، أي : عمر (يخطب) في أيام خلافته (أهذه الساعة ؟ منكرا عليه ترك البكور ، فقال : ما زدت بعد أن سمعت الأذان على أن توضأت ، وخرجت ، فقال : والوضوء أيضا ؟ وقد علمت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمر بالغسل) أورده صاحب القوت هكذا ، إلا أنه لم يقل منكرا عليه ترك البكور ؛ فهي زيادة زادها المصنف تفسيرا للحديث ، وقال : بعد قوله : وقد علمت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : غسل الجمعة . . . الحديث ، وكان يأمر بالغسل . أهـ .

قال العراقي : متفق عليه من حديث أبي هريرة ، ولم يسم البخاري في الصحيح ، حدثنا عبد الله بن محمد بن أسماء ، حدثنا جويرية ، عن الزهري ، عن سالم بن عبد الله ، عن أبيه عبد الله بن عمر أن عمر بن الخطاب بينما هو قائم في الخطبة يوم الجمعة إذ دخل رجل من المهاجرين الأولين من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فناداه عمر أية ساعة هذه ؟ قال : إني شغلت ، فلم أنقلب إلى أهلي حتى سمعت التأذين ، فلم أزد أن توضأت ، فقال : والوضوء أيضا ، وقد علمت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يأمر بالغسل ، وأخرجه مالك في الموطأ ، ومسلم ، عن يونس بن يزيد ، كلاهما عن الزهري ، وأخرجه الترمذي في الصلاة ، وقال البخاري أيضا : حدثنا أبو نعيم ، حدثنا شيبان ، عن يحيى ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة أن عمر - رضي الله عنه - بينما هو يخطب يوم الجمعة إذ دخل رجل ، فقال عمر : لم تحتبسون عن الصلاة ؟ فقال الرجل : ما هو إلا أن سمعت النداء توضأت ، فقال : ألم تسمعوا النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : إذا راح أحدكم إلى الجمعة فليغتسل . وأخرجه مسلم في الصلاة ، وأبو داود في الطهارة ، إلا أن لفظ مسلم : وقد علمت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل . ثم شرع المصنف في ذكر الأجوبة عن الأحاديث المتقدمة الدالة على الإيجاب ، فقال : (وقد عرف جواز الغسل بوضوء عثمان ) - رضي الله عنه - ، أي : ففيه رخصة فاستدل بهذه القصة على أنه غير واجب ، وأن الأمر به إنما هو للاستحباب ؛ لأن عثمان - رضي الله عنه - لم يغتسل ، وأقره على ذلك عمر

[ ص: 245 ] وسائر الصحابة الذين حضروا الخطبة ، وهم أهل الحل والعقد ، ولو كان واجبا لما تركه ، ولا لزموه به ، وقد استدل على ذلك الشافعي - رحمه الله تعالى - ، فقال في رواية أبي عبد الله : فلما علمنا أن عمر ، وعثمان قد علما أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بغسل يوم الجمعة ، فذكر عمر علمه وعلم عثمان ، ولم يغتسل عثمان ، ولم يخرج فيغتسل ، ولم يأمره عمر بذلك ، ولا أحد ممن حضرهما من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دل هذا على أن عمر ، وعثمان قد علما أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالغسل على الأحب لا على الإيجاب ، وكذلك - والله أعلم - دل على أن علم من سمع مخاطبة عمر ، وعثمان مثل عمر ، وعثمان . أهـ .

نقله البيهقي في المعرفة ، وذكر الطحاوي مثل ذلك ، وقال : ففيه إجماع منهم على نفي وجوب الغسل ، وقد اعترض ابن حزم على هذا الاستدلال ، فقال : يقال لهم : من لكم بأن عثمان لم يكن اغتسل في صدر يومه ، ومن لكم بأن عمر أمره بالرجوع للغسل ؟ قلنا : هبكم أنه لا دليل عندنا بهذا ، ولا دليل عندكم بخلافه ، فمن جعل دعواكم أولى من دعوى غيركم ، فالحق أن يبقى الخبر لا حجة فيه . هذا كلامه .

قال العراقي : وهو ضعيف جدا . أما الاحتمال الأول ، وهو أن يكون عثمان اغتسل في صدر يومه ذلك ، فهو مردود ، دل الحديث على خلافه ؛ لأن عمر أنكر على عثمان الاقتصار على الوضوء ، ولم يعتذر عثمان عن ذلك ، فلو كان اغتسل لاعتذر بذلك ، وذكره ، ولم يكن يتوجه عليه حينئذ إنكار ، وأما الاحتمال الثاني ، وهو أن يكون عمر أمره بالرجوع للغسل ، فهو مرفوع أيضا بأن الأصل خلافه ، فمن ادعاه فليقم الدليل عليه ، ولا يقال : سقط الدليل للاحتمال ؛ لأن ذلك إنما هو عند تكافؤ الاحتمالين ، فأما مع ترجيح أحدهما بوجه من وجوه الترجيحات ، فالعمل بالراجح ، وقد ترجح عدم أمره بذلك بأنه خلاف الأصل كما ذكرنا ، فيحتاج مثبته إلى بيان ، وإلا كان كاذبا مختلقا .

قال ابن حزم : وبيقين ندري أن عثمان قد أجاب عمر في إنكاره عليه ، وتعظيمه أمر الغسل بأحد أجوبة لا بد من أحدها . إما أن يقول له : قد كنت اغتسلت قبل خروجي إلى السوق ، وإما أن يقول : بي عذر مانع من الغسل ، أو يقول له : نسيت ، وها أنا ذا أرجع وأغتسل ، فداره كانت على باب المسجد مشهورة إلى الآن ، أو يقول له : سأغتسل ، فإن الغسل لليوم لا للصلاة ، فهذه أربعة أجوبة كلها موافقة لقولنا ، أو يقول له : هذا أمر ندب ، وليس فرضا ، وهذا الجواب موافق لقول خصومنا ، فليت شعري ما الذي جعل لهم التعليق بجواب واحد من جملة خمسة أجوبة كلها ممكن ، وكلها ليس في الخبر منها شيء أصلا . أهـ .

قال العراقي : قلت : الاحتمالات الثلاثة الأولى مردودة بأنها على خلاف الأصل ، والاحتمال الرابع سيأتي رده فيما بعد ، وقد روي أن عثمان ناظر عمر في ذلك بما دل على أن الأمر بالغسل ليس على الإيجاب ، والعموم ، وإنما هو على الاستحباب لأهل الخصوص المحافظين على جميع أفعال البر . رواه ابن أبي شيبة في مصنفه ، عن هشيم ، عن منصور ، عن ابن سيرين قال : أقبل رجل من المهاجرين يوم الجمعة ، فقال عمر : هل اغتسلت ؟ قال : لا . قال : لقد علمت أنا أمرنا بغير ذلك . قال الرجل : بم أمرتم ؟ قال : بالغسل . قال : أنتم معشر المهاجرين أم الناس ؟ قال : لا أدري . ثم رواه عن يزيد بن هارون ، عن هشام ، عن ابن سيرين ، عن ابن عباس قال : بينما عمر بن الخطاب يخطب قال . . . ثم ذكر نحوه لم يسق لفظه ، وقد رواه الطحاوي ، عن علي بن أبي شيبة ، عن يزيد بن هارون ، فساقه على غير هذه الرواية الأولى ، ولفظه عنده أن عمر بينما هو يخطب يوم الجمعة إذ أقبل رجل فدخل المسجد ، فقال له عمر : الآن حين توضأت ؟ فقال : ما زدت حين سمعت الأذان على أن توضأت حين سمعت النداء ، ثم أقبلت ، فقال : أما إنه قد علم أنا أمرنا بغير ذلك . قلت : وما هو ؟ قال : الغسل ، فقلت أنتم أيها المهاجرون الأولون أم الناس جميعا ؟ قال : لا أدري .

قال الخطابي : ولم تختلف الأمة أن صلاته مجزئة إذا لم يغتسل ، فلما لم يكن الغسل من شرط صحتها دل أنه استحباب كالاغتسال للعيد ، والإحرام الذي يقع الاغتسال فيه متقدما لسببه ، ولو كان واجبا لكان متأخرا عن سببه كالاغتسال للجنابة ، والحيض ، والنفاس . أهـ .

ويوافقه كلام ابن عبد البر فإنه قال : لا أعلم أحدا أوجب غسل الجمعة إلا

[ ص: 246 ] أهل الظاهر ، وهم مع ذلك يجيزون صلاة الجمعة دون الغسل لها . أهـ . وإنما صد أهل الظاهر عن القول بشرطيته أنهم يرونه لليوم ، فيصح عندهم فعله بعد صلاة الجمعة ، وذلك يدل على صحة الجمعة بدونه . والله أعلم .



(تنبيه) :

قال أبو بكر بن العربي : قال علماؤنا : لم يخرج عمر عثمان من المسجد للغسل لضيق الوقت ، وأنا أقول : إنما ذلك لأنه قد تلبس بالعبادة بشرطها ، فلا يتركها لأفضل من ذلك ، كما لو تيمم لعدم الماء ، ثم رآه في أثناء الصلاة ، ولو لم يكن كذلك لخرج ، واغتسل . قاله ابن القاسم ، وابن كنانة . أهـ .

قال العراقي : كلا الأمرين ضعيف ، وإنما لم يكلف الخروج للاغتسال ؛ لأنه مستحب ، وقد ضاق الوقت ، فضيق الوقت جزء علة ، وليس علة كاملة منفردة بالحكم ، فإنه لو كان واجبا لفعله ، وإن ضاق الوقت ، ولا سيما إن قيل : إنه شرط ، وكيف يقال : إنه تلبس بالعبادة مع كونه لم يشرع في الصلاة بعد . والله أعلم .




الخدمات العلمية